شواطىء.. الأنثروبولوجيا.. الإنسـان والعــالم (1)
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
جرت العادة أن يدرس علم الأنثروبولوجيا العلاقات الاجتماعية في مجموعة محدودة، آخذا في الاعتبار سياقها الجغرافي والتاريخي والسياسي، ولكن اليوم أصبح السياق كوكبياَ. أما بالنسبة للعلاقات فقد تغيرت طبيعتها وشكلها مع تطور تكنولوجيا الاتصالات التي تتدخل في إعادة ترسيم حدود السياق والعلاقات التي تتم فيه.
فكل إثنولوجيا في عصرنا هذا هي بالضرورة أنثروبولوجيا. وكذلك البعد الانعكاسي للملاحظة الأنثروبولوجية التي كانت دوماَ ذات أهمية قصوى، فقد اكتسبت حقيقة جديدة منذ أن انتمينا كلنا للعالم نفسه تحت عدة مظاهر، وفى الوقت نفسه ينتمي الملاحظ –أيا كان –إلى من يلاحظهم ويصبح مواطناَ مثلهم.
كان عالم الأنثروبولوجيا نفسه، أيا كانت درجه خروجه عن جذوره واضطراره للابتعاد عن أصوله، يحاول أن يوصل إلى من يخبرهم، أي من يستقى منهم المعلومات، أن ما يعتبرونه طبيعياَ وأكيدًا إنما هو ثقافي وإشكالي. فمن الآن وصاعداَ تكون مهمته الكبرى أن يأخذ على عاتقه هذه الرسالة الحرجة، ليس فقط في مجتمعة المحدود، بل أيضاَ في هذا الكيان المتنوع الذي نسميه العالم الشامل الذي ينتمي إليه مع الآخرين. فلم نكن يوماَ أحوج ما نكون إلى نظرة أنثروبولوجية ناقدة مثل اليوم. ولم تكن يوماَ هذه النظرة أصعب ما يكون مثل اليوم، بما أن معايير الطبيعي والأكيد قد تغيرت.
إن أولى المنافع التي يطالب بها الأنثروبولوجي تتعلق بتحري الدقة، بحيث يستطيع أن يتوصل إلى الانتباه إلى النظام الرمزي لمجموعة ما في المجتمع، وهذا النظام هو ما نطلق عليه أحيانا َلفظة (ثقافة)، ولكن هذا المفهوم للثقافة لا يعنى مجرد كيان من التمثيل، بل إن الثقافة هي نظرية الطبيعة، والقانون المدني، وطريقة استخدامه في الوقت نفسه.
والنظرة الأنثروبولوجية تأبى إلا أن تكون ناقدة تجاه كل ثقافة. فالأنثروبولوجي لا يكفي بالاستماع لكل ما يقال له، ولكنه يطلب أيضاَ أن يرى. فهو لا يخدع، فلا يشك في أحد معين، ولكنه يعرف بالتجربة أنه لا يوجد مجتمع بدون سلطة، ولا قانون اجتماعي يقوم على المساواة. وفى هذا الاتجاه تكون نظرته هادمة بالطبيعة، وتكون أولى مهامه على الأرض تعليم من يستقى منهم المعلومات بالتدريج، ومن خلال وجوده فقط، بل أيضاَ بملاحظاته والأسئلة التي يوجهها إليهم، وإلى حد ما اعتباطي. وهو يرى نفسه يعطى المعالجة نفسها، ويسأل بدوره "وعندك كيف يكون الأمر؟"، وما يمنعه ليس الفرق النسبي بين الثقافات، بل على الأحرى القاعدة المشتركة للتمثيل المتنوع التي تستخدمه.
ولأن النظرية الاجتماعية لم تأت من فراغ، ففي بعض المجموعات الإنسانية التي يمكن أن ندرسها، دائماَ ما توجد ثمره الملاحظة والتخمين الفكري، وعلى الأصح فإنها من البعد الاعتباطي للرمزية التي لاحظها شتراوس (منذ ظهور اللغة التي عرفها العالم )، ومن خلال الملاحظة الواعية والمبنية على الواقع، ومن هنا يأتي التناقض؛ مهما كانت مختلفة ومتنوعة، فإن الثقافات كانت دائماَ، في أعين الإثنولوجى الذي يلاحظها أو الذي يتعرف عليها من خلال أعمال زملائه، تبدو مألوفة بحيث يمكن مقاربتها والمقارنة بينها. وفى هذه النقطة تولد إمكانية عمل ليس فقط دراسة أنثروبولوجية مقارنة، بل أيضاَ أنثروبولوجيا نظرية. ونقصد بهذا أنه من حيث إن النظم المحلية تسأل عن أكبر الموضوعات الإشكالية (الحياة والموت، الميلاد، والوراثة، والعلاقة بين الرجل والمرأة،.. الخ)، وهي تهم كل تفكير فلسفي، بغض النظر عن الطابع المميز اجتماعياَ للإجابات عن الأسئلة المطروحة.
يقول البروفسور مارك أوجية أستاذ الأنثروبولوجيا الفرنسي في كتاب "الأنثروبولوجيا والعالم الشامل" والذي نقلته إلى العربية رانيا الحسيني والصادر حديثا عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة. لقد تحدثت مرة أو مرتين عن (الأنثروبولوجيا التحليلية)، ولكنني لم أكن أقصد أن أتحدث عن منهج، وذلك لأنه ببساطة غير موجود. وقد قلت لنفسي على سبيل الدعابة، إن أساس الأبعاد الأربعة المفضلة لدى الإنثولوجى (البنوة، والمصاهرة، والإقامة، والجيل)، بشرط أن نأخذها بمعناها الأشمل، يمكننا أن نلقى الضوء على الأفراد، وليس على المجموعات، حيث نستطيع تنظيم كلام كل فرد عن نفسه وتحليله، والذي ربما يقوله ليتخفف من الضغط النفسي، أو على سبيل الفضفضة، أو يلقى نظرة على ماضيه.
نظريا لدى كل متخصص في علم الأعراق مقدرة على الإنصات، تمكنه من مواجهة أحاديث قد لا يملك الوسائل الذهنية لتفسيرها. حينئذ يقع بين نقطة التقاء الرمزية الاجتماعية والخيال الفردي. فيجب عليه أن يعلمه ويدركه وأن يعرف أن يتوقف أمام ما يرتسم وما يتراءى له في أفق بحثه، الذي لا يكتمل فعلا إلا إذا نجح في تحديد مناطق فراغ، والخطوط التي فاتته، والآثار الدالة على عدم اكتماله. كما أن الطب النفسي الإثنولوجى، على ما يبدو، قد أنتج أعمالا مبهرة متمسكاَ بالملاحظة.
ولكي أكون أكثر دقة سوف أضيف ثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى، إننا نشهد اليوم، ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات، إفراطاَ في استعراض، بل تعرية النفس بشتى الطرق، وقد خلق هذا نوعاَ جديداَ من العلاقات عن طريق الشاشات، مما جعل في الوقت نفسه مسألة العلاقات مع الآخرين ومع النفس أكثر تعقيداَ. إن هذا الظهور المزدوج والإشكال يشكل موضوعاَ بحثياَ جديداَ ذا جوهر أنثروبولوجي.
الملاحظة الثانية، إن الأبحاث التي تخص علم الأعراق في هذا الموضوع لا نستطيع اختصارها إلى (إثنولوجيا الويب)، إن إعادة استخدام مفهوم (الحدث الاجتماعي الكامل) تفرض نفسها هنا. إذ يجب إعادة تعريف مفهوم السياق.
الملاحظة الثالثة، إنه يجب أن نحترس من الخلط بين الأنواع، وألا نخلط الدراسات المنتمية إلى إثنولوجيا الانغماس الضرورية والملاحظات الأكثر تفصيلاَ وعمقاَ في (إثنولوجيا اللقاء)، فالأخيرة يمكنها صياغة الافتراضات واقتراح البديهيات، لكن الرحلات الميدانية على المقارنات المتعلقة (بإثنولوجيا اللقاء) إلا بعد ممارسة طويلة للفرعين الآخرين، آخذين في الحسبان المعايير الأنثروبولوجية الكبرى. لكن نظرًا لعدم إمكانية ذلك، فقد نلجأ لعمل أبحاث وثائقية، أو تحقيقات صحفية عالية الجودة، لكنها ليست لها علاقة حقيقية بعلم الأنثروبولوجيا.
وللحديث بقية
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: شواطيء الأنثروبولوجيا الإنسـان والعــالم
إقرأ أيضاً:
فيلم السيد ك.. سريالية وكوميديا سوداء عن يوميات محاصرين في فندق معزول
يهتم الجمهور على مدار تاريخ السينما بذلك النوع من الأفلام الأكثر قربا منه وتعبيرا عن رغبته في المضي مع الشخصيات وهي تخوض مغامراتها أو وهي تكتشف ما هو جدير بالمتابعة وما ينطوي على الاختلاف والمفاجـآت لكن الأمر في بعض الأحيان يصل إلى درجة عالية من التبسيط والمباشرة كما في أفلام الحركة والعنف وبعض أفلام الإثارة.
أما في موازاة ذلك فهنالك نوع من الأفلام قد يساهم في تحريك ذهن المشاهد وتدفعه إلى التفكير والتحليل والاستنتاج وتخرجه من نمط ما هو سائد من أفلام ذات طابع تجاري وتنتهي نهايات سعيدة ترضي رغبات المشاهد وخاصة عندما تقدم نوعا من قصص المغامرات والتحولات المدعومة بكثافة في الجانب البصري من خدع ومؤثرات وتقنيات صارت سائدة في العالم الرقمي.
هنا يمكننا أن نتوقف عند هذا الفيلم للمخرجة النرويجية تالولا شواب وهو فيلمها الروائي الطويل الرابع، حيث تقدم لنا فيلما مختلفا على كافة الأصعدة من الفكرة إلى المعالجة والأحداث والشخصيات، فببساطة شديدة ها نحن مع "ك" الذي هو ساحر يستمتع بعمله متنقلا بين المدن لتقديم الفعاليات السحرية أمام الجمهور وخلال ذلك يقرر المكوث في أحد الفنادق ليقضي ليلته وهو في طريقه إلى مدينة أخرى، لكن ما جرى بعد ذلك هو الاستثناء الكامل.
وإذا بدأنا من المكان- الفندق، فإنه وهو يحاول مغادرته لا يجد الباب نفسه الذي دخل منه ويجد صعوبة في التعرف على مداخل ومخارج المكان، أي أنه يجد نفسه وهو حبيس المكان ثم ليدخل في دوامة مع متغيرات غرائبية، إذ يجد رجلا نائما في غرفته في الفندق تحت إحدى الطاولات ثم يجد عاملة في الفندق مختبئة في خزانة الملابس، ومن هذه الغرائبية والكوميديا السوداء سوف نكمل الرحلة مع جوق موسيقي يخرج من مدخل مجهول ليجول في ممرات الفندق وطوابقه ثم ليجد "ك" نفسه وسط حشد من الطهاة يدخلونه في العمل مباشرة فيما هو يحاول أن يشرح لهم انه مجرد نزيل ويريد منهم أن يدلونه على باب الخروج لا أكثر.
هذه الحلقة في البناء السردي ما تلبث أن تتكامل مع حلقة أخرى، إذ يعبر رئيس الطهاة - يقوم بالدور الممثل بجورن سنديكويست، عن سعادته بانضمام "ك" إلى مساعديه ويتوسل إليه أن يمارس عمله في تحضير الطعام لكنه يكتشف مجموعة طهاة متخصصين في فقس البيض وطبخه وهو يعجز عن العثور على تفسير لماذا كل هذا البيض.
على الجانب الآخر سوف يعثر "ك" على عجوزين تتشابهان مثل توأمين، ويفرحه أنهما مقيمتان في الفندق ولهذا يستبشر خيرا انه سوف ينضم إليهما في اليوم التالي عند المغادرة لكنهما تخبرانه فجأة انهما سعيدتان في الإقامة في هذا المكان وأن ليس في نيتهما الخروج منه.
أما الغرائبية الموازية فهي التي تجعل "ك" يعيش في دوامة مكانية تنتهي باستنتاج أن ذلك المكان يتعرض إلى قوة ما تجعل جدرانه تقترب من بعضها وانه جرّب ذلك عندما ربط حبلا بين جدارين، وفي اليوم التالي وجد أن الحبل المشدود قد ارتخي وهو ما سوف يخبر به الطهاة فيصاب الجميع بالدهشة ويعلنون "ك" منقذا لهم وينتشر اسم المنقذ مخطوطا على الجدران ثم رفعه على الأكتاف والهتاف له.
هذه الإحالات وما تلاها من أحداث مشحونة بالصخب والفوضى والتيه تعيدنا إلى نوع من التجريبية والسريالية السينمائية وبذلك غادر الفيلم القيود الزمانية والمكانية وحتى على صعيد الحبكة والبناء الفيلمي.
وبصدد هذه الأحداث الغرائبية وفي قراءتها للفيلم تقول الناقدة امبير ويلكنسون في موقع سكرين ديلي: " إذا كان هناك ما يميز هذا الفيلم الوجودي المركب انه ابتداء من عنوانه فيه إشارة واضحة إلى فرانز كافكا وبطله المحبط في روايته الأخيرة "القلعة".
أما من حيث العبثية المفرطة، فيتشابه الفيلم مع أعمال صموئيل بيكيت إلى حد كبير، ويعود الفضل في ذلك إلى نوع الكوميديا السوداء وتوظيفها في هذا الفيلم من خلال شخصية "ك" نفسه، الذي يجد نفسه، بعد تسجيل دخوله في فندق واكتشافه أنه لا يستطيع المغادرة أبدا، خاصة أن الفوضى ليست أمرا معتادا بالنسبة له فهو ساحر بالمهنة، يُرى لفترة وجيزة وهو يؤدي على خشبة المسرح، متحكما في عالمه الصغير.
ها هو "ك" يُعلن عن نفسه بأنه "لا أحد"، ولكن بينما هو يبدأ برسم مخارج ومداخل الفندق على أمل العثور على سبيل آمن للخروج، فإنه يعمل على مخطط معقد لرسم خريطة لممرات الفندق، فيما هو يدرك أن الجدران قد تنغلق عليه تدريجيا،
ليحيلنا إلى نوع من المحاكاة لرهاب الأماكن المغلقة الذي بدأ يحركه في من هم حوله حتى يشعرون به ومن ثم إسقاطه على الجمهور.
من جهة أخرى ما تلبث المخرجة أن توسع من دائرة الأزمة ومن ذلك الجحيم المكاني السريالي المغلق، ولهذا فإن الأزمة لن تقتصر على أن "ك" هو الوحيد العالق في هذا الكابوس، بل يجري زج شخصيات أخرى كانت قد اتخذت من الفندق مقرا لها، ثم تتكشف سلسلة من المبالغات التي خلاصتها أن معظمهم لم يخرجوا من الفندق منذ سنوات.
لقد اعتادوا تماما على حياتهم، سواء بالعمل الشاق كطهاة في مطبخ ملحق بالفندق، أو كونهم من النخبة الثرية التي تُقيم بين ليلة وأخرى حفلة صاخبة، أو ببساطة أنهم يعيشون أيامهم كنزلاء مرتاحين وراضين عن وضعهم.
هنا يتم طمس عنصر الزمن من وجهة نظر الشخصيات وخاصة بالنسبة لـ"ك" إذ لا يوجد مفهوم للوقت في المقاييس المعتادة في ذلك المكان المغلق، مما يُفاقم غرابة الفندق وسكانه، وهو ما يفاقم من أزمة "ك" ولهذا نجده وهو يغرق في حالة من الهذيان، ويغيب عن باله وجود مخرج يفضي به إلى مكان آخر، بل صار مستجيبا لتوسلات رئيس الطهاة بوصفه منقذا، ولهذا سوف يستجيب لتوسلاته ويشرع في اكتساب صفات الطاهي المتمرس لكنه سرعان ما يبدأ بالعودة إلى طبيعته المعهودة، إذ يبدأ برسم خريطة للفندق بنقوش على الجدران في محاولة يائسة لفهم ما يحدث من حوله، وينتهي به الأمر بتمزيق ورق الحائط ليكشف عن مخلوق غريب حيّ ويتنفس ولكنه متشعب مثل أخطبوط عبر الجدران.
والحاصل أن "ك"، هو تجسيد لأزمة كائن منفصل عن الواقع بالألعاب السحرية ليجد نفسه في دائرة هذيانية وتخريفات مثل مصاب بالحمى وصولا إلى دراما مليئة بمشاهد سريالية تُذكرنا بالمشاهد التي غالبا ما صوّرها ديفيد لينش، ممزوجةً بعناصر خيال علمي غريبة وغير قابلة للتفسير، بالإضافة إلى كونها مشاهد فيها مقاربات كثيفة للكوابيس البشرية القاتمة على طريقة كافكا حتى أصبح الفيلم أكثر تجريبية بطريقة تبدو في بعض الأحيان غير مفهومة للجمهور وعليه أن يحلل ويستنتج ويقيم سلسلة من الافتراضات ثم ليدخل في دوامة سريالية فانطازية جديدة طيلة المساحة الزمنية لهذا الفيلم.
...
سيناريو واخراج/ تالولا شواب
تمثيل/ كريسبين كلوفر في دور "ك"، بجورن سنديكويست في دور الشيف، فيونولا فلاناغان وديربلا مولوي في دوري الشقيقتين، ساني ميليس في دور غاغا، جان غونار رويس في دور أنطون.
مدير التصوير/ فرانك كريب
مونتاج/ مارتن جانسن
التقييم/ روتين توماتو 80%، أي أم دي بي 7 من 10، سي جي 4 من 5