قرابة قرنٍ كامل على الفكرة وأربعون عامًا على التأسيس المؤتمر الشّعبي العام.. مسَارات وتحديات
تاريخ النشر: 24th, August 2023 GMT
استهلال تاريخي
ــ في أغسطس من العام 1928م ــ وضمن المساعي السياسيّة التي قادها رئيس حزب الدستور التونسي الشيخ عبدالعزيز الثعالبي بين سلاطين الجنوب وأئمة الشمال في اليمن آنذاك ــ وضع المذكور فكرة "مؤتمر يمني عام"، من كلا الشطرين، نصّت المادة الخامسة منه على "تأسيس لجنة دائمة، مؤلفة من أعضاء، يختارهم أمراءُ البلاد الممتازة، وأعضاء يختارهم الإمام، للنظر في حقوق ومطالب ومصالح الجهات الممتازة، وإذا حصلَ خلافٌ تنظر فيه".
تعثرت الفكرةُ التي لم يتحمس لها الإمامُ أساسًا؛ لأن الجنوبيين لن يأتوا إليه بالحُبوب والغِلال التي يتحصُّلها بالاستحواذ والقسر من رعيّة الشمال، كما لم يتحمس لها السلاطينُ في الجنوب أيضًا، لحساسيتهم التاريخيّة من نظام الإمامة التي يحملون عنها انطباعًا سيئا، ثم إن القرار في محصلته النهائية ليس بأيديهم آنذاك، كونهم واقعين تحت الاحتلال البريطاني.
ــ في 11 أغسطس من العام 1963م انعقد "المؤتمر اليماني العام" في صنعاء، بمشاركة مجموعة من شيوخ القبائل، موجهًا الدعوة الى جميع المشايخ والعلماء للمشاركة فيه، للبحث عن طرق ووسائل حل المشاكل السياسية الداخلية للبلاد، وفي السابع عشر من الشهر نفسه بدأت أعمالُ المؤتمر الثاني الذي أقر توجيه نداءٍ إلى مشايخ القبائل المناصرين للنظام الجمهوري والواقفين إلى جانب الملكيين، كما وجه نداءً الى رجال الدين، يدعوهم إلى المشاركة في أعمال "المؤتمر اليماني العام" في عمران، للمساهمة في حل القضايا السياسية الداخلية للبلاد.
وانعقد المؤتمر آنذاك، لتحقيق مصالحة وطنية شاملة، من أجل حماية النظام الجمهوري والدفاع عن الثورة ضد الأعداء الإماميين، وقد عُقد المؤتمر بمشاركة 500 شخص، يمثلون المشايخ والعلماء والحكومة والقوى الوطنية، وكذلك ممثلي النقابات في جنوب الوطن. وفي سبتمبر من العام نفسه صدر قرارٌ بإنشاء الجيش الشعبي. كما صدر في مايو 1965م قرار جمهوري بتشكيل لجنة دائمة، تتكون من 27 عضوًا، كُلفت مؤقتا بالقيام بمهام مجلس الشورى، وفقًا لما نصّ عليه الدستور المؤقت الثاني، كأول برلمانٍ تشهده الجمهورية العربية اليمنية، الوليدة.
ــ في ابريل من العام 1977م، وفي مدينة الحديدة تحديدًا أعلن الرئيس إبراهيم محمد الحمدي عن تأسيسِ المؤتمر الشعبي العام، ونظرًا لتحولات المرحلة وظروفها تعثر سير الفكرة. وقد ظهر الرئيس الحمدي متحدثا عن هذا الكيان الجديد في مؤتمر صحفي مصوّر.
وهكذا تعثرت كل الخطى الداعية إلى هذا المؤتمر اليمني العام الذي يجمع شتات اليمنيين تحت راية واحدة، منذ الفكرة الأولى، على الرغم من حاجة اليمنيين الماسّة لهذا الكيان الذي يوحد شتاتهم.
ــ في 24 أغسطس من العام 1982م تم الإعلان رسميًا عن تأسيس المؤتمر الشعبي العام، واختيار علي عبدالله صالح أمينًا عامًا له، من قبل أعضاء اللجنة الدائمة المؤسسين، وعددهم ألف مؤسس، كما تم انتخاب الدكتور أحمد محمد الأصبحي أمين سر اللجنة الدائمة، وللتاريخ فقد كان الأصبحي دينامو المؤتمر الشعبي العام، وصائغ أغلب أدبيّاته التنظيمية، ومهندس برامجه وسياساته بثقافته الموسوعيّة وفكره العميق، وإلى جانبه أيضا آخرون، كانت لهم جهود وطنية رائدة.
بعد هذا الاستهلال، وبعد استقراء أربعين عامًا مضت من عمر هذا الحزب العريق نستطيع تقسيم مراحله إلى خمس مراحل:
المرحلة الأولى: 1982 ــ 1990م.
خلال هذه المرحلة نستطيع القول: أن المؤتمر الشعبي العام الذي تعثرت خطاه السابقة في جميع المراحل قد نجح في الوقوف على قدميه، ومثّل أول "لقاء مشترك" جامعٍ لكل اليمنيين بمختلف توجهاتهم وأطيافهم، في مرحلة تاريخية حادة من الصراعات الداخلية، جزء منها من امتداد الحرب الباردة، فقد كانت الأصابعُ على الزّناد بين أيديولوجيتي: "اليمين واليسار"، وكلٌ منهما على النقيض التام من الآخر؛ لكن بانضوائهم تحت راية المؤتمر الشعبي العام، وبرئاسة الرئيس علي عبدالله صالح احتكم الجميعُ إلى أدبيّات الحزب، بعد احتكامهم إلى فوهات البنادق خلالَ أربع سنوات مضت، من الحروب الأهليّة والداخليّة، عُرفت بحروبِ المناطق الوسطى التي شملت: شرعب وإب وريمة ووصابين وعتمة وآنس. وانعقدت الدورات الداخلية للمؤتمر بكل سلاسةٍ وديموقراطية، وقد حصل أحدُ عناصر "الحركة الإسلامية/ الإخوان المسلمين" آنذاك على الترتيبِ الأول في الانتخابات الداخلية، وهو الشيخ محمد حسن دماج، محافظ محافظة المحويت حينها، الذي انتمى للجماعة في تعز، سنة 1967م.
هذه النخبة التنظيميّة السياسيّة ــ بجميع أطيافها ــ شاركت في المؤتمر الشعبي العام، وشاركت أيضًا في الدولة، ولم ينفرد تيارٌ أو جماعة ما بالسيطرة خلال هذه الفترة، بمن فيهم علي عبدالله صالح نفسه الذي كان شوكة الميزان، وإن كانت أضواءُ الإسلاميين أكثرَ بريقا داخلَ المؤتمر خلال هذه الفترة.
المرحلة الثانية: 1990 ــ 1994م
عقب قيام الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م تغيرت المعادلة السياسيّة في البلاد، وتحولت التيارات التنظيمية السرية إلى أحزابٍ سياسية علنية، تأخر لاعبون، وتقدم آخرون، وتم الإعلان عن التحالف بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، وشاع مصطلح: "الحزبان الحاكمان"، خفتت على إثره أضواء عناصر ما عرف بالحركة الإسلامية، "الإصلاح لاحقا"، وقد تحولوا إلى معارضة، متكئين على جمهور عريض استقطبوه خلال الفترة السابقة، أغلبه من الوسط التربوي والشباب الجامعي، إلا أن هذا الجمهور ليس أعرضَ من جمهور المؤتمر. وفي الجنوب أيضًا ليس أعرضَ من جمهور الحزب الاشتراكي.
في هذه الفترة تمايزَ المؤتمر الشعبي العام تنظيميًا، بعد أن غادرت كثيرٌ من عناصره السّابقة إلى حيث تجدُ نفسها، يمينًا ويسارًا. ومع هذا ظلت العلاقة وطيدة بينه وبين كل الأحزاب بلا استثناء، بما في ذلك الحزب الاشتراكي اليمني الذي أعلنت بعضُ قياداته الانفصالَ في مايو 1994م.
المرحلة الثالثة 1994ــ 2006م
خلالَ الفترة الأولى من المرحلة الثانية، وعلى وجه التحديد فيما بين: 94 إلى 97م، تشاركَ المؤتمر الشعبي العام "السلطة" مع التجمع اليمني الإصلاح، كما تشارك "الحكومة" أيضا مع بقية الأحزاب والتيارات الأخرى، بمعنى أن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رئيس الهيئة العليا للإصلاح يكاد يكون الرئيس الثاني بعد علي عبدالله صالح في مرحلة ما بعد 93م، سواء من موقعه القبلي، شيخا لمشايخ اليمن، أو من موقعه الحزبي للإصلاح، أو من موقعه البرلماني، رئيسا للبرلمان. وبهذا ظل الإصلاح شريكَ "سلطة"، لا شريك "حكومة" فقط. ونستطيع القول عن هذه السنوات أنها "سنوات العسل" بين الحزبين، "المؤتمر والإصلاح"، والتي تمثلُ امتدادًا لمرحلة ما بين 82 إلى 1990م، وإن شابَها بعضُ التوجس الخفي، كحالة طبيعية لأي شريكين في معركة ما؛ إذ يتوجسُ كل طرف من الطرف الآخر، ويبدأ الطرف الأقوى في الاستحواذ على الأضعف...إلخ.
المرحلة الرابعة: 2006م، 2014م
تكاد هذه الفترة تكون أزهى فترات المؤتمر الشعبي العام، جماهيريا وسياسيا، فعلى الصعيد الجماهيري استطاع علي عبدالله صالح الفوزَ في الانتخابات الرئاسية الجادة التي نافسته فيها أحزابُ اللقاء المشترك، بكل جدارة، وتعتبر أول حالة عربية تقريبا، للتنافس الجاد لمنصب الرئاسة، صحيح أنه سبقتها حالة عام 99م؛ لكنها لم تكن بمستوى حالة 2006م.
لقد جدد الحزبُ نفسه داخليا من خلال المؤتمر العام السابع، والذي انعقد في عدن في نهاية العام 2005م، ومثّل انتخاب الأستاذ عبدالقادر باجمال، رحمه الله، حالة إيجابيّة على الصعيد التنظيمي الذي شهد حراكا داخليا ملحوظا حتى العام 2008م، والذي تم فيه انتخاب عبدربه منصور هادي، نائب رئيس الجمهورية آنذاك نائبا لرئيس المؤتمر، أمينا عاما للحزب، خلفًا للأستاذ باجمال، فدخل الحزبُ حالة الصقيع والتجمد، وكان قبل ذلك شعلة متوهجة من النشاط.
خلالَ هذه الفترةِ ساءت علاقةُ المؤتمر الشعبي العام بأغلبِ الأحزاب السياسيّة الفاعلة على السّاحة، التي ناوأته بكل قوة، ووصل الجميع إلى قطيعةٍ شبه تامةٍ لأول مرة، ما كان ينبغي لها أن تحدث أبدًا، وتشكلت داخل اللجنة العامة والأمانة العامة للحزب ما عُرف بالصقور والحمائم، كان بعضهم ينفخ في نار الخلافات، منطلقا من مصالح ذاتية، فيما كانت للبعض الآخر رؤىً رزينة وازنة، كالدكتور أحمد عبيد بن دغر، والدكتور أبوبكر القربي وآخرين، إنما غلبت مخالب الصقور على مناقير الحمائم..!
ليس ذلك فحسب؛ بل لقد تصدرت لقيادة الحزب شخصيّاتٌ غارقة في الأمية السياسية والثقافية والتنظيميّة، كانوا سببًا في سوء العلاقة مع الأحزاب الأخرى التي تكتظ بصقورها المتطرفين والجهلة أيضًا.! آل الأمرُ في المحصّلة النهائية إلى أحداث 2011م التي انفرط فيها العِقدُ على الكل، والتي شهد المؤتمرُ فيها أعنف هزة تنظيميّة في تاريخه؛ لكنها على عُنفها هذا لم تؤثر عليه كثيرًا، وظل متماسكا بقوة؛ إذ شهد الحزبُ مغادرةَ بعض أعضائه منه، وإن لم يلتحقوا بأحزاب أخرى، مترقبين ما ستؤول إليه المعادلة في صيغتها النهائية، والتي طالت، ثم آلت إلى غيرِ ما توقع الجميع.
المرحلة الخامسة 2014م ــ .....؟
في العام 2014م كانت الهزة السياسيّة الأكبر في تاريخ المؤتمر الشعبي العام، وهي جزءٌ من الهزة السياسيّة للدولة أساسًا، كما أنها نتيجة لخلل في التقدير وسوء في قراءة المشهد من قبل بعض قيادة الصف الأول للمؤتمر، لا من قبل المؤتمر كله. لم تمر هذه الهزة العنيفة بسلام كما مرت في 2011م؛ بل كان لها ما بعدها، وحتى اللحظة. وفي الواقع لا نستطيع الحديث عنها ما دمنا نعيش تفاصيلها؛ لأن الحديثَ عن أي فترةٍ سياسيّة يقتضي انتهاؤها أولا، حتى تتم قراءتها كليا، لا جزئيا.
ولا يفوتنا أن نشيرَ إلى أنه ما من حزب سياسي على الساحة إلا وتورط في مثلبة ما، تجاه الوطن، تُحسب عليه: تورط الناصريون في انقلاب على الدولة القائمة في أكتوبر 78م، وتورطت قيادة الحزب الاشتراكي في إعلان الانفصال عام 94م، وتورط التجمع اليمني للإصلاح في ثورةٍ غير محسوبةِ النتائج مع آخرين عام 2011م، وأخيرًا تورطت بعضُ قيادة المؤتمر الشعبي العام في التحالف مع أسوأ كيان إمامي بغيض في تاريخ اليمن. وللأسف فكلُّ حدثٍ من هذه الأحداث لم يستفد منه اليمن على الإطلاق، فقط الإماميون استثمروه لصالحهم، حتى كان إعلانهم النهائي في الانقلاب على الدولة في سبتمبر 2014م. ووفقًا للكاتب العربي الكبير ناصر الدين النشاشيبي الذي استقرأ الحالة اليمنية قبل هذا بسنوات: "فإن الأمرَ الأكثر مرارة في أوضاع اليمن شديدة التخلف قد تؤدي مناخات الحرية في ظل ضعف النظام السياسي إلى الفوضى وبروز نزعاتٍ يمكنها أن تقود إلى متاهات تمزُّقٍ جديدة، وصراعات يغذيها الإرث الإمامي". وهذا ما حصل.
المؤتمر.. وكعب أخيل..!
في الواقع إنّ الحديثَ اليوم عن الأحزاب السياسيّة سابقٌ لأوانه، وتجاوزٌ لما هو أهم، وهو الدولة، فقبل أن نتكلمَ عن الحزبِ نتكلم عن الدولة، باعتبار الحزب جزءًا منها، إنما ثمة مبررٌ قد يبدو موضوعيا في الحديث عن الحزبية اليوم، وهو أن جملة الأحزاب اليمنية إحدى الآليات لاستعادة الدولة، بحكم انهيارِ أغلب مؤسساتها، ومن جهة ثانية يقتضي الأمرُ الاستفادة من تجربة التجمع اليمني للإصلاح على وجه التحديد، في البناء التنظيمي الذي يُعتبر "كعب أخيل" بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام..!
يمتلكُ المؤتمر قاعدةً جماهيريّة واسعة، ويمتلكُ نخبة سياسيّة مرموقة؛ إنما مشكلته الأساسيّة في بنيته التنظيمية، الحلقة الأضعف في بنائه، ويقال: تُقاسُ السّلسلة بأضعفِ الحلقات فيها..!
استطاع المفكر والسياسي الدكتور عبدالملك منصور أن يضعَ القاعدة الأساسيّة التنظيمية للحزب فيما بين 90 و 93م، كخبير سياسي، قادم من تنظيم حديدي صلب، انتقل إلى المؤتمر الشعبي العام سابقًا، بخبرته القديمة، عقب خلافه مع رفاقه، غير أنّ هذا البناءَ لم يكتمل؛ إذ غادرَ الدائرة في العام 93م، إلى دائرةٍ أخرى، ولو كان قدر له البقاء في هذه الدائرة على الأقل لمدةِ عشر سنواتٍ لكان الأمرُ متغيرًا تمام التغيُّر؛ لأن الدائرة التنظيمية لأيّ حزبٍ سياسي هي قطبُ الرحى، وحجرُ الزاوية فيه، وقد أصيبت هذه الدائرة فيه بالكساح من وقت مبكر، منذ غادرها السياسي المستنير عبدالملك منصور. وزاد الأمرُ سواء أن تعاقبَ على رئاستها سلاليون، وشيوخ قبائل لا يكادون يعون معنى "التنظيميّة"..!
بل لقد زاد الطين بلة أنْ رَأسَ هيئة الرقابة التنظيمية والتفتيش المالي في الأمانة العامة للمؤتمر منذ نهاية العام 2005م، سلاليٌّ عتيقٌ هو يحيى الشامي، خلفًا لابن عمه أحمد العماد، الذي جثم عليها فترة طويلة حتى وفاته، وكان من أبرز سياسة الأول الخفيّة ــ وربما الأول والثاني التي مارسَاها، ولم نعرفها إلا لاحقًا ــ هي عرقلة كل الترقيات التنظيمية داخلَ دوائر الأمانة العامة للناشطين التنظيميين، عدا مَن رضيَا عنهم من أتباعهما. أسجل هذا للتاريخ، وأنا شاهدٌ عليه من خلال عملي في الأمانة العامة للمؤتمر فيما بين 2006 إلى 2011م.
يقتضي العملُ التنظيمي نفَسًا واحدًا متواصلا، وإن بوتيرةٍ متباطئة، المهم ألا ينقطعَ أو يتعثرَ لحظة واحدة، وبالنظر إلى "دائرة التأهيل والتنظيم" بالتجمع اليمني للإصلاح نجد أنه منذ تأسيس الحزب في سبتمبر 90م لم يتعاقب على رئاسة الدائرة غير شخصيتين تنظيميتين: محمد قحطان، فيما بين 90 إلى 94م، ثم عبدالله قاسم الوشلي، منذ العام 94م، وحتى اليوم، في استقرار تام، وتفرغ متواصل للعمل، في الوقت الذي لم تستقر الدائرة التنظيمية للمؤتمر الشعبي العام نصف هذا الاستقرار، للأسف.
منذُ العام 90م خلت الدائرة التنظيميّة للمؤتمر الشعبي العام من مناهج تنظيمية داخلية، تمثل لأتباع الحزب عقيدة وطنية، على الأقل كما كان الأمرُ عليه قبل العام 90م، من خلال الميثاق الوطني الذي كان يُخصّص له يومٌ واحدٌ في الأسبوع في مختلف الدوائر الحكومية، وكما هو عليه الأمرُ مع الأحزاب الأخرى، بما في ذلك الإماميون الذين يستندون على أيديولوجية تاريخية وتراث مهول، وإن كان مملوءًا بالخرافات، أو قل كله خرافات؛ لكن هذه الخرافة عقيدة بالنسبة لهم، وهي عقيدة تشبه عقيدة شعب الله المختار في الاصطفاء، وهاتوا لي جماعة ما بلا خرافة..!
صحيح أنّ التخففَ من أعباء الأيديولوجيا في أحد أوجهه حالة إيجابية؛ لكن انعدام الأيديولوجيّة من أساسها ليست حالة إيجابية مُطلقا. وتفرُّق الحزب بالصورة التي عليها اليوم خيرُ دليلٍ على ما نقول، في الوقت الذي صمدت أحزابٌ أخرى أقل منه جماهيرية، كالتجمع اليمني للإصلاح، ذي البنية التنظيمية العتيدة والمتماسكة، وكالإماميين أنفسهم، المرتكزين على أيديولوجيا الاصطفاء والأفضلية. وهو ما يقتضي إعادة النظر في هذه الجزئية على وجه التحديد خلال المرحلة القادمة. أتكلم هنا عن الأيديولوجيّة المنطلقة من الهُوية التاريخيّة والحضاريّة لليمن، لا عن أية أيديولوجية دينية؛ إذ لدينا فائضٌ في الأيديولوجيات الدينية، يكفي للتصدير إلى المنطقة كلها..!
أيضًا فإن جُزءًا كبيرًا من الخلل الذي أصابَ الحزبَ تمثلَ في مجموعةٍ من الشيوخ والضباط الذين استحوذوا على قيادةِ الحزبِ بعد العام 94م، ثم بعد المؤتمر العام السّابع بصورةٍ أكثر، وشكلوا ظاهرةً صوتيّة فقط، بلا نظرٍ سياسي أو معرفة علميّة تعينُهم على القيادة السياسية المرتكزة على سند معرفي، ببُعد استراتيجي عميق، وإن كان السّياسي المستنير الدكتور عبدالكريم الإرياني في قُمرة القيادة؛ لكنه الحلقة الأضعف بين عُتاة المشايخ والضباط المرتكزين على قبائلهم ونفوذهم.
والآن.. هل اتضحت الصُّورة؟ وهل سنستفيدُ من دروسِ الأمسِ في طريقنا نحو الغد؟ هذا ما يجبُ أن يكون، برؤىً عصريّة، قائمة على المعرفةِ وعلى البرامج، وقبل هذا وذاك.. أين الدولة؟!!!
المصدر: المشهد اليمني
كلمات دلالية: المؤتمر الشعبی العام علی عبدالله صالح الحزب الاشتراکی الوحدة الیمنیة ة التنظیمیة ة السیاسی ة هذه الفترة التنظیمی ة ة للمؤتمر فیما بین من العام سیاسی ة العام ا ة التی صالح ا ما بین
إقرأ أيضاً:
مؤشرات تنافسية عُمان وتحديات تعزيز الأداء المؤسسي
يلاحظ أن معظم دول العالم تولي المؤشرات الدولية أهمية متزايدة، وذلك لكونها أداة تقييمية تستخدم لقياس مستوى أداء قطاعات العمل المختلفة. أيضا المؤشرات تصدر عن هيئات ومؤسسات دولية محايدة غالبا تستخدم في جمع بياناتها طرقا كمية ونوعية. ومع ذلك، فإن تلك المنظمات قد تتأثر في أحيان كثيرة بالتوجهات السياسية ومؤسسات التأثير الدولية، مما يفقدها بعض من العدالة والموضوعية. ويظهر ذلك جليا على سبيل المثال، في مؤشر حرية الصحافة العالمي، فعلى الرغم من الانتهاكات الجسيمة المتمثلة في قتل الصحفيين في قطاع غزة، فإن تقييم دولة الاحتلال الإسرائيلي لم يتأثر كثيرا في مؤشر حرية الصحافة، ما يعكس اختلالا في الجوانب الأخلاقية للمعايير التي تستخدمها بعض منظمات التقييم الدولية.
ويكمن أحد التحديات أيضا في أن العديد من المؤشرات الدولية تُصمم وفق معايير عالمية قد لا تراعي الجوانب الثقافية والدينية للدول، مما يجعل مواءمتها مع بيئة كل دولة أمرا ليس سهلا، لا سيما في مجالات منها: حقوق المرأة وحرية الإعلام المفتوح. كما أن المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالتقييم غالبا ما تكون خاضعة لخدمة مصالح الدول الكبرى، وتضع بقية الدول في موقع التلقي والتكيف، ما يفقد هذه المؤشرات الحيادية والشفافية في نتائجها.
على الصعيد الوطني، فإن استخدام المؤشرات الدولية - سواء كانت الرئيسة أو الثانوية - التي يتابعها المكتب الوطني للتنافسية قد تواجه بعض التحديات في علاقتها بالأداء المؤسسي للجهات الحكومية. ذلك أن هذه المؤشرات - في بعض الأحيان - لا تعكس بصورة مباشرة الأداء الفعلي للمؤسسات الحكومية، كما لا يتم توظيف نتائجها بشكل كاف في تعزيز الأداء المؤسسي. عليه فإن هذا المقال سوف يستعرض أمثلة لبعض من نتائج المؤشرات الدولية لأداء سلطنة عُمان وفق ما ورد بالنسخة الثالثة من تقرير تنافسية عُمان لعام (2024).
وفي هذا السياق، حصلت سلطنة عُمان على مرتبة متقدمة في مؤشر الأداء البيئي لعام (2024)، حيث جاءت في المرتبة الخامسة والخمسين من بين (180) دولة، محققة قفزة كبيرة مقارنة بالتقييم السابق، كما احتلت المرتبة الثانية خليجيا. وهذا التحسن الكبير يعكس الأداء المؤسسي المتميز للجهات الحكومية المعنية بالبيئة، وفاعلية البرامج والإجراءات المتبعة في هذا المجال.
أما بالنسبة لمؤشرات الحوكمة العالمية لعام (2024)، التي تشمل ست ركائز رئيسة هي: الصوت والمساءلة، والاستقرار السياسي وغياب العنف، وفاعلية الحكومة، والجودة التنظيمية، وسيادة القانون، والسيطرة على الفساد. فقد سجلت سلطنة عُمان أفضل ترتيب لها في مؤشر سيادة القانون؛ حيث حلت في المرتبة (64) من بين (214) دولة. وتعد هذه النتيجة متسقة مع الواقع، إذ إن مبدأ المساواة أمام القانون متجذر في النظام التشريعي لسلطنة عُمان. وفي المقابل، جاءت سلطنة عُمان في مرتبة متأخرة في مؤشر الصوت والمساءلة؛ حيث احتلت المرتبة (162). ورغم تحسنها بمقدار عشر درجات عن التقييم السابق، إلا أن درجتها لا تزال منخفضة بدرجة سالب (1). ومن الجدير بالذكر أن معظم دول الخليج العربية حصلت على مراتب متأخرة في هذا المؤشر، مما قد يشير إلى بُعد ثقافي أو سياسي مشترك.
وفيما يتعلق بمؤشر جاهزية الشبكات، فقد تقدمت سلطنة عُمان إلى المرتبة (50) عالميا في عام (2024). وبتحليل ركائز المؤشر فقد أحرزت تقدما في ركيزة واحدة هي التكنولوجيا، بينما شهدت انخفاضا في الركائز الثلاث الأخرى: المجتمع، والحوكمة، والتأثير. وهذا يعكس الأداء المؤسسي للجهات المشرفة على قطاع الاتصالات والتكنولوجيا وعدم تمكنها من تحقيق تقدم ملحوظ خلال السنوات الخمس الماضية. أما مؤشر الحرية الاقتصادية، فقد ارتفع ترتيب سلطنة عُمان بمعدل تسع وثلاثين مرتبة في عام (2024) عن العام السابق، لتحتل المرتبة (56) عالميا. كما شهد المؤشر تحسنًا خلال السنوات الخمس الماضية في أربع ركائز فرعية هي: حقوق الملكية، والإنفاق الحكومي، والصحة المالية، والحرية النقدية، بينما تراجعت نتائج المؤشر في ثماني ركائز أخرى، أغلبها مرتبطة ببيئة العمل الحكومي والجوانب الاقتصادية على سبيل المثال: نزاهة الحكومة، وحرية الأعمال، وحرية التجارة، وحرية الاستثمار، خلال الفترة نفسها.
ومما يلفت النظر أن المؤسسات الدولية تصدر تقارير إيجابية عن سلطنة عُمان، إلا أن الجهات الوطنية المختصة لا تبادر بتحديث تلك البيانات في تقاريرها الرسمية. فعلى سبيل المثال، هناك قفزة تاريخية في مؤشر مدركات الفساد لعام (2024)، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في فبراير من هذا العام؛ حيث حصلت سلطنة عُمان على المرتبة الخمسين عالميًا من بين (180) دولة. إلا أن تقرير تنافسية عُمان الصادر بعد أربعة أشهر تقريبًا في نسخته الثالثة لم يتطرق إلى هذا الإنجاز، بل تناول بيانات تعود إلى مؤشر عام (2023)، وهو لا يعكس سرعة الاستجابة في رصد نتائج المؤشرات الدولية التي تحققت فعليًا على أرض الواقع. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إصدار تقارير نصف سنوية بديلا عن سنوية، لضمان توفير بيانات حديثة يمكن الاستناد إليها في الخطط السنوية، وتعزيز الأداء المؤسسي للجهات الحكومية.
وفي السياق نفسه، فمؤشر السيطرة على الفساد - من مؤشرات الحوكمة العالمية - يثير ملحوظات مهمة. فقد حصلت سلطنة عُمان على المرتبة (84) عالميا، وهو ترتيب يبدو غير متناسق مع ترتيبها في مؤشر مدركات الفساد (المرتبة 50) عالميا مع اختلاف منهجيات التقييم. وقد يعزى هذا التفاوت إلى الفارق في عدد الدول التي يغطيها كل مؤشر؛ حيث يشمل مؤشر الحوكمة العالمية (214) دولة، بينما يغطي مؤشر الشفافية الدولية (180) دولة فقط. ولكن على سبيل المثال، في حال إعادة ضبط نفس عدد الدول في المؤشرين فإنه يؤدي إلى نفس نتيجة مؤشر مدركات الفساد، مما قد يعكس إلى حد ما دقة التقييم الذي حصلت عليه سلطنة عُمان في كليهما.
وإن كان هناك تحليل مميز في النسخة الثالثة من تقرير تنافسية عُمان للمؤشرات الدولية الرئيسية تضمن مقارنات مرجعية (Bench marking) على المستويين الإقليمي والدولي، وبما أن التقرير يتعلق بمستوى أداء سلطنة عُمان، فإنه كان من الأنسب أن يبدأ بالتحليل التفصيلي على الصعيد الوطني، ثم ينتقل إلى المقارنات الإقليمية، وبعد ذلك إلى المقارنات العالمية. على سبيل المثال، فإن تحليل مؤشر الاستقرار السياسي وغياب العنف ضمن - مؤشرات الحوكمة العالمية - للدول الخمس المتقدمة وهي: جيرسي جزر القنال، وجزر كايمان وليختنشتاين وأندورا وجرينلاند، من الأفضل أن تأتي في نهاية تحليل المؤشر؛ لأن التقرير مخصص لقراءة أداء سلطنة عُمان وليس لتسليط الضوء على تلك الدول التي لا تمثل أهمية بالنسبة للقارئ أو الباحث العماني من حيث معرفة ترتيبها سواء ارتفعت أم انخفضت.
كما أنه على المستوى المؤسسي في سلطنة عُمان، تعاني بعض الجهات الحكومية من صعوبة توفير البيانات الدقيقة والمحدثة التي تتماشى مع متطلبات المؤسسات الدولية المعدة للمؤشرات. ولهذا نجد بعض المؤشرات بياناتها مفقودة. ومن التحديات الأخرى أن بعض الجهات الحكومية تنظر إلى المؤشرات الدولية باعتبارها أدوات تقييم خارجي فقط، دون فهم كاف لمنهجياتها أو إدراك لإمكانات توظيفها في تحسين السياسات العامة أو إعادة هيكلة بيئة العمل. وهذا ما يُضعف من فاعلية هذه المؤشرات في تعزيز الأداء المؤسسي، رغم وجود خطط استراتيجية وسنوية في أغلب المؤسسات الحكومية. كما لا يتم تقييم الأداء المؤسسي للجهات الحكومية بناء على أدائها الفعلي في المؤشرات الدولية الرئيسة أو الثانوية.
إن استخدام مؤشرات تنافسية عُمان كأداة لتعزيز الأداء المؤسسي يعد خطوة محورية في دعم تنافسية أداء قطاعات الدولة وتحقيق أهداف التنمية الشاملة. غير أن النجاح في هذا المسار يتوقف على مدى قدرة تعاطي المؤسسات الحكومية مع نتائج المؤشرات الدولية الرئيسية والثانوية وتوظيف نتائج تلك المؤشرات بفاعلية أفضل نحو تعزيز الأداء المؤسسي للجهات الحكومية.