مغتربون في الوطن.. حين يغيب الإنسان بين أهله
تاريخ النشر: 28th, June 2025 GMT
د. إبراهيم بن سالم السيابي
يُروى أن رجلًا من رجال البادية كان يعيش بين قومه حياةً مستقرة، عرفه الناس بشهامته وسعيه، وكان له حضوره ومكانته.. وبمرور الوقت، تكاثرت عليه المسؤوليات، وتنوعت أعماله ومشاغله، حتى غلبته الحياة على أن يكون حاضرًا فيها كما اعتاد.
لم يكن غيابه فجأة؛ بل تسلل بهدوء من البيوت التي يرتادها، من المجالس، وقلّ ظهوره في المناسبات، وتضاءلت لقاءاته بالناس الذين كانوا يومًا جزءًا من ذاكرته اليومية.
كَبُرَ الرجل، وبدأ يشعر أن الوقت لم يعد ملكه، وفي لحظة صفاء، وقد دَنَا منه الأجل، وقاربت شمسه على الرحيل، جمع بعضًا من أهله وقال: "ليتني عشت نصف هذا العمر، لا أجمع المال ولا أعد المشاغل؛ بل أعيش بين الناس، أشاركهم أيامهم، وأكون بينهم في أفراحهم وأتراحهم، كنت أظن أنني لا أحتاج إلا الوقت، ثم اكتشفت متأخرًا أنني كنت أحتاج القرب، والناس، والحياة كما هي، لا كما رسمتها وحدي".
ما قاله الرجل لم يكن ندمًا فقط؛ بل كان اعترافًا صادقًا بأن أجمل ما في الحياة، لا يصنعه النجاح الفردي، ولا المال، ولا المكانة؛ بل تصنعه العِشرة، والصُحبة، واللمَّة، والمشاركة.
اليوم.. نرى صورًا مُتكرِّرة لذلك الرجل، ولكن بملابس مختلفة، وأماكن عصرية، وأسماء جديدة، فكم من الناس نعرفهم يعيشون في ذات المدينه، أو الولاية، وربما في نفس الحارة، لكننا لا نراهم إلا نادرًا؟ لا يشاركون في المناسبات، لا يظهرون في المجالس، لا يردّون على الدعوات، ولا يبادرون بالسؤال أو الزيارة، البعض قد تَغيّب اضطرارًا، والبعض انسحب طواعية، والبعض انشغل طويلًا حتى أصبح البعد عادة، والاعتذار أسلوب حياة.
الغربة لم تعد مرتبطة بالسفر والبُعد الجغرافي فقط؛ بل أصبحت أحيانًا حالة نفسية يعيشها الإنسان وهو بين أهله وناسه، غربة خفيفة الظل، لكنها ثقيلة الأثر، تبدأ بتبرير "الانشغال"، وتنتهي بأن يصبح الإنسان غريبًا في وطنه، غريبًا في بيته، غريبًا في قلب أقرب الناس إليه.
لكن هذه ليست دعوة للَّوم أو العتاب؛ بل تذكرة رقيقة بأن في الحياة متّسعًا دائمًا للرجوع، فإن القرب لا يحتاج إلى عمل كبير؛ بل إلى خطوة بسيطة: زيارة خفيفة، اتصال صادق، رسالة تبدأ بعبارة وببساطة "كيف حالك؟ أو ما هي اخبارك؟ أو هل أنت بخير؟"، وفجأة يعود الدفء، وتعود الروح إلى أمكنة كادت تنساها.
الحياة حين نعيشها وحدنا تصبح صامتة مهما ازدحمت، أما حين نشارك، فإننا نمنحها لونًا ومعنى؛ فاللَّمة رزق لا يُقاس، والصحبة الجميلة تملأ القلب بما لا تقدر عليه الأيام وحدها، فأن تُذكر في مجلس بخيرٍ، أن تُنتظر في مناسبة، أن يُفرح بك حين تحضر.. تلك كلها نعمٌ خفية لا يدركها من اعتاد الغياب.
الناس لا يحتاجون منا الكثير، يكفيهم أن نكون معهم، لا من أجل المجاملة؛ بل من أجل الإنسان الذي بداخل كل واحدٍ منا؛ لأننا حين نشارك الآخرين في أفراحهم، فإننا نضاعف الفرح في قلوبنا، وحين نكون معهم في أحزانهم، فإننا نخفف عنهم ونخفف عن أنفسنا في الوقت ذاته.
في الختام.. لكل من أبعدته الأيام، وغيّبته المشاغل، وتوارى خلف الأعذار، نقول: عُدْ، ولو بخطوة بسيطة. عُدْ لتعرف أنك ما زلت تُحَب، وما زالت في مجالسنا، وما يزال في بيوتنا مكان لك، وفي القلوب مساحة محفوظة باسمك، عد لتكتشف أن أجمل ما في الحياة ليس ما نملكه؛ بل من نعيش معهم بعض من لحظاتها او بعض من تفاصيلها.
الغربة الحقيقية ليست بُعد المسافة؛ بل في أن تكون بعيدًا عن الوجوه التي كانت يومًا من الأيام وجهًا ليومك!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عمرو الليثي يكشف كواليس فيلم الراجل الثاني ويعلن مفاجأة
أكد الإعلامي د. عمرو الليثي من خلال تصريحات صحفية خاصة، إنه كانت تربطنى علاقة قوية بالمخرج الراحل الكبير على عبدالخالق، ولمن لا يعرف هو من كبار المخرجين الذين أخرجوا أهم الأعمال فى تاريخ السينما المصرية، مثل العار والكيف وغيرهما من الأعمال، وكانت المفاجأة أن والده هو الأستاذ عبدالخالق صالح الذى لا يعرف الكثير أنه هو الرجل الذى ظهر فى فيلم «الرجل الثانى» وجسد شخصية «الرجل الأول».
وحكى لى الأستاذ على عبدالخالق ان والده كان يحمل شغفًا فنيًا خفيًا منذ الصغر ولكن رغبته فى الفن قوبلت برفض صارم من عائلته ودخل كلية الشرطة وتخرج منها ليبدأ مسيرة مهنية طويلة ضابطًا حتى وصل إلى رتبة لواء. لكن الفن كان حلمه المؤجل، وقد دخل المجال الفنى متأخرًا بعد سن الأربعين، من خلال الدعوة للمشاركة فى أعمال مسرحية هاوية مع صديقه القديم الأستاذ فاخر فاخر. وفى أحد هذه العروض، شاهده المخرج عزالدين ذوالفقار الذى لمس فى أدائه وقاره وقوة شخصيته، فرشحه لأدوار تحمل مزيجًا من السلطة والغموض. وكان «الرجل الثانى» إحدى أبرز تلك الفرص،.
وأنتج فيلم «الرجل الثانى» عام ١٩٥٩ ويعتبر علامة فارقة فى مسار أفلام الجريمة والإثارة، شارك فى بطولته نخبة من النجوم، على رأسهم رشدى أباظة فى دور عصمت كاظم وصلاح ذوالفقار بدور الضابط كمال، وصباح فى شخصية لمياء سكر، وسامية جمال بدور الراقصة سمر، إلى جانب عبدالخالق صالح فى دور محورى وغامض هو «الرجل الأول». هذا الفيلم لم يكتفِ بحبكة متقنة، بل حمل وجوهًا درامية شديدة العمق، لعل من أبرزها شخصية «الرجل الأول»، التى أداها عبدالخالق صالح بحضور نادر وحسم لا يُنسى.
شخصية «الرجل الأول» تمثل القيادة الخفية فى شبكة إجرامية معقدة. طوال أحداث الفيلم، لا نعرف من هو، لا يظهر، ولا يُذكر اسمه صراحة، لكنه حاضر فى كل مشهد، عبر قرارات غير منظورة، وأوامر تنفذ بلا تفسير. هو القائد الذى يخشاه الجميع، بمن فيهم «الرجل الثانى» عصمت كاظم. هذا الغموض ليس عبثيًا، بل كان عنصرًا مقصودًا فى بناء التوتر، وظل الجمهور يتساءل طوال الفيلم من هو الرأس الحقيقى حتى لحظة الكشف المفاجئة، حين يظهر الرجل الأول فى مشهد ختامى قاتم يقتل فيه عصمت ثم يُقبض عليه. وظهوره المتأخر كان قرارًا إخراجيًا ذكيًا من عز الدين ذوالفقار، ليمنح الشخصية غموضًا وسحرًا خاصًا، ويصدم الجمهور حين يكتشف أن الشخصية الهادئة التى كانت تمر مرور الكرام، هى العقل المدبّر لكل شىء.
على الرغم من قصر ظهوره فى الفيلم، إلا أن الأستاذ عبدالخالق صالح تمكن من منح «الرجل الأول» بعدًا نفسيًا فريدًا. لم يكن مجرمًا غوغائيًا أو انفعاليًا، بل هادئًا، عقلانيًا، يتحدث بصوت منخفض وحضور طاغٍ. إضاءة المشهد الذى يظهر فيه كانت متعمدة؛ مركزة على ملامحه الحادة، ومصحوبة بموسيقى مشدودة، لتُبرز هيبة الشخصية دون الحاجة إلى كلمات كثيرة.
هكذا أثبت الأستاذ عبدالخالق صالح أن الدخول المتأخر لعالم الفن لا يمنع من ترك أثر عميق، وأن الشخصية الصامتة يمكن أن تصرخ فى ذاكرة المشاهدين طويلًا.