••ليس منطقيا أن يكون الصدام أو العنف هو الحل الأمثل في مواجهة التحولات التي تشهدها القيم والعادات والتقاليد في أي مجتمع من المجتمعات، وهذه القيم تواجه في الوقت الراهن تحديات كبرى بسبب المتغيرات التي يشهدها العالم الذي نعيشه بما في ذلك صراع الأجيال وثورة المعلومات والصراعات النفسية التي يمر بها الشباب والمراهقين في مرحلة شديدة الحساسية لبناء الذات.

قد يقود الصدام إلى مستوى أخطر من التحول يصعب علاجه أو مواجهته، الأمر الذي يفرض علينا البحث عن حلول أخرى لبناء ثنائية الأصالة والمعاصرة. يبدأ هذا الأمر في قراءة الظواهر التي تنتشر في مجتمع من المجتمعات قراءة دقيقة في سياقها الصحيح وربطها بما حولها من مؤثرات.

•يبدو موضوع القيم والعادات والتقاليد شديد الحساسية بالنظر إلى كونه المنظومة التي تعكس هُوية الشعب وتحدد إطاره الأخلاقي والاجتماعي. لكن من الصعب الاعتقاد أن هذه المنظومة ثابتة لا تتغير أو أنها بمنأى عن المتغيرات التي تحدث في العالم لأنها في الحقيقة ووفق الدراسات العلمية ووفق منطق الأشياء تخضع للتحولات الطبيعية التي تفرضها تطورات الزمن. ولا تكمن الإشكالية في حدوث التغيير أو التحول ولكن في نوعية ذلك التحول، وهل يتم وفق عملية تطور طبيعي يحافظ على جوهر القيم ويعيد صياغتها بما يتناسب مع العصر، أم أنه انزياح يبتعد عن الأسس التي قامت عليها المجتمعات؟

•في العقود الأخيرة، شهد مجتمعنا تغيرات واضحة في أنماط الحياة، بفعل التطور التكنولوجي والانفتاح الإعلامي، إضافة إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية. هذه التغيرات أفرزت أجيالا تحمل رؤى مختلفة عن الأجيال السابقة، حيث بات الشباب أكثر ميلا للحداثة والتقليد، وأكثر تحررا في سلوكهم وخياراتهم، ما أدى إلى تصادم، أحيانا، بين القيم التقليدية والممارسات الجديدة.

•لكن المشكلة ليست في التغيير بحد ذاته، وإنما في طبيعته؛ ففي الوقت الذي يفترض أن تسير التحولات نحو تعزيز القيم الإيجابية وتجديدها بما يخدم تطور المجتمع، نجد أن بعض الانزياحات تأخذ مسارا يؤدي إلى تراجع الأخلاق العامة، وتفكك الروابط الأسرية، وانحسار روح المسؤولية الاجتماعية. هذه المظاهر لا تمثل تطورا، بل تعكس خللا في التوازن بين الحاجة إلى التحديث والحفاظ على القيم الراسخة.

•والأمم لا تبني مستقبلها بالتخلي عن تراثها وهويتها، بل من خلال تطوير منظومة قيمية تجمع بين الأصالة والتجديد. فالحداثة الحقيقية ليست في نبذ العادات والتقاليد، وإنما في إعادة قراءتها وفق متطلبات العصر، بحيث تبقى الأخلاق، والاحترام، والانتماء الوطني، وحس المسؤولية، مبادئ غير قابلة للتلاشي.

•الحل الأمثل في مثل هذه التحديات التي تواجه المجتمعات هو في إدارتها، إدارة التغيير ذاته، وفي بناء وعي مختلف عند الشباب والمراهقين الذين يقودون هذه الانزياحات عن النماذج الثابتة التي تقرها المجتمعات، وهذا الأمر يحتاج إلى جهد وطني جماعي تشترك فيه الأسرة والمجتمع المحلي والمساجد والمدارس والأندية الرياضية وبشكل خاص الفرق الرياضية الموجودة في الحارات والتي لديها قدرة تأثير غير ملتفت لها حتى الآن.

•على سبيل المثال كان يمكن أن تقوم هذه الفرق الرياضية بتنظيم فعاليات متنوعة في ليلة النصف من رمضان مرتبطة بمنظومة المجتمع وقيمه ولا تترك فرصة للشباب والمراهقين للخروج عليها عبر ممارسة سلوكيات يرفضها المجتمع ولا تتناسب حتى مع روحانيات الشهر الفضيل. هذا الأمر طبقته بعض الولايات وحقق نجاحا كبيرا بل إن الصورة الذهنية التي رسمها خرجت من إطارها العماني إلى العربي حيث تم تناقلها والإشادة بها.

•موضوع إدارة التغيير مهمة جدا وفارقة في القدرة على ترسيخ الحدث في الوعي والوجدان، لكن أيضا يحتاج الأمر إلى إرادة مجتمعية، كل مؤسسات المجتمع، من أجل النجاح والاستمرار.

•ولا بد من القول إن قوة المجتمع في قدرته في إدارة التغيير وفي الموازنة بين الأصالة والمعاصرة وفي توجيه أجياله نحو المستقبل دون أن يفقد جذوره، وأيضان دون أن يفقدهم عبر تمردهم عليه. والتغيير سنة الحياة، لكن الوجهة التي يسلكها هذا التغيير هي ما يحدد مصير الشعوب والأمم.•

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لماذا لم تتفاعل تونس مع التغيير السياسي في سوريا؟

رغم مرور أكثر من 6 أشهر على سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وتشكّل حكومة جديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تواصل تونس صمتها الرسمي تجاه هذا التحول السياسي المفصلي، في وقت سارعت فيه معظم الدول العربية إلى إعلان مواقف واضحة، تفاوتت بين الترحيب الحذر والدعم وإعادة تطبيع العلاقات.

وباستثناء البيان الصادر عن الخارجية التونسية في اليوم الثاني لسقوط النظام، الذي أكدت فيه أهمية وحدة سوريا، وسلامة أراضيها واحترام إرادة شعبها، فإن تونس لم تبد حتى الآن أي تفاعل سياسي مباشر مع التغيير الجوهري الذي شهدته سوريا، فلا بيان رسمي، ولا تهنئة، ولا مؤشرات على نية إعادة العلاقات الدبلوماسية.

في ضوء ذلك يطرح هذا التقرير تساؤلا محوريا: لماذا لا تتفاعل تونس مع التغيير السياسي الجديد في سوريا؟ وهل يعكس هذا الغياب نهجا دبلوماسيا محسوبا يرتكز على التريث وعدم التسرع؟ أم أنه انعكاس لحالة انشغال داخلي ترك الملف السوري خارج أولويات السياسة الخارجية؟

محللون يرون تردد تونس في إقامة علاقات مع العهد الجديد في سوريا يعكس امتدادا للتحالف مع الأسد (الفرنسية) تونس ونظام الأسد قبل السقوط

بينما يأتي الصمت التونسي تجاه التغيير السياسي في سوريا وليد الحياد أو التريث الدبلوماسي بحسب أنصار الحكومة، يعكس وفق مراقبين وناقدين للسياسة الخارجية التونسية، امتدادا لتحالف سياسي سابق بين نظام الرئيس قيس سعيد والنظام السوري المخلوع، إذ شهدت العلاقات بين الطرفين تقاربا لافتا في السنوات الأخيرة، بلغ ذروته بلقاء مباشر جمع سعيّد ببشار الأسد على هامش القمة العربية في جدة عام 2023.

وكانت تونس من أوائل الدول التي أغلقت سفارتها في دمشق مطلع سنة 2012، إلا أن الوضع تغير مع انفراد سعيد بالحكم في صيف 2021، إذ سارعت تونس إلى مد يدها للنظام السوري السابق في مسعى لفك عزلته، وفي سنة 2022، التقى سعيد بوزير خارجية الأسد فيصل المقداد، على هامش زيارتهما إلى الجزائر بمناسبة الذكرى الـ60 للاستقلال، وطلب منه نقل تحياته إلى بشار الأسد.

وبعد عام من هذا اللقاء، قرر قيس سعيد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي في سوريا وإعادة فتح السفارة التونسية في دمشق، مجددا تأكيد وقوف بلاده إلى جانب دمشق في وجه من يصفهم بـ"قوى الظلام والساعين إلى تقسيم هذا البلد العربي".

إعلان

واستمر الموقف التونسي الداعم لنظام الأسد المخلوع إلى أيام معركة "ردع العدوان"، إذ تبنى الرئيس سعيد رواية النظام، وعبّر عن إدانته الشديدة لما اعتبرها "الهجمات الإرهابية التي استهدفت شمال سوريا"، معلنا تضامنه مع النظام السوري، داعيا المجموعة الدولية إلى "مساندة هذا البلد الشقيق، حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه".

ولم يمر يوم واحد على سقوط الأسد، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، حتى عدلت تونس بوصلة موقفها الرسمي 180 درجة عبر بيان أصدرته خارجيتها، معربة عن "احترامها أن يختار الشعب السوري مصيره بنفسه بمنأى عن أي شكل من أشكال التدخل الخارجي".

الخوف من التجربة السورية

رغم أن الرئيس التونسي، قيس سعيد، وصل إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، في واحدة من أبرز تجارب الربيع العربي الديمقراطية، فإن استفراده بالحكم لاحقا وسط انتقادات واسعة له بتجاوز صلاحياته وقمع الحياة السياسية، بالإضافة غلى مواقفه اللاحقة، كشفت عن موقف متوجّس من نجاح ثورات الربيع العربي، حيث هاجم ما سماه "الفوضى" و"المؤامرات الخارجية".

من هذا المنطلق، يرى مراقبون أنه ليس مستغربا أن يقف سعيد موقف المتفرّج تجاه تجربة التغيير السياسي في سوريا، لا سيما أنها جاءت خارج الأطر التي تروق له، وعبّرت عن مناخ تحرري لا يتوافق مع نهجه.

ويرى الباحث التونسي الطيب غيلوفي أن سعيّد وقف "ضد الربيع العربي منذ البداية"، رغم أنه أحد نتاجاته، وقد أغلق قوس الانتقال الديمقراطي الذي أوصله إلى الحكم.

ويشير غيلوفي في حديثه للجزيرة نت إلى أن سعيّد والأسد يتشابهان في رفضهما لمطالب الثورات، وإن اختلفت الوسائل، مضيفا "الأسد واجهها بالقمع الدموي، وسعيّد بتجميد المؤسسات والانقلاب على دستور الثورة".

ولفت غيلوفي إلى أن هناك بعدا آخر يفسر التحفظ التونسي من السلطة الجديدة في سوريا، يرتبط بموقف سعيد من "الإسلام السياسي"، الذي يعارضه كمنافس على الحكم لا كتوجه فكري أوديني، لذلك لم يلجأ إلى استئصال الإسلاميين بل واجههم كخصوم سياسيين.

إعلان

وفي تقرير نشرته فايننشال تايمز في ديسمبر/كانون الثاني 2024، أكدت الصحيفة أن دولا عربية من بينها تونس حذرت من المخاطر المحتملة بعد سقوط الأسد، مستشهدة بتجارب فاشلة في مصر وليبيا، وأشارت الصحيفة إلى أن تونس ترى في نجاح أي نموذج ديمقراطي تحديا قد يسهم في تقويض الاستقرار الداخلي.

ضبابية في السياسة الخارجية التونسية

اتسمت السياسة الخارجية التونسية منذ صعود الرئيس قيس سعيد للحكم عام 2019 بحالة من الغموض، وميلا نحو الانكفاء تجاه القضايا العربية والإقليمية الكبرى، كالموقف من الأزمة الليبية مثلا، والموقف من الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي.

ويعتبر الموقف الرسمي تجاه التغيرات العميقة السريعة التي عصفت بنظام الأسد الذي كان النظام التونسي الحالي يقف في صفه أحد عناصر الارتكاز التي يؤسس عليها بعض المراقبين نظرتهم النقدية تجاه سياسة تونس الخارجية المرتبكة، في حين يرى مناصرو الحكومة التونسية أن هذا الموقف يعكس تريثا مدروسا واتباعا لعرف دبلوماسي تونسي بعدم التدخل في شؤون الدول.

في هذا السياق، يقول المحلل التونسي صلاح الدين الجورشي للجزيرة نت إن السياسة الخارجية التونسية وجدت نفسها "في التسلل" عند سقوط نظام الأسد بتلك السرعة، موضحا أنها لم تكن تملك لا بعدا استشرافيا ولا معلومات كافية حول إمكانية حدوث هذا التغيير العميق في سوريا.

وبالنسبة للباحث الجورشي، فقد عكس البيان الرسمي تجاه سقوط الأسد على يد هيئة تحرير الشام "موقفا باهتا وباردا لأن السلطة السياسية التونسية كانت تحت وقع الصدمة ومتفاجئة من وقوع السلطة في دمشق بيد مجموعات كان يعتبرها الموقف الرسمي "إرهابية ومارقة عن القانون".

بدوره، يُفسّر الصحفي التونسي رياض ساكمة هذا الموقف بأنه نابع من حرص تونس على ثوابت سياستها الخارجية، التي تأسست منذ الاستقلال على عدم التدخل وتجنّب التسرع والحفاظ على لغة دبلوماسية متوازنة.

إعلان

وينوه سكمة في حديثه للجزيرة نت أن تغيّرا مفاجئا مثل الذي حدث في سوريا يدفع تونس إلى التريث، تفاديا لأي موقف قد يضر بمصالحها أو علاقاتها المستقبلية، خاصة في ظل استمرار الصراع وغموض المشهد على حد قوله.

وكانت الخارجية التونسية أكدت في بيانها الصادر في التاسع من ديسمبر/كانون الأول على ضرورة التفريق بين الدولة من جهة والنظام السياسي القائم داخلها من جهة أخرى، فالنظام السياسي هو شأن سوري خالص يختاره الشعب السوري صاحب السيادة، فهو وحده الذي له الحقّ في تقرير مصيره بنفسه بمنأى عن أي شكل من أشكال التدخل الخارجي.

هاجس الجهاديين التونسيين

ويمثّل ملف المقاتلين التونسيين الذين التحقوا ببعض المجموعات المسلحة في سوريا أحد أكثر الملفات حساسية بين دمشق وتونس.

فقد شكّل التونسيون النسبة الأعلى من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية وجماعات أخرى، وهو ما جعل -بحسب مراقبين- أي حديث عن تقارب تونسي مع الإدارة السورية الجديدة محاطا بأسئلة صعبة تتعلق بالمحاسبة والتسليم والموقف من العائدين.

ومع انهيار نظام الأسد، وتحرر بعض المعتقلين من السجون، برزت مخاوف في تونس من عودة هؤلاء "المقاتلين" إلى البلاد دون رقابة أو محاسبة، بحسب ما أشار إليه الصحفي التونسي رياض ساكمة، الذي يرى أن هذا التطور يزيد من تعقيد المشهد الأمني، رغم تأكيده على جاهزية الجيش والأمن التونسي للتعامل مع أي تهديد محتمل، سواء أكان فرديا أو جماعيا.

في المقابل، يقلل الباحث التونسي الطيب غيلوفي من حجم هذا التهديد، ويرى أن الملف لا يشكل عائقا جوهريا أمام إعادة تطبيع العلاقات. ويشير إلى أن معظم المقاتلين التونسيين كانوا ضمن تنظيم الدولة، ويقبعون حاليا في سجون قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بينما لا يشكّل من قاتل مع هيئة تحرير الشام عددا ذا شأن.

ويضيف أن قبول الولايات المتحدة بدمج فصائل المعارضة في ترتيبات أمنية مع الحكومة السورية الجديدة يُسقط أي حجة تونسية لتأجيل الانفتاح.

إعلان

ويرى مراقبون أن السلطات التونسية التي تواجه تحديا داخليا بشأن هذا الملف تخشى أن يؤدي تقارب سريع مع السلطة الجديدة في دمشق إلى مطالب مباشرة بالتعاون الأمني، أو حتى تسليم المطلوبين.

كما أن دمشق الجديدة، التي تسعى لإعادة بناء شرعيتها، قد تستخدم هذا الملف للضغط السياسي أو للمطالبة بمواقف واضحة من الدول التي جاء منها المقاتلون.

وتشير مجموعة سوفان -وهي منظمة بحثية مقرها في نيويورك تقدم خدمات أمن إستراتيجية للحكومات والمنظمات المتعددة الجنسيات- إلى أن تونس تأتي في المرتبة الأولى بعدد المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق، إذ بلغ عددهم 6500 مقاتل، أغلبهم انضم إلى صفوف تنظيم الدولة.

يشار إلى أن السلطات التونسية قد أقرت مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، إجراءات جديدة تقضي بتحويل الرحلات القادمة من تركيا إلى محطة منفصلة عن مطار قرطاج الرئيسي، في خطوة يرى مراقبون أنها ذات صبغة أمنية بالأساس، وتهدف إلى قطع الطريق أمام إمكانية عودة عناصر كانت تقاتل في سوريا، خصوصا بعد سقوط نظام الأسد المخلوع.

مقالات مشابهة

  • القيم والأخلاق.. صراع البقاء في عالم القوة
  • لماذا لم تتفاعل تونس مع التغيير السياسي في سوريا؟
  • وزير الأوقاف: الطرق الصوفية لها دور وطني في الحفاظ على هوية المجتمع
  • الانتخابات ومفهوم التغيير
  • دينا أبو الخير: بناء شخصية الأبناء يجب أن يبدأ مبكرا عبر غرس القيم
  • طارق صالح: الولاية والإمامة قنابل طائفية يستخدمها الحرس الإيراني لتمزيق المجتمعات
  • نجدة الطفل بالأمومة والطفولة: بعض العائلات تلجأ لتزويج بناتها عرفيا تحت ضغط العادات والتقاليد
  • برلماني: التحريض والتشكيك أدوات الجماعة الإرهابية لتفكيك المجتمعات
  • لمياء شرف تكتب: إعادة التاريخ - من المأساة إلى المهزلة
  • عبد السلام فاروق يكتب: الشرق الأوسط على مفترق طرق