ماذا بعد تحرير القصر الجمهوري في الخرطوم؟
تاريخ النشر: 23rd, March 2025 GMT
أخيرا وبعد معارك استمرت أسابيع حول القصر الجمهوري في قلب العاصمة السودانية (الخرطوم)، تمكن الجيش السوداني من اقتحام القصر وتحريره من مليشيات الدعم السريع التي احتلته منذ الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2024 ضمن محاولتها الانقلابية الفاشلة، كما تمكن الجيش من تحرير العديد من المنشآت السيادية الأخرى مثل البنك المركزي ومقر المخابرات العامة، وقصر الصداقة ومبان حكومية وخاصة أخرى.
لم يكن دخول مليشيات التمرد إلى القصر وغيره من المنشآت الحكومية السيادية عملا حربيا، بل إنها كانت تحرس هذه المنشآت بتكليف رسمي من قيادة الدولة، كل ما في الأمر أنها -وكجزء من محاولتها الانقلابية- غيرت اليافطة من حراسة إلى احتلال (حاميها حراميها)، وعززت وجودها لاحقا في القصر وفي الدواوين الحكومية الأخرى التي كانت في حمايتها الرسمية أيضا، بخلاف انتشارها في أحياء العاصمة وسيطرتها على ولايات أخرى.
حتى كتابة هذه السطور كانت المعارك لا تزال مشتعلة في بعض الجيوب التي لا تزال تحت سيطرة المليشيا، كما أن 4 من ولايات دارفور الخمس لا تزال في قبضة المليشيات، بحكم وجود قبائل الجنجويد وهي العمود الفقري للمليشيا فيها، وحيث يعتبرها حميدتي خطته البديلة للانفصال، وإقامة حكم خاص به على غرار الشرق الليبي تحت قيادة حفتر، كما أن هناك وجودا للمليشيا وحلفائها جنوب وشمال كردفان، لكن الجيش السوداني مصمم على تحرير هذه الولايات أيضا، تساعده في ذلك الروح المعنوية المرتفعة لضباطه وجنوده بعد الانتصارات التي حققها، وكذلك وجود قوات أخرى داعمة للجيش من أبناء تلك المناطق مثل القوات التابعة للشيخ موسى هلال وغيره من القبائل.
الانتصارات المتتالية للجيش السوداني أرعبت دولة الإمارات، الداعم الرئيس لمليشيا التمرد، فهرع رئيسها محمد بن زايد وثلاثة من أشقائه من كبار المسئولين في الدولة إلى القاهرة مساء أمس السبت، في زيارة وصفتها البيانات الرسمية بـ"الأخوية" رغم أنها لم تكن مجدولة من قبل، ما يؤكد فرضية ارتباطها بتطورات الوضع في السودان، خاصة مع إلقاء الجيش السوداني القبض على بعض الضباط الإماراتيين بينهم رجال مخابرات، والعثور على العديد من الوثائق الخاصة بالدور الإماراتي خلال تحرير القصر الجمهوري، حيث من المتوقع أن يطلب الرئيس الإماراتي من نظيره المصري التدخل لإعادة الضباط الإماراتيين، وتبريد التوتر مع السودان، ودفعه لسحب شكواه ضد أبو ظبي في الأمم المتحدة مقابل وقف الإمارات دعمها لمليشيا حميدتي، وربما تقديم مساعدات أخرى للسودان.
ليس مستبعدا بطبيعة الحال أن تشمل أجندة الزيارة نقاشا للوضع في غزة، خاصة أن مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد التقى الرئيس ترامب قبل 3 أيام، وهي الزيارة التي توجت بالإعلان عن استثمارات إماراتية بقيمة 1,4 تريليون دولار على مدى عشر سنوات في الولايات المتحدة، متجاوزة حجم الاستثمارات التي تعهدت بها السعودية بقيمة تريليون دولار. والمؤكد أن هذه الصفقة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل تتضمن بعض الأدوار السياسية المنوطة بالإمارات في المنطقة سواء ما يظهر منها حاليا أو سيظهر مستقبلا.
انتصارات الجيش السوداني قطعت الطريق على تحالف حميدتي مع بعض القوى السياسية والعسكرية السودانية الأخرى لإعلان حكومة موازية من داخل القصر الجمهوري، تم الترتيب لها في اجتماعات العاصمة الكينية نيروبي مؤخرا، وبالتالي لم يعد أمام هذا التحالف -حال إصراره على إعلان حكومته- سوى إحدى مدن دارفور، وهو احتمال ضعيف.
يحتاج تنظيف العاصمة الخرطوم من بقايا المليشيات بعض الوقت، كما أن إعادة تأهيل الخدمات الأساسية من الكهرباء والمياه والأسواق.. الخ تحتاج بعض الوقت أيضا بعد أن دمرت المليشيات العديد منها خلال سيطرتها عليها، وبطبيعة الحال لن يتمكن المهاجرون سواء داخل ولايات أخرى، أو حتى خارج السودان من العودة إلا بعد توفر سبل الحياة الطبيعية، وتأمين العاصمة بشكل كامل من أي هجمات مرتدة، أو انفلات أمني.
رغم أن قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان أعلن مرارا أنه لن يكون هناك تفاوض مع مليشيات حميدتي، إلا أنه من المحتمل أن تضغط بعض الأطراف الإقليمية والدولية عليه مجددا للعودة إلى طاولة التفاوض، وفي هذه الحالة سيعود على أرض مختلفة، وقواعد تفاوض مختلفة تسندها الانتصارات على الأرض، لكن البرهان على الأرجح سيظل مقاوما لفكرة التفاوض حتى ينظف الخرطوم تماما، تمهيدا لعودة الحكومة إلى مقراتها الرسمية.
من حق الجيش السوداني أن يفخر بتحقيقه هذه الانتصارات بجهوده الذاتية، وجهود داعميه من القوات المتطوعة التي هبت للدفاع عن الوطن بلا مقابل، وأيضا بقليل من دعم بعض الدول الصديقة للسودان، في حين انهالت كل صنوف الدعم العسكري والمالي على مليشيات حميدتي بهدف تمكينها من حكم السودان، لكن هذه المليشيا فشلت في تحقيق أحلام كفلائها حتى الآن، ومن واجب الجيش السوداني والقوات الشعبية المساندة الانتباه إلى أن المليشيات لن تلقي سلاحها بسهولة، وستحاول العودة للسيطرة على بعض الأماكن بعد تلقيها إمدادات عسكرية جديدة، وهو ما يتطلب تعزيز الدفاعات حول كل المنشآت والأماكن التي حررها مؤخرا.
x.com/kotbelaraby
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء السودانية الدعم السريع حميدتي الإمارات البرهان السودان الإمارات حميدتي الدعم السريع البرهان قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القصر الجمهوری الجیش السودانی
إقرأ أيضاً:
“قصر كوير” أو قصر حارة البيبان: أنموذج فريد لتطور بيئة مكة العمرانية
تحتضن مدينة مكة المكرمة عددًا من المعالم التاريخية التي تُجسد تميز وتطور بيئتها العمرانية عبر مختلف العصور، وتعكس تصاميمها الخصائص العمرانية الفريدة، ومن بين هذه المعالم يبرز “قصر كوير” أو قصر حارة البيبان بصفته واحدًا من أقدم وأجمل القصور التاريخية، إذ يجمع بين البعد المعماري الأصيل والبعد الرمزي المرتبط بالتنوع المجتمعي والثقافي في أوائل القرن العشرين، ويمثل القصر أنموذجًا فريدًا للعمارة المحلية، وعلاقتها بالتحولات الاجتماعية في أحياء مكة المكرمة، ومكانتها في الذاكرة المجتمعية للأهالي، وتأكيد أهمية المحافظة عليها.
وتعود ملكيته إلى أحد تجار مكة في أوائل القرن العشرين، الذي اشتهر بلقب “كوير” نسبة إلى تجارته في النورة (الجير) وهي مادة البناء الشائعة آنذاك، إضافة إلى تجارته في العسل والسمن، وهو ما انعكس على هندسة القصر وموقعه الإستراتيجي في حي “البيبان” أحد أبرز أحياء مكة المكرمة.
ووفق رئيس قسم العمارة بجامعة أم القرى الدكتور عمر عدنان أسرة، أوضح أن القصر بني في بدايات القرن العشرين تقريبًا تلك الفترة ما بين (1910-1920م) (أصح الأقوال أنه بني بين عامي 1365- 1370هـ) التي شهدت فيها مكة تحولات اقتصادية واجتماعية وعمرانية كبرى نتيجة دخول الطباعة، والتوسع في الحج، وتطور وسائل النقل، واتضح ذلك في التفاصيل المعمارية المميزة وميلها إلى الفخامة المستمدة من العمارة في مكة، مشيرًا إلى أن القصر يقع على تلة مرتفعة نسبيًا تُطل على حي “البيبان” التاريخي؛ مما يمنحه مشهدًا بانوراميًّا ضمن محيطه العمراني، ويعد المسقط الأفقي للقصر أقرب إلى المربع، وهو تخطيط يميز القصور المكية القديمة، التي تهدف إلى ضمان الخصوصية والتهوية الطبيعية في الوقت ذاته، وقد عرفت المنطقة بكونها متنفسًا لأهالي مدينة مكة، لاعتدال مناخها ووُجود المزارع بها وعدد من القصور الأخرى.
وعن تفاصيل بناء القصر بيّن الدكتور عمر، استخدام عدد من المواد والتقنيات المحلية الشائعة في مكة آنذاك، من أبرزها “الحجر المحلي” أساسًا قويًّا للبناء، والنورة (الجير) لعزل الجدران، والطين والخشب والجص في تغطية الأسطح الداخلية والأسقف، واستخدام أخشاب الساج الهندية الفاخرة في بعض الأبواب والنوافذ، كما زُيِّنَت الواجهات عبر نوافذ خشبية منقوشة تسمى (روشان) وزخارف هندسية ونباتية، أما الأسقف فقد حملت زخارف جصية يدوية تؤكد تفوق الصناع المحليين آنذاك، ويتكون القصر من خمسة أدوار، وهو عدد مرتفع نسبيًا مقارنة بالقصور الأخرى في تلك الفترة، ويحتوي على العديد من القاعات والصالات الواسعة، إضافة إلى ساحات داخلية (أحواش)، تتيح التهوية، وتعزز الخصوصية في آن واحد، وأنه استُخدم مكانَ إقامة الأمير محمد بن عبدالعزيز (حيث كان يستأجره بشكل سنوي)، كما زاره الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- في أثناء وجوده في مكة المكرمة.
وكشف رئيس قسم العمارة من خلال تحليل القصر بأنه يمكن استخلاص عدد من الدروس المعمارية المهمة منها: تكامل الشكل والوظيفة، إذ إن العمارة التقليدية وفّرت حلولًا ذكية للتهوية، والخصوصية، والعزل الحراري، بما يتناسب مع هوية المكان والبيئة المحلية، وبعيدًا عن النسخ المعماري المستورد، ويمكن كذلك توظيف القصر بعد الترميم في عدة مسارات مثل: إنشاء متحف للعمارة المكية التقليدية، يعرض أدوات البناء، وتقنيات التهوية، وتطور أشكال النوافذ والمداخل، واستخدامه كذلك مركزًا ثقافيًّا مجتمعيًّا، لإقامة فعاليات أدبية أو فنية أو معارض تراثية، وأيضًا بيت ضيافة تراثي فاخر، ضمن سياحة التجربة المكانية.
وتحدث رئيس قسم العمارة بجامعة أم القرى عن الدور المقدم في توثيق التراث العمراني بمكة، من خلال جهود أعضاء هيئات التدريس وطلاب أقسام العمارة في الجامعات السعودية وبشكل خاص في جامعة أم القرى، بوصفه رافدًا أكاديميًّا وعمليًّا مهمًّا في عمليات توثيق وحفظ التراث العمراني للعاصمة المقدسة وأحيائها، وأسهمت هذه الجهود الأكاديمية في تسليط الضوء على القيمة المعمارية والثقافية لقصور والمباني التاريخية، إذ وجه أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في: (العمارة الإسلامية، والحفاظ العمراني، وتخطيط المدن) مشاريع التخرج والأبحاث الطلابية التي تُعنى بتوثيق المعالم المعمارية في مكة مستخدمين في ذلك منهجيات أكاديمية دقيقة تشمل “الرفع المساحي والمعماري، والتوثيق الفوتوغرافي عالي الجودة لتفاصيل الزخارف والنوافذ والأبواب، إضافة إلى المقابلات مع السكان المحليين وأبناء العوائل المالكة للمباني لتسجيل الرواية الشفوية، وقد أثمرت تلك الأعمال توثيق طلاب قسم العمارة ضمن مساق “الحفاظ على التراث المعماري” عددًا من القصور مثل قصر المعابدة الملكي، وقصر التيسير؛ مما ساعد على حفظ سجل بصري ومعماري لتلك المباني.