لجريدة عمان:
2025-07-27@16:45:04 GMT

الجسد المُعدل والموت الرمزي!

تاريخ النشر: 23rd, February 2025 GMT

لا يمكن للنساء أن يجتمعن اليوم دون أن يشغل الحديث عن «الجسد» حيزا من اهتمامهن، وكأنّ هنالك ما يجعلنا غير مُبتهجين بجلودنا الأصلية! أو كأنّ الجسد بضاعة ينبغي ألا تتقادم وإلا سترجم بنشازها عن الجوقة. إذ لم تعد وظيفة الجسد قاصرة على الاتصال وتمرير الدفء والتضامن، وإنّما «مكانٌ لإعادة ترتيب الهوية»، هذا ما يشير إليه دافـيد لوبروتون فـي كتابه المهم «أنثروبولوجيا الجسد والحداثة»، ت: محمد الحاج سالم، صفحة٧، والذي سأعرج على بعض أفكاره اللافتة.

فمع تعاظم النزعة الفردية، وفـي ظل تآكل المرجعيات والقيم، يقف الإنسان اليوم لينظر إلى الجسد الذي يدلـله المجتمع الاستهلاكي، بتلك الطريقة التي نظر بها من قبل لتمثال مثالي، بحثا عن جسد متخيل.

لقد تغيرت علاقتنا بمعنى الجسد، فبتنا مقيدين بأثقال اجتماعية تروجها وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل مُرعب ومحموم لمواكبة شرط العصر المضطرب.. كمال الأجسام، الحميات الغذائية، الفـيتامينات، مستحضرات التجميل، التجميل، وتغيير الجنس.. حيث يغدو جسدنا - فـي فوضى هذا العالم العصي عن الإدراك - وسيلتنا لإيجاد تعريف وهوية لأنفسنا.

فالجسد مُنغرسٌ فـي أعماق هوية الإنسان، «ولولا الجسد الذي يعطينا وجها لما كان لنا أن نوجد، فما عيش الإنسان سوى اختزال لهذا العالم من خلال ما تُضيفه أجسادنا عليه من رمزيات».

نُشاهد فـي اليوم الواحد على شاشة الهاتف وجوها ومنتجات وطرقا، كلها تُغذي نظرة واحدة: أن نبقى شبابا. أن تخلد صورتنا وأن يُمجد الجمال كما تقترحه وسائل الإعلام الحديثة، لا كما نبدو على حقيقتنا، فلم يعد الجسد علامة الفرد الذي يمنح العمق والحساسية، «فكلما تمركز الإنسان على نفسه زادت أهمية جسده حد الاستحواذ عليه».

فهذا الجسد يدخل ماراثون سباق غير منقطع - ولقد لاحظنا العديد من النساء لا يستطعن التنحي عن صهوة جياده الراكضة - فطغيان لذة المظهر عمل غير مُنتهٍ، مسألة تتعقد أكثر فأكثر عندما يُقاس عليها الرضا عن الذات أو الشعور بتحققها.

الجسد أفضل الطرق لفهم الحاضر، لفهم اللغز المُتجذر والعميق - وإن بدا لنا بديهيا- طبعا الجسد ليس باعتباره الشخص وإنّما «النسيج الرمزي»، فالظروف الاجتماعية والثقافـية هي التي تولد تصوراتنا بشأنه، لكنها أيضا تصورات تشوبها الضبابية.

لم يعد «الجسد» هوية ثابتة، لقد أصبح جزءا من دلالة اجتماعية شاسعة، وعليه سيُحجبُ الجسدُ الذي لا يتمكن من التكيف. فبعد أن كان الجسد مادتنا الأولية فـي علاقتنا بالعالم، أضحى اليوم مجرد اقتراح يمكن صقله بوسائل السوق المتجددة.

بل إن التقنيات الطبية انزلقت هي الأخرى -على حد تعبير لوبروتون- نحو التجميل على نحو مرعب. فالأمر لم يعد يتعلق بتثمين رضانا عن أجسادنا بل عن إمكانية تعديلها بصورة مستمرة. العصر الآن يتعامل مع الجسد باعتباره «أنا» أخرى جالبة لخيبة الأمل ما لم تُعدل طوال الوقت!

المفارقة التي يُشير لها لوبروتون بذكاء هي ظن الإنسان أنّه يعيش تحررا من صورة جسده الذي لا يحبه غير أنّه فـي حقيقة الأمر يُكابد تبعية مضنية ولاهثة لمعايير السوق الغامضة.

فلغة السوق الجديدة، تجعلنا نخجل من أجسادنا تلك التي بقيت على سجيتها، أمام طوفان صناعة كاملة للجسد. والنساء على وجه الخصوص يشعرن بأنّهن غير جديرات بالعيش ما دمن لا يواكبن التحولات، وبالتالي لا يحظين بالقبول!

وعلى سبيل المثال، لم يعد للبدينات مكان فـي عالم الإنسانية أمام الأجساد المنحوتة والمُعدلة بالكامل التي تُمطرها علينا وسائل الإعلام والسينما والبرامج، «فالبدينة لا تنحرفُ عن معايير الجاذبية وحسب وإنّما عن الأخلاقيات التي تجعلها مسؤولة عما آل إليه جسدها»، ولذا فهي تتعرض للوم وربما الازدراء!

إنّها المطاردة اللئيمة والمستمرة لتجميد جلودنا، رفضا لسطوة الزمن الذي يعبر فوقها دون رحمة. وكأنّ التجاعيد والبثور والاحمرار والنُدب والدهون هي دنس العصر الجديد. وكل واحدة منا مُهددة الآن«بالموت الرمزي».

لكن ماذا عن بصمتنا، ماذا عن فرادتنا وعلاماتنا؟ لماذا يتم تسخيف كل ذلك.. إنّنا حقا نكابدُ امحاء الجواني العميق فـينا فـي سبيل الخارجي الهش والمتداعي لا محالة!

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم یعد

إقرأ أيضاً:

من قلب +8: أسئلة مؤجلة من المستقبل عن الهوية والتنمية وروح المجتمع

أكتب هذه السطور من قلب طوكيو، حيث لا تزال رائحة المطر تتسلل إلى نوافذ الفنادق الزجاجية، والضوء البارد ينساب على الإسفلت كما لو أنه هارب من فكرة الزمن. لم أغادر بعد، ولا أظن أنني سأغادر فعليًا، حتى بعد مغادرة المكان، لأن الأسئلة التي استيقظت داخلي بعد هذه الرحلة الممتدة من سيول إلى طوكيو سترافقني طويلًا. هذه ليست زيارة عابرة لمنطقة جغرافية نائية عنا بأزيد من 17 ساعة طيران، بل هي اقتراب مؤلم من نموذج حضاري يبدو في ظاهره مثاليًا، ولكنه في جوهره يعاني من فراغ إنساني ساحق.
المشاركة في المنتدى العالمي للعلوم السياسية كانت مدخلاً فكريًا بامتياز للتفاعل مع نخب أكاديمية قادمة من مختلف بقاع الأرض. لكن التجربة الحقيقية بدأت خارج جدران القاعات: في المترو، في الأسواق النموذجية، في المطاعم، في الرفوف الصامتة للمكتبات، وفي نظرات الناس الذين يتحركون بآلية صارمة، كأنهم جزء من آلة أكبر من قدرتهم على الفهم أو الرفض. هناك شيء متوتر في الهواء، شيء لا يُقال، لكنه محسوس. هدوء مفرط يكاد يكون صاخبًا في دلالته.
تجربتي الثانية في كوريا الجنوبية، التي امتدت إلى اليابان هذه المرة، أتاحت لي فرصة عميقة لتأمل ما وراء الصور النمطية. في الظاهر، نحن أمام مجتمعات متقدمة تقنيًا، منظّمة إلى درجة الانبهار، ناجحة اقتصاديًا، أنيقة في شوارعها ونظيفة في سلوكها العام. ولكن، ما معنى كل هذا حين يغيب الإنسان كقيمة؟ حين يتحول المجتمع إلى مجرد فضاء هندسي دقيق خالٍ من الفوضى، ولكنه أيضًا خالٍ من الدفء؟ لقد لاحظت، من خلال تفاعلي اليومي مع المواطنين هنا، أن العلاقات الاجتماعية شبه متلاشية، لا وجود للعفوية، لا أثر للعلاقات المفتوحة، حتى السلام أو التحيّة أصبحتا من الكماليات. الفرد هنا منغلق على نفسه، متوجس من الآخر، حتى قبل أن يقترب منه. هذا التوجس ليس مجرد موقف ثقافي أو اجتماعي عابر، بل هو نتاج لتراكمات تاريخية عنيفة لا تزال تشتغل في اللاوعي الجمعي. اليابان تحديدًا تحمل في ذاكرتها الجمعية جروحًا لم تندمل بعد: قنبلة نووية أمريكية دمرت مدينتين، وأبقت الندبة غائرة في وعي الأمة، فأصبح كل اقتراب من الآخر مشروع تهديد، وأضحى الحذر هو القاعدة في بناء العلاقات الإنسانية. لا يتعلق الأمر فقط بالحرب، بل بالتصورات العميقة التي ترسخت حول معنى الوجود، ومعنى السلام، ومعنى الثقة.
ومن جهة اخرى لا يمكن الحديث عن البنية النفسية للمجتمع الياباني دون التوقف عند إحدى أخطر الظواهر: ظاهرة الانتحار. اليابان تتصدر منذ سنوات لائحة البلدان ذات أعلى معدلات الانتحار في العالم، ليس فقط بسبب الضغوط الاقتصادية أو المهنية كما يُشاع، بل نتيجة نمط وجودي قائم على العزلة، على غياب التواصل العاطفي، على تفكك مفهوم الأسرة، بل وأحيانًا على انعدامه. الناس هنا يموتون صامتين كما يعيشون. هل يُعقل أن ينهار الإنسان في حضن واحدة من أكثر الدول تقدمًا وتطورًا؟ هل تكفي التكنولوجيا لملء الفراغ الوجودي؟ وهل يكفي النظام لسد الحاجة إلى دفء انساني لا يُعوّض؟
إن المفارقة التي تنكشف هنا مؤلمة ومثيرة للدهشة في آن واحد: هذه الدول التي لطالما قُدّمت كنماذج تنموية رائدة، تعاني اليوم من تحديات وجودية عميقة. الشيخوخة الديمغرافية تزداد، نسبة الولادات تنهار، العزوف عن الزواج يرتفع، والرفض الجماعي للهجرة يعمّق الأزمة. الدولة التي لا تُعيد إنتاج المجتمع، ولا تجدّد ذاتها ديمغرافيًا، تكون أمام خطر الزوال الناعم، حتى وإن كانت تبدو على السطح قوية ومزدهرة.
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا يبقى: كيف يمكن لمجتمع متقدم، بلغ أعلى درجات التنظيم، أن يتحوّل إلى كيان هش على مستوى الروابط الاجتماعية؟ هل يمكن للفردانية المفرطة أن تبني أمة؟ وأين يذهب الإنسان حين يصبح النجاح الجماعي خاليًا من المعنى الفردي؟ ثم كيف نفهم هذا التناقض الفجّ بين البنية التحتية المتقدمة والبنية التحتية للروح التي تنهار بصمت؟ هل نعيش اليوم على أنقاض حداثة لم تفهم الإنسان؟ وهل نحن، في مجتمعاتنا المتوسطية بكل ما تحمله من فوضى وعفوية وعلاقات عائلية ممتدة، نعيش رغم كل شيء شكلًا من أشكال التوازن البديل، الذي يجب أن يُصان لا أن يُحتقر؟
رحلتي إلى كوريا الجنوبية واليابان كانت مناسبة لرؤية صورة الآخر من الداخل، ولرؤية أنفسنا من خلاله. لقد غادرت المسافة الجغرافية بيننا، لكنني اقتربت من مسافة أخرى، أعمق وأخطر: المسافة بين الإنسان وظلّه. وهذا ما يدفعني اليوم، وأنا لا أزال هنا، أن أكتب لا كسائح ينبهر، ولا كمثقف يدين، بل كإنسان يتساءل: من نحن؟ ومن هم؟ وإلى أين يمضي العالم حين تفقد الحضارة دلالتها، ويتحول التقدم إلى عبء، والنجاح إلى عزلة، والذاكرة إلى قيد؟ وهل في الإمكان بناء مستقبل مختلف لا يُقصي الإنسان باسم النظام، ولا يُغتال فيه الشعور باسم الصمت؟

الصورة مأخوذة من أعلى برج في اليابان هو برج طوكيو سكاي تري (Tokyo Skytree) بارتفاع: 634 متراً، وهو يُعد ثاني أعلى بناء في العالم بعد برج خليفة في دبي.

مقالات مشابهة

  • الإنسان من منظور اجتماعي
  • من قلب +8: أسئلة مؤجلة من المستقبل عن الهوية والتنمية وروح المجتمع
  • أعاني من الكسل في العبادة فما علاج ذلك؟.. الإفتاء تجيب
  • غزة بين نار الإبادة وصمت العالم
  • سيدة أجنبية تتخلص من حياتها داخل شقة بالعجوزة
  • ما الذي يطبخه توماس باراك بين سورية ولبنان؟
  • تحذير هام بشأن واقيات الشمس التي تستخدم “مرة واحدة في اليوم”
  • هدف عراقي عالي القيمة.. من هو الحرداني الذي قضى بضربة أمريكية؟
  • حتى تحتفظ بلياقتك.. كم عدد الخطوات التي تحتاجها حقا في اليوم؟
  • «إدارة الوقت مفتاح بناء الإنسان الناجح».. موضوع خطبة الجمعة اليوم 25 يوليو 2025