التقدُّم.. بين مفهومي المادة والأَصالة
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
د. صالح الفهدي
حُصِرَ مفهوم التقدُّم على الماديِّ الملموس، متغلِّبًا بذلك على المفهوم الحقيقي لتقدُّمِ الأُمم وهو الإِنسانيِّ، ومرجعُ ذلك إلى الثقافة الرأسمالية، يقول المُفكِّر الأمريكي نعومي تشومسكي في كتابه "الربح قبل الناس" (1999) إن "الرأسمالية المتوحشة تعزِّز الَّلاتكافؤ الاجتماعي؛ فهي لا تهدف إلى تحقيق العدالة؛ بل إلى تعظيم الأرباح، حتى وإن كان ذلك على حساب الإنسان وحقوقه الأساسية"، ويؤكِّد على مقولته عالِم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في كتابه "الحياة الاستهلاكية" (2007) بالقول إن: "المجتمع الرأسمالي يحوِّل الإنسان إلى كائن استهلاكي بامتياز، لا تتحقق قيمته إلا بقدر ما يستهلك، مما يجعله عالقًا في دوامة لا تنتهي من الرغبات المُصطنعة".
من هذه المعايير الرأسمالية أخذت مجتمعاتنا مفهوم "التقدُّم" ليكون معيارًا تُقاسُ به حركة الأُمم والحضارات، في حينَ أن تقدُّم الإنسان ذاته لم يعد ذا بالٍ في المعايير الدولية التي تقودها مؤسسات رأسمالية، وقد أوقفني كلامٌ دقيقٍ ولافت قاله المفكِّر القطري د. نايف بن نهار في لقاءٍ له، يقولُ فيه (بتصرُّف) : "ما يُخيفني في النموذج الخليجي هو أني أشعرُ بأنَّ هناك محاولة لإنتاج الإنسان الاقتصادي، بمعنى أنَّ نموذج الإنسان في الخليج المحدَّد الأساس له هو المحدَّد الاقتصادي؛ حيث تشعر بأنَّ كلَّ شيءٍ يَصُبُّ في إطار تشبيع الإنسان بالقيم المادية؛ كلُّ شيءٍ يتحدَّث عن المادة، المادة، المادة فقط. أما إن سألتَ عن ماهية التقدم، فإنَّ الإجابة هي: الثروات الهائلة في الصناديق الاستثمارية، أو زيادة الدخل الفرد، أو مساحات الأبراج الموجودة، أو المناطق السياحية، وهذا ليس هو التقدم، هذه مؤشرات للغنى وليست مؤشرات للتقدم. لا يوجد انطلاق من الإنسان، وإنما انطلاق من مؤشرات مادية فقط. على أساس أنها هي التقدم، وهي ليست التقدم. إذا كنا نعتقد أن التقدم هو فقط الجانب المادي، فهذا جانب خطير لأنَّ هذا يخلق لك إنسان الغنيمة؛ فهو لا يتحرك إلا وفقًا لمنطقة الغنيمة والمادة؛ فهو يحبُّ الوطن مدام الوطن غنيمة، ويُناصر الوطن مدام الوطن غنيمة ينتفع منه ويكتسب، لكن بمجرد أن يشعر أن الوطن له كلفة سيتهرَّب منه. حينما تغذِّيني بالقيم المادية ماذا تتوقع مني أن أُنتج؟ سأكون بهذه الطريقة، حينما تُغيِّبُ مني الروح الاجتماعية والروح الثقافية، تغيِّب مني أصالتي وعمقي التاريخي في هذه الأرض، أنت تفقدني أصالتي. العالم لا ينقصه الدول الغنية، الدول الغنية كثيرة، ولكن ينقصه الدول الأصيلة، دول فيها أصالة، فيها عمق، تشعر بروحك. الإنسان ينتمي للأصالة، لا ينتمي لحالة البهرجة التي يعيش فيها العالم ويندفع إليها".
حينما نتأمل هذا الطرح نجدهُ يُعبِّر عن قلق عميق لأحد أبناء الخليج العربي من تحوِّل النموذج الخليجي إلى نموذج مادي بحت؛ حيثُ ينتقلُ تعريف التقدم من أصالةِ الإنسان إلى الثراء الاقتصادي، وتلك إشارة إلى أن التركيز المفرط على المؤشرات المادية مثل "الدخل الفردي، والاستثمارات، والمباني العالية، والمشاريع السياحية"؛ باعتبارها معايير للتقدم دون اعتبارٍ لعناصر الأصالة التي ترسِّخ عناصر إنسانية الإنسان مثل القيم، والهوية، والروح الاجتماعية.
وإذا كان إنتاج "الإنسان الاقتصادي" الذي يتحرَّك فقط وفق منطق الغنيمة والمصلحة المادية فإنَّه يشكِّلُ خطرًا كبيرًا؛ لأنه يخلق مجتمعًا هشًَّا في قيمه؛ حيث الولاء للوطن مرتبط بالمنافع وليس بالهوية والانتماء الحقيقي. بمعنى آخر، حينما يصبح الوطن مجرد فرصة اقتصادية، فإن الأفراد قد يتخلُّون عنه إذا أصبح عبئًا أو لم يعد يحقق لهم المكاسب المادية التي اعتادوا عليها.
كما إن الإنسان وفقًا للمفهوم المادي قد أصبح يوزن بحسبِ ما لديه من مال "عندك قرش تسوى قِرش"!، وهذا مناقض للبناء المعياري الإنساني "إن جاءكم من ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه" و"فاظفر بذات الدِّين تربت يداك" كما جاءَ في الحديث الشريف، ومناقضٌ لمفهوم الإنسان الحُرَّ الذي يُعلي مروءته وكرامته فوق الاعتبار المادي، كما يقول أبو فراس الحمداني:
إِنَّ الغَنِيَّ هُوَ الغَنِيُّ بِنَفسِهِ
ولو أَنَّهُ عاري المَناكِبِ حافِ
وما قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ
وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
وَالفَقرُ في النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ
وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ
إنَّ المفهوم الحقيقي للتقدُّم لا يقاس فقط بالثروة؛ بل بالأصالة، والهُوِّية العميقة، والروح المجتمعية، والقدرة على بناء مجتمعات متماسكة الوشائج، نبيلة القيم، أصيلة المبادئ، إنسانية العلاقات، وهذا ما يجعل مجتمعاتنا قوية في جوهرها، وذلك فيما يتمثَّلُ من قوة العلاقات الاجتماعية العامرة فيها، ورصانة عاداته، وتجذُّر قيمها، وأصالة عاداتها، ورفعة إنسانيتها، وسماكة روابطها العائلية، وحيوية تواصلها الاجتماعي، والتفافها، وحنوِّها، وتعاطفها على بعضها، وهذه الصورة التي عبَّر عنها الحديث الشريف على صاحبه أزكى صلاة وتسليم: "مثل المسلمون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى".
إن مؤشَّر مجتمعاتنا الأصيل لهو ما يتعلَّق بهويِّتنا، وفي ذلك يقول المفكِّر د. محمد عمارة: "فالهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعًا تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى"، ما يعني أنَّ التقدُّم المادي لا يُميِّزُ أحدًا في شيءٍ، ولكن الهوية هي التي تميِّزُ أُمَّةً عن غيرها، وعلى ذلك فإنَّ على مجتمعاتنا أن تُعيد البوصلة إلى وجهتها الحقيقية ليكون التقدُّم في مفهومها مرتبطًا بالأصالة بما فيها من قيم، وتاريخ، وعادات، وعلائق إنسانية، ومعتقدات إيمانية، وكل ما يتعلق برقي الإنسان الذي يرتكزُ إعمار الأرض بقدرِ ما لديه من قيم عظيمة وليس بقدرِ ما يملكُ من مال وفير.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تقضي الحوائج؟.. فيها 5 عجائب
لاشك أنه ينبغي معرفة هل قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تقضي الحوائج ؟، خاصة لما عرف عن سورة يس من فضل عظيم ، وكذلك نفحات هذا الوقت المبارك بعد صلاة الفجر، ولعل هذا ما يطرح أهمية الوقوف على حقيقة هل قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تقضي الحوائج ؟، لعل بها نكن من الفائزين.
ورد عن مسألة هل قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تقضي الحوائج ؟، أنه ورد في السنة النبوية المطهرة الحث على ذكر الله تعالى بعد صلاة الفجر؛ ومن ذلك ما رواه الإمام الترمذي في «جامعه» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّة»، وبناء عليه قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر تعد من أعظم الذكر ،حيث إنها قراءة القرآن الكريم، وقد ورد الأمر الشرعي بقراءته مطلقًا، والأمر المطلق يقتضي عموم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، فامتثاله يحصل بالقراءة فرادى أو جماعات، سرًّا أو جهرًا، ولا يجوز تقييده بهيئة دون هيئة إلا بدليل.
وبناء على ما سبق فلا مانع من قراءة سورة يس بعد صلاة الفجر ، ولا بأس بالمواظبة على قراءة يس بعد صلاة الفجر ، ولكن بشرط أن يتم ذلك بشكل ليس فيه تشويش على بقية الذاكرين وقُرّاء كتاب الله تعالى؛ استرشادًا بالأدب النبوي الكريم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» رواه الإمام مالك في "الموطأ" والإمام أحمد في "المسند".
فضل سورة يسورد فيها أن من أراد أن يقضي الله حاجته فعليه ان يتوضأ ويحسن الوضوء ويصلى ركعتين صلاة الحاجة، إلا أن هناك أمر آخر وهو سورة يس، حيث علمنا أهل الله أن سورة يس فيها سر لما قرئت له، هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نجرب مع الله، فنقرأ القرآن كله تقربًا للمولى عز وجل.
وورد فيها أن سورة يس فيها تفريجًا للهموم وقضاءً للحوائج وشفاءً للأمراض ورحمة للأموات وأسرار عظيمة، ولكن لها خصوصية عن باقي سور القرآن الكريم، فالزام يس بيقينك بالإخلاص يعطيك المولى عز وجل ما تحتاجه.
ورد بسورة يس سبع آيات جاء بآخرها كلمة «مبين»، وهناك أربع طرق للدعاء بهذه السورة لقضاء الحوائج، وأول تلك الطرق الأربع هي قراءة السورة كاملة ثم الدعاء بعدها، والثانية أن يردد قارئها الآيات السبع التي ورد بها كلمة «مبين» سبع مرات، والقول الثالث هو ترديد كلمة «مبين» فقط عند قراءتها، والقول الرابع بالدعاء عند الوصول للآية التي ورد بها كلمة «مبين».
عجائب سورة يسورد في الأثر أن "سورة يس لما قرأت له"، أي أن الشخص الذي يتمنى أو يريد تحقيق شيء معين فليقرأ سورة يس بنية قضاء هذه الحاجة"، كما أن "جميع سور القرآن الكريم فيها بركة وهدى فإذا ما قرأنا أي سورة أو آية بنية تفريج الهم والكرب أو قضاء الحاجة فسوف يستجيب الله"، وقد قال أهل الله تعالى عن سورة يس إنها تقضي الحاجة، فعليكِ بها ولا مانع أن تقرأها في أي وقت ولا يشترط أن تكون ليلة الجمعة".
سورة يستعد سورة يس من سور القرآن الكريم المكية، وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية، وهي سورة عظيمة تركز على قضية البعث والنشور، كما تتطرق إلى مواضيع مهمة سورة يس كالسور المكية تتناول قضية توحيد الربوبية والألوهية وعذاب من لا يؤمن بها، كما أنّ فواصل سورة يس قصيرة ولها إيقاع عجيب في نفوس المؤمنين، وقد وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- سورة يس بأنها قلب القرآن.
فضل قراءة سورة يس يومياورد في الشرع عن فضل قراءة سورة يس وعِظَمِ ثواب قراءتها؛ في نحو ما أخرجه الدارمي والترمذي -واللفظ له- والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ القُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ»، وإنّ أقوى ما جاء فيفضل قراءة سورة يسما رواه ابن كثير في تفسيره، قال –صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورًا له»، كما وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ يس كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَاتَ، مَاتَ شَهِيدًا».
وقد روى الناس حديثًا في فضل قراءة سورة يس أنّها لما قرئت له، وقصدوا في ذلك أن قراءة سورة يسفيها قضاء للحوائج وتسهيل لها، والحقيقة أنّه لا يجوز نسبة ذلك إلى السنة النبوية، وأقوال العلماء والتابعين لإنكارهم هذا الحديث، ومثال عليهم العلامة السخاوي الذي قال إنّه لا أصل للحديث بهذا اللفظ، وقال ابن كثير في تفسيره أنّ من خصائص فضل قراءة سورة يس أنها ما قرئت لشيء أو أمر عسير إلا يسره الله، وهذا القول لا يمكن نسبته إلى الله تعالى أو رسوله –صلى الله عليه وسلم- إنّما ينسب إلى قائله فيقع الصواب والخطأ عليه.