شلومو زند باحث وأكاديمي ومؤرّخ متميّز في خلفيته وتكوينه كما في إنتاجاته وطروحاته، لذلك فصوته مُقدّر مسموع؛ هو يهوديّ أوّلا، وهذا أمر مهمّ ومركزي في علاقته بكل ما سيأتي من عناصر التّميّز.

ولد في النّمسا من أبوين بولنديين نجيا من المحرقة النازية، وعاش معهما زمن الصّبا في معسكر النّاجين، وفيما بعد، ومن منطلق فكري، رفضا بشدّة أن يستفيدا من التّعويض الذي خصّصته ألمانيا لليهود النّاجين، وقد انتقل معهما إلى يافا عام 1948م حين احتلت، رغم أنّهما كانا معاديان للإمبريالية وبخلفية ماركسية، وفي هذا تعارض واضح بين النّظر والممارسة ! ومن مدرسة يافا طرد، ولم يعد إلى الدّراسة إلا بعد اجتيازه فترة الخدمة العسكرية الإجبارية.

انتسب مبكّرا لحركة مناوئة للصهيونية.

ومن جامعة تل أبيب انتقل إلى جامعة باريس للتّعمّق في تخصّصه بعد أن رفض منحة من الحزب الشيوعي الإسرائيلي للالتحاق ببولونيا لدراسة السّينما، وما هي سوى إلا سنوات قليلة حتى غدا أستاذا بباريس بعد حصوله على الدّكتوراه. هو ناشط ومنفتح على المثقفين الفلسطينيين وهمومهم الحقوقية والقومية والهوّيّاتية. كان صديقا للشّاعر محمود درويش، وقد أثمرت هذه الصّداقة قصيدة "جندي يحلم بالزّنبقة البيضاء"، وفيها يصوّر درويش حيرة شلومو "بين البقاء في إسرائيل وبين مغادرتها" وما يستتبع هذه الحيرة من مواقف.

هو اليوم مؤرّخ مشهور في كبريات الجامعات العالمية، وكتبه مطلوبة لدى كلّ مثقفي العالم، ومن أشهرها: اختراع الشّعب اليهودي، وكيف لم أعد يهوديا، واختراع أرض إسرائيل، وعرق متوهّم: تاريخ موجز لكراهية اليهود، وهو آخر إنتاجاته؛ إذ صدر بالعبرية عام 2020م، ثمّ نُقل إلى العربية عام 2024م بترجمة احترافية تعاون عليها كلّ من يحيى عبد الله وأميرة عمارة، ونشرتها دار مدارات التي تجتهد في الحفاظ على سمعة بنتها بهدوء. الكتاب يقع في 181 صفحة من القطع المتوسّطة، وهو في أصله مجموعة من المقالات المحرّرة ذات نسق ومنهجية أصيلين يليقان بمؤرّخ بقيمة شلومو الأكاديمية وتميّزه العلمي.

"معاداة السامية" مصطلح استحدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ذروة التصنيف البيولوجي على أساس العرق، وهي في نظر الكاتب "لا تعبّر عن جفوة معرفية حاسمة في تاريخ العداء لليهود، وإنما على مرحلة مهمة جديدة فيها"، وعلى هذا الأساس الكاتب يفضّل استعمال تعبير"كراهية اليهود" عوضا عن "معاداة السّامية"في البداية يعترف شلومو، في ديباجة كتابه المعنونة بـ"ملحوظات حول الكتابة الذّاتية"، بـ"أنّ استرجاع التّاريخ لا يمكن أن يكون إجراء موضوعيا"، لأنّ "كلّ كاتب للتاريخ مقيّد بروح العصر وبطبيعة المكان اللذين يحيا فيهما، وإذا كان منصفا فإنّه يتوجّب عليه أن يكتشف بقدر المستطاع الشحنات الذاتية التي تُرجّحُ موقفه من التّاريخ وتصوغه"، ومن ثمّ "فإنّ كلّ محاولة للتّظاهر بالتّجرّد من شأنها أن تكون نفاقا". ومن جملة أهم تحيّزاته التي لا يمكنه التّجرّد منها "عشقه اللغة العبرية" فبها فقط "يستطيع التّدقيق في أمور دون أن يندم"، كما أكّد، وبها "يحلم، ويفكّر، ويكتب". وبهذا يكون شلومو قد دشّن الاستهلال الصّحيح في منهجية بحثه.

وفي هذه الملحوظات، التي سجّلها في سبع صفحات يوضّح أموار كثيرة جديرة بالتّوقف عندها لأنّها أساسية في فهم تفاصيل الكتاب، يمكن تلخيصها في بضعة نقاط:

ـ نفور الكاتب من جور الأغلبية التي تفرض قوانينها على أقلية صغيرة ومهددة؛ وقد عاش اليهود ـ كما يشير ـ أنواعا شتى من "التغريب" و"الآخرية" ، ومن ثمّ "اضطروا لأن يعوا دائما وضعهم الخاص"؛

ـ الذصرانية هي التي صاغت تاريخيا طبيعة الأقلية اليهودية وسلوكها؛ فاليهودية ـ على هذا الأساس ـ "نتاج النظرة المؤسسة والمعادية من جانب الحضارة النّصرانية"؛

ـ العيش وسط جيران معادون دينيا، كما حدث في التجربة اليهودية، أنتج هويّة مغلقة وجامدة ومتوجّسة ومتعنّتة ومتحصّنة عقديا، رفضت استيعاب مستجدات الثقافة وإغواءاتها، وصدّت كل من حاول التّقرّب؛

ـ العداء تجاه اليهود لم يكن متماثلا في كلّ العصور، وشدّة النّفور اختلفت حسب الأماكن؛ ففي الحضارة الإسلامية وُجد تعاليا وليس كرها، سواء في التّشريع أو على مستوى الحياة اليومية؛

ـ "معاداة السامية" مصطلح استحدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ذروة التصنيف البيولوجي على أساس العرق، وهي في نظر الكاتب "لا تعبّر عن جفوة معرفية حاسمة في تاريخ العداء لليهود، وإنما على مرحلة مهمة جديدة فيها"، وعلى هذا الأساس الكاتب يفضّل استعمال تعبير"كراهية اليهود" عوضا عن "معاداة السّامية"؛

ـ ليست كراهية اليهود ـ أو رُهاب الأجانب بشكل عام ـ مرضا، رغم أنّ هذا الأخير متأصّل في السلوك الإنساني، وإنّما حالة، قد تزداد قوّتها حسب السّياقات الإيديولوجية وباقي الملابسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛

يختم شلومو "ملحوظاته" الدّقيقة بالسؤالين المهمين التاليين: "إلى أي مدى كانت الصهيونية، التي نشأت ردّ فعل على محنة الكراهية العصرية لليهود، مرآة لها؟" بمعنى من المعاني: "بأيّ قدر ورثت، عبر عمليّة دياليكتيكية معقدة، ركيزة أيديولوجية ميّزت مضطهدي اليهود منذ الأزل؟" وبسبب ذلك ـ وهذا هو السؤال التساؤل الثاني ـ إلى أيّ مدى ـ أيضا ـ ليست إسرائيل دولة ديمقراطية عصرية، وهل يمكن اعتبارها دولة إثنوـ دينية، وحتى إثنوـ بيولوجية؟

في آخر ورقة من الكتاب يسجّل الباحث ملحوظة يقول فيها بأنّه "لم يتعرّض لكراهية اليهود في الحضارة الإسلامية إلا قليلا بسبب قلّة الخبرة في هذا المجال". وهو اعتراف وتواضع يرفع من قيمته العلمية، طبعا إذا أحسنّا الظّن به، ولم نستخدم معه "منهجية الشّكّ"، لأنّنا على يقين بأنّ أية مقارنة يمكن أن يضعها بين حضور اليهود هنا وحضورهم هناك، كانت ستزيد من تسويد صورة الحضارة الغربية ـ التي ينتسب إليها ـ أثناء تعامل مع "الآخر" اليهودي. ألم يعترف هو نفسه بأن "الشحنات الذاتية التي ترجح موقف المؤرّخ من التاريخ وتصوغه" لا يمكنها أن تختفي بشكلّ تام مهما اقترب من "الموضوعية" ! وإذا احتفظنا بحسن ظنّنا فنرى ضرورة أن يخرج على النّاس بجزء ثان لكتابه يعالج هذا الذي قال عنه بأنّه "قليل الخبرة فيه".

يضمّ الكتاب أربعَ عشْرةَ مقالة تحت العناوين التالية: كبح التّهوّد ـ "شعب عرق" مشتّت أم جماعات دينية؟ ـ بداية العلاقات اليهودية ـ النّصرانية في أوربا ـ غرباء في الإنسانية: من إراسموس إلى فولتير ـ ثورة، انعتاق، وقومية ـ اليهود بين الرأسمالية والاشتراكية ـ تصنيف عرقي، دمقرطة وهجرة ـ قضيّة درايفوس وولادة الصّهيونية ـ إبادة "شعب العرق" اليهودي ـ انبعاث "شعب العرق" اليهودي ـ من هو اليهودي؟ من بصمات الأصابع حتى الحمض النووي ـ حرب 1967 ـ هل انحسرت الكراهية التقليدية لليهود؟ ـ معاداة الصهيونية؛ هل هي معاداة جديدة للسامية؟

وهذه العناوين المركّزة والقاصدة، بما تحمله من قضايا وإشكاليات، كافية لإقناع القارئ بأنّه أمام كتاب يحمل طروحات جديدة تستحق الانتباه وتستحقّ الدّعاية والتّرويج بين المهتمّين، طبعا بعد تفكيكها وتمحيصها.

يعترف الكاتب بأنّه ينتمي "لشعب يضطهد شعبا آخر"، وهذا ـ ربّما ـ هو ما جعله قلقا بين أن يبقى في "إسرائيل" أو يغادرها إلى مكان آخر، ثم يعترف أيضا بنسبية فهمه لظاهرة كراهية اليهود والأسباب التي أدّت إلى بقائها طيلة فترة طويلة جدا من الزّمن، مادام أنّ "تفكيك الذّرّة أسهل من تفكيك الأهواء" كما أشار بحق ألبرت أيشتاين..

صدّر شلومو كل مقالة من هذه المقالات بعبارة أو فقرة اختارها بعناية جعلها مفتاحا لما يودّ أن يحرّر القول فيها خلال الصّفحات الموالية؛ فنجده يستدعي نُكتة ييديشية من القرن الماضي، وريمون أرون؛ عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، وأحد النّقّاد اللاذعين للمجتمع الغربي وسلوكه خلال الحرب الباردة، والحاخام شمعون بن لاكيش، الذي كان يعتبر المتهوّد أحبّ إلى الرّب من أولئك الذين وقفوا على جبل سيناء لاعتبارات روحانية يذكرها، ورينان، وكافكا، والأب جريكور، وميشيل فوكو الذي انتبه إلى أنّ الشّق الأعظم من الاشتراكيين، قبل قضية درايفوس، كانوا عنصريين في أساسهم، وجان جيريدو، وإيميل زولا المدافع الأوّل عن درايفوس، وجورج أورويل، وقد ألمح إلى أنّ اليهود الصهاينة يبدون له في المجمل معادين للسامية بصورة عكسية! ورافائيل فالك، صاحب المحاضرة الشهيرة "الصهيونية وبيولوجية اليهود"، وموشيه ديّان وقد أعلن وهو منتشي بالانتصار عشية 7 يونيو 67 "أنّنا عدنا إلى أقدس أماكننا، عدنا كيلا نفترق عنها أبدا"، دون أن ينسى هتلر، إذ استدعى مقولة له يشير فيها إلى أنّ "اليهود شعب ذو سمات عرقية خاصة". وقد ختم هذه المختارات ـ كما بدأها ـ بنكتة يهودية تقول بأنّ "المعادي للسّامية اليوم هو شخص يكرهُه اليهود".

يطرح الكتاب أسئلة كثيرة، ولكنّ أهمهما هي: هل اليهود عرق خالص؟ وما الأسس التي انبنت عليها كراهية اليهود، خاصة في أوربا؟ وهل يمكن اعتبار معاداة الصهيونيّة ومناهضة سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين كراهية لليهود ومعاداة للساميّة؟

ينطلق سلومو بشجاعة الرّائد، وهو يحمل معه عدّته المنهجية التي يُلحّ على "موضوعيتها" دون ـ كما سبق الذّكر ـ أن يدّعي خلوّها من تحيّزات قد تكون غاية في الخفاء متشعّبة الاختلاط ـ في حدّها الأدنى ـ باللّغة، انطلق وهو يعي أن الطّريق الذي يسلكه والنّتائج التي سيخلص إليها ستجلب عليه استنكارا وغضبا من قبل جهات كثيرة في "إسرائيل" ومؤسسات صهيونية ويهودية متنفّذة في العالم،  لينبش في أصول كراهية الأوربيين لليهود، سواء على المستوى المؤسسات الرسمية؛ من كنيسة، وأنظمة ملكية وإقطاعية، وجمهورية لاحقا، وكذا على مستوى المفكّرين والمثقّفين وأهل الرّأي من مختلف الخلفيات والاتجاهات، ناهيك بالمستوى الشّعبي، وقد أرجع الكاتب أسباب هذه الكراهية ـ كما يلخّص القولَ مترجم الكتاب ـ "إلى أسباب عقدية، تتعلّق بإيمان الأوربيين النّصارى بأنّ اليهود هم قتلة يسوع النّاصري، وأسباب تتعلّق بطبيعة الشّخصية اليهودية ذاتها"؛ فهي شخصية مستغلّة للآخر غير اليهودي، متعالية عليه.

ويبقى أهم ما يمنح الكتاب قيمته تفنيده لبعض ما وسمه المفكّر الفرنسي روجيه غارودي بـ"الأساطير المؤسسة للصّهيونية"، مثل: "نفي اليهود من فلسطين على يد الرومان"، و"نقاء العرق اليهودي"، وتفريقه الحدّي بين ثُلاثيّة كره اليهود ومعاداة الصهيونية ومناهضة الممارسات الوحشية لإسرائيل ضد الفلسطينيين وانتهاجها نظام فصل عنصري شبيه بالذي كان سائدا في جنوب إفريقيا، ثمّ تأكيده أن كراهية اليهود في أوربا انحسر بشكل كبير لتعوّضه كراهية الإسلام والمسلمين. وسبب هذا "التعويض" واضح لديه؛ "فمن الصّعب ـ كما يقول ـ إنكار حقيقة أنّ كارهي الإسلام من الأوربيين يرونَ في دولة إسرائيل حصنا متقدّما للعالم"اليهودي المسيحي" الذي يقف بكلّ قوّة في مواجهة المدّ الإسلامي".

يختم الكاتب مقالاته بما يشبه جلدا للذّات، ولو بصيغة مخفّفة، فيعترف بأنّه ينتمي "لشعب يضطهد شعبا آخر"، وهذا ـ ربّما ـ هو ما جعله قلقا بين أن يبقى في "إسرائيل" أو يغادرها إلى مكان آخر، ثم يعترف أيضا بنسبية فهمه لظاهرة كراهية اليهود والأسباب التي أدّت إلى بقائها طيلة فترة طويلة جدا من الزّمن، مادام أنّ "تفكيك الذّرّة أسهل من تفكيك الأهواء" كما أشار بحق ألبرت أيشتاين.

*كاتب من المغرب

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الفلسطينيين الكتاب احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کراهیة الیهود التی ت

إقرأ أيضاً:

أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة

الرباط – يقدم كتاب "أوقاف المغاربة في القدس: وثيقة تاريخية سياسية قانونية" للعلامة والدبلوماسي المغربي الدكتور عبد الهادي التازي (1926 – 2015) رؤية متكاملة، يرصد من خلالها تاريخ الأوقاف التي أسسها المغاربة حول المسجد الأقصى، والتي شكلت أساسا لوجودهم الروحي والعمراني في المدينة على مدى قرون.

صدر هذا العمل المرجعي لأول مرة عام 1981 عن مطبعة فضالة بالمحمدية، لكن أُعيد طبعه سنة 2013 بعد تنقيحه وتطعيمه بصور حصرية ووثائق توثيقية لحارة المغاربة وتصميم غلاف جديد، بمبادرة من "المبادرة المغربية للدعم والنصر"، وبإذن ومراجعة من الكاتب رحمه الله.

طبع بعد ذلك مرات عدة آخرها سنة 2020، وهو يعتبر وثيقة توثيقية نادرة تجمع بين المعطى التاريخي والتحليل القانوني والسياسي.

أوقاف المغاربة كانت البداية

لا يكتفي الكتاب بتوثيق الأوقاف المغربية المحيطة بالمسجد الأقصى، بل يكشف من خلال تحليل دقيق كيف "أن الحروب المتوالية بين العرب وإسرائيل بدأت في الواقع في القدس من منطقة أوقاف المغاربة وبالذات من حائط البراق الذي يتصل بمنازل المغاربة"، على غرار ما حدث في كنيسة القيامة التي أشعل التنافس على ترميمها فتيل حرب القرم بين العثمانيين وروسيا عام 1856.

ويستعيد التازي هذا القياس التاريخي ليؤكد أن الاصطدام بين المشروع الصهيوني والوجود العربي لم يبدأ فقط في ساحات القتال أو مؤتمرات التقسيم، بل انطلق فعليا من القدس، وبالذات من أوقاف المغاربة، حيث بدأ النزاع حول هوية المكان ورمزيته الدينية.

عبدالهادي التازي أكاديمي ومؤرخ مغربي، ألف كتبا عديدة في التاريخ والسياسة والأدب (الجزيرة)سيرة الكاتب

الدكتور عبد الهادي التازي شخصية مغربية بارزة، ولد في فاس عام 1921، شارك في الحركة الوطنية منذ صغره، وتعرض للاعتقال والنفي.

يتمتع بمسيرة أكاديمية حافلة، فقد حصل على شهادة العالمية من جامعة القرويين عام 1947، ودبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس عام 1963، ودكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية عام 1971.

إعلان

وعلى الصعيد المهني، عمل أستاذا جامعيا ومحاضرا في العديد من المعاهد والكليات، كما شغل مناصب دبلوماسية منها سفير المغرب في دول عدة مثل العراق، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة وإيران، كما تولى أيضا إدارة المعهد الجامعي للبحث العلمي لمدة 20 عاما.

هو كاتب ومترجم غزير الإنتاج، نشر أكثر من 700 مقال وألف عشرات الكتب، وكان عضوا فاعلا في العديد من المجامع اللغوية والعلمية العربية والدولية، مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، والمجمع العلمي العراقي، وأكاديمية المملكة المغربية، وحصل على أوسمة تقديرية عدة من المغرب ودول أخرى.

محتويات الكتاب

الكتاب هو أطروحة رئيسية تتناول أوقاف المغاربة في القدس من الجوانب التاريخية والسياسية والقانونية، و10 ملاحق وثائقية توضح الأوقاف الأصلية، ومراسلات، وقرارات إدارية، واحتجاجات قانونية، ومراسلات دبلوماسية تعكس الموقف الرسمي تجاه الأوقاف.

يقول الباحث المغربي المتخصص في شؤون القدس محمد رضوان للجزيرة نت إن الكتاب بالرغم من صغر حجمه، واختصار مادته، يعد مرجعا مهما للتعرف على تاريخ علاقة المغاربة بالقدس وأوقافهم بهذه المدينة المباركة التي شدوا الرحال إليها للجهاد والعبادة والتعلم ونشر العلم والتصوف منذ زمن بعيد.

ويضيف "مع أن عبد الهادي التازي يوضح أن صفحات هذا الكتاب مقتبسة من كتابه المعروف "تاريخ المغرب الدبلوماسي"، إلا أنه يمثل فعلا وثيقة أساسية في موضوع أوقاف المغاربة بالقدس، لأنها تضم إيضاحات وإفادات جمة حول أبرز الأوقاف المغربية، ووظائفها والمستهدفين بريعها ومنافعها.

رضوان: كتاب أوقاف المغاربة يعد مرجعا مهما للتعرف على تاريخ علاقة المغاربة بالقدس وأوقافهم (الجزيرة)منهجية الكاتب

يعتمد الكاتب منهجا وثائقيا تاريخيا تحليليا يجمع بين دراسة الأرشيف العثماني، والمراسلات الرسمية، والوقفية الإسلامية، مع تتبع الأحداث السياسية التي أثرت على هذه الأوقاف.

ويمزج بين التوثيق القانوني والسياسي لتحليل دور الوقف في حماية الهوية الإسلامية للقدس، ويسلط الضوء على التداخل بين البعد الديني والاجتماعي والسياسي لهذه الأوقاف.

يتميز منهجه بالربط المتقن بين نصوص الوقف والتطورات السياسية التي مرت بها المدينة، مع إبراز دور المغاربة كحراس لهذه الأوقاف عبر القرون.

كما يولي أهمية خاصة للتفاصيل القانونية في حفظ حقوق الوقف وممتلكاته، ويظهر كيف استخدم الوقف أداة للحفاظ على الوجود الإسلامي في مواجهة التوسع الصهيوني.

القدس قبلة المغاربة

يركز الدكتور عبد الهادي التازي على أن العلاقة بين المغاربة والقدس بدأت من ارتباط روحي قوي، يتمثل في "شد الرحال" إلى المسجد الأقصى، الذي يعتبر من المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام، قبل أن تتطور العلاقة لاحقا لتشمل طلب العلم والمشاركة في الجهاد.

ويستعرض التازي من خلال وثائق نادرة مرور عدد كبير من الأعلام المغاربة الذين عرجوا على القدس طلبا للعلم ونقل المعرفة، مثل القاضي أبو بكر ابن العربي الذي رافق والده الإمام عبد الله في سفارته عام 490 هـ (1097م)، والقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم الذي شهد مجلسه الرحالة النقاد العبدري عام 686 هـ (1290-1291م)، وصولا إلى الرحالة ابن بطوطة وغيره من العلماء الذين ربطوا المغرب بمدينة القدس، مؤكدا بذلك أن العلم كان جسرا ثقافيا قويا.

إعلان

ويشير التازي كذلك إلى بُعد جهادي مهم، إذ يذكر أن صلاح الدين الأيوبي بعد فتح بيت المقدس عام 583هـ (1187-1188م)، طلب المساعدة من السلطان يعقوب المنصور عبر إرسال أسطول مغربي لدعم جهاد الشام ضد الصليبيين، رافق ذلك هدية ثمينة من صلاح الدين تضمنت مصحفين كريمين وعطور ا فاخرة، ما يعكس عمق الروابط الدبلوماسية.

واستقبل السلطان المنصور الوفد المغربي، وعلى رأسه السفير ابن منقذ، بحفاوة بالغة، معبرا عن تقديره للدور الذي يلعبه المغرب في الدفاع عن القدس، يعكس مستوى التعاون المتين بين السلطتين، والذي تخطى الجانب الثقافي ليشمل الأبعاد السياسية والعسكرية.

مجسم لحائط البراق وحارة المغاربة قبل أن يهدمها الاحتلال بالكامل بعد احتلاله شرق القدس والمسجد الأقصى عام 1967 (الجزيرة)حارة المغاربة

يرصد الدكتور عبد الهادي التازي أن أصل تسمية "حارة المغاربة" يعود إلى الدور النشيط للمقاتلين المغاربة الذين شاركوا في جيوش نور الدين الشهيد خلال الحملات ضد الصليبيين في أواخر القرن السادس الهجري (حوالي 578-581 هـ)، فهؤلاء المغاربة، كما يؤكد الرحالة ابن جبير، كانوا يدفعون ضرائب خاصة مستثنين من العوام، وهم لا يبالون بذلك نكاية في العدو، وهذا يؤشر على تميزهم ووجودهم الواضح في الأرض المقدسة.

وبعد الفتح الصلاحي، وفي عهد الملك الأفضل (589هـ)، خُصِّصت بقعة سكنية لهم قرب الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى، تأسست فيها مدرسة حملت اسمه، وهذا أدى إلى توسع الأوقاف المغربية في القدس وتحديد حدود واضحة لـ"حارة المغاربة".

وقد شهدت هذه الأوقاف وثائق رسمية متعددة، تم تجديد تسجيلها في القرون التالية، ما يعكس حرص المغاربة على تثبيت حضورهم العمراني والروحي.

في هذا السياق يقول الأكاديمي محمد رضوان "بعد أن تطرق التازي إلى الوقف المشهور المتمثل في البقعة التي حبسها الملك الأفضل في سنة 589هـ لفائدة المغاربة، وهي البقعة التي اعتادوا أن يجاوروها عند بيت المقدس قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم وفي أقرب مكان للمسجد الأقصى، يعرض عبد الهادي التازي للأوقاف التي حبسها المغاربة أنفسهم بالقدس ليستفيد منها أبناء طائفتهم المقيمون والوافدون من بلاد المغرب الكبير.

وفي الكتاب إشارة مهمة إلى أن المغاربة كانوا حريصين بصورة مبكرة على تملك العقارات في القدس وبجوارها أيضا، وتوقيف بعض تلك العقارات التي كانوا يشترونها من أصحابها، مما يدل على تعلقهم بهذه الديار منذ العصور الأولى.

ويضيف ما يتميز به كتاب التازي بهذا الخصوص، توقفه عند أبرز الأوقاف المغربية بالقدس، والمتمثلة في قرية عين كارم، وهي من قرى قضاء القدس، والتي حبسها العالم المتصوف أبو مدين شعيب، تلميذ سيدي صالح حرازم ودفين تلمسان، وأوقاف الشيخ العابد المجاهد عمر المجرد المصمودي بحارة المغاربة، وهي 3  دور، بالإضافة إلى زاوية تشتمل على 10 حجرات بجميع مرافقها، كذلك لم يغفل التازي وقفيات أفراد آخرين، وكذلك أوقاف بعض الملوك المغاربة تعبيرا عن تعلقه بتلك الرحاب.

ارتباط متين

وعلاوة على ذلك، فقد وثق التازي أن هذه الأوقاف تحوي نصوصا دقيقة تنظم شروط السكن والانتفاع وتمنع التفويت، مع تخصيص موارد للعبادة والكسوة والطعام خلال المواسم الدينية.

كما تظهر استمرار الدعم الرسمي الملكي المغربي، فخلال الحكم المريني في القرن الـ14 الميلادي (738 هـ/1337م)، خصص السلطان أبو الحسن علي بن عثمان مبالغ ضخمة لشراء أراض في القدس والحرمين الشريفين، مؤكدا إستراتيجية حماية الأراضي الإسلامية المقدسة من الاستحواذ الأجنبي.

كما نسخ الملوك المغاربة مصاحف يدوية فخمة ووقفوها في المسجد الأقصى، أبرزها "الربعة المغربية" التي كانت محفوظة بالمتحف الإسلامي حتى منتصف القرن الـ20.

إعلان

كما تشدد الوثائق على استمرار العلاقة الروحية العميقة بين المغاربة والقدس، حيث مثّل المسجد الأقصى مزارا بارزا للمغاربة، على غرار المراتب الدينية والروحية في المغرب نفسه، كما توضح قصائد وشهادات علماء مغاربة، مثل الفقيه إمام الدين البطائحي، الذين عبروا عن شوقهم وحبهم للقدس رغم بعد المسافات.

بالإضافة إلى ذلك، حافظ المغاربة على تقاليدهم وهويتهم في القدس عبر الأجيال، رغم امتزاجهم مع السكان المحليين، فقد ظل حي المغاربة مركزا نابضا بالحياة الإسلامية والثقافية في المدينة، محافظا على خصائصه وأوقافه، ومحاطا بالحائط الغربي (حائط البراق).

جذور النكسة

يبرز التازي أن "النكسة" بدأت ملامحها مع احتلال محمد علي باشا لمدينة القدس سنة 1831م، وهو حدث تاريخي مهم غيّر مسار الحكم العثماني وأتاح فرصا جديدة لتدخل القوى الأجنبية، إذ يشير إلى تأسيس أول قنصلية بريطانية في القدس، والتي لعبت دورا في حماية بعض اليهود، مما شكل نقطة تحول ديمغرافية وسياسية في المدينة.

واعتمد الكاتب في تحليله على توثيق هذه المرحلة من خلال الأمثلة الدقيقة، مثل محاولات بعض اليهود التوسع على حساب الأوقاف المغربية، مثل طلب تبليط ما يسمى في عقديتهم "المبكى" قرب حائط البراق، وكيف رفض مجلس الشورى ذلك حفاظا على حرمة الوقف الإسلامي، مشيرا إلى صدور أوامر رسمية تنص على منع تغيير الواقع المعهود.

كما بين الكاتب كيف أن تكاثر اليهود وظهور الصهاينة على الأرض المقدسية أدى إلى تعديات متكررة على أوقاف المغاربة، فقد وثق شكاوى وجهت إلى المفتي والمحكمة الشرعية، وأشار إلى القرارات الإدارية التي صدرت لمنع هذه التجاوزات.

في مقابل هذه الاعتداءات، بيّن الكاتب جهود المغاربة في الدفاع عن حقوقهم وأوقافهم عبر وسائل متعددة، بدءا من المرافعات الشرعية والقانونية، وصولا إلى التواصل الدبلوماسي مع الدولة المغربية التي أسست لجنة القدس عام 1975، لتعزيز الحماية السياسية والقانونية لأوقافهم في وجه التهديدات الإسرائيلية.

حارة المغاربة بجوار الحائط الغربي للمسجد الأقصى قبل أن يهدمها الاحتلال عام 1967 (الجزيرة)الملاحق العشرة

تحتوي هذه الملاحق العشرة على مجموعة ثمينة من الوثائق الرسمية والتاريخية التي تشكل دليلا واضحا على أبعاد الوقفية الخاصة بحي المغاربة في القدس، وهي تعكس تاريخا متجذرا يمتد لقرون، ويربط بين الجوانب الدينية والاجتماعية والقانونية لمكانة هذا الوقف.

تتراوح الملاحق بين نصوص أصلية للوقف، وأوامر رسمية في العصر العثماني والانتداب البريطاني، إلى اعتراضات المتولين الشرعيين في فترة الاحتلال الإسرائيلي. وتهدف هذه الملاحق إلى توثيق امتداد الوقف، وحمايته، والمخاطر التي تعرض لها عبر العقود.

يقول الأكاديمي محمد رضوان إن هذه الملاحق جاءت لتعزيز الجانب التوثيقي في هذا الموضوع، وهي عبارة عن رسوم (عقود) ونصوص لتلك الوقفيات، من بينها نص وثيقة وقف أبي مدين، ونص وثيقة المصمودي، والوثيقة المتضمنة لأمر حاكم الشام بعد تغيير وقفية أبي مدين، وقرار متولي أوقاف المغاربة بعدم الخضوع لتغيير المعهود.

لكن من أهم ملاحق هذا الكتاب الملحق السابع الذي يتضمن العقارات التي هُدّمت في حي المغاربة (وهو من أكبر أوقافهم) في صيف 1967م، وفي هذا الملحق بيان في وصف العقار، واسم ساكنه، وعدد غرفه.

معلومات عن الكتاب

العنوان: أوقاف المغاربة في القدس وثيقة تاريخية سياسية قانونية

المؤلف: الدكتور عبد الهادي التازي

الناشر: المبادرة المغربية للدعم والنصرة

تاريخ الطبع: 2020 عن شمس برينت – سلا

اللغة: العربية

الحجم: متوسط، عدد الصفحات 110

مقالات مشابهة

  • الصهاينة بأقنعتهم الثلاثة: اليهود، الإنجيلين، والصهاينة المسلمون.
  • لازاريني: إسرائيل تواصل إسكات الأصوات التي تُبلغ عن فظائعها في غزة
  • مفوض الأونروا: إسرائيل تواصل إسكات الأصوات التي تُبلغ عن فظائعها بغزة
  • لازاريني: "إسرائيل" تواصل إسكات الأصوات التي تُبلغ عن فظائعها بغزة
  • عاجل | رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري: الاستهداف المتعمد للصحفيين لا يحجب الفظائع التي ترتكبها إسرائيل بقطاع غزة
  • واذكر في كتاب المقاومة
  • بقت الإخوان اليهود.. عبد المنعم سعيد: إسرائيل داخله في مجال ضلال ديني
  • مبادرة اعلام بدون كراهية تقيم جلسة بعنوان “المونتاج بين الإبداع والتضليل
  • الجزائر تدين المخططات الصهيونية التي تستهدف مستقبل غزة
  • أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة