الآثار السُّودانيَّة.. إنهم يسرقون التاريخ!
تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT
قبل عشر سنوات من تاريخ نشر مقال الدُّكتور الدبلوماسي حمد عبد العزيز الكواري، رئيس مكتبة قطر الوطنية، بعنوان “السُّودان … جرح الحضارة النَّازف: تدمير المتحف القوميِّ السُّودانيِّ”، أعدَّ الصَّحفيَّان رجاء نمر وحسن أبو الرِّيش تحقيقًا صحفيًّا عن الآثار السُّودانيَّة بعنوان “الآثار السُّودانيَّة: إنَّهم يسرقون التَّاريخ”، نشرته صحيفة التَّيَّار في يوليو 2015.
والآن يشهد السُّودان أكبر عمليَّة نهب في تاريخه، بعد العمليَّة الَّتي قام بها الطَّبيب الإيطاليُّ جوزيبي فريليني (1797-1870)، الَّذي رافق حملة غزو محمد علي باشا للسُّودان عام 1820. وبعد انتهاء خدماته مع الجيش الغازي عام 1934، أخذ فريليني إذناً من خورشيد باشا، حكمدار عام السودان؛ للتنقيب في بعض المواقع الأثرية، ثم شدّ رحاله إلى مرويِّ البجراويَّة ومنطقة جبل البركل ونوري، وقام بتفجير العديد من الأهرامات بحثًا عن الذَّهب والمجوهرات الكوشيَّة. ويقال إنَّه قد سرق مقتنيات مقبرة الملكة أماني شكتو (Amanishakheto)، وبعد عودة إلى بلاده سارع بعرضها على المتاحف الأوروبِّيَّة في ميونخ وبرلين. وقد وثَّق لهذه العمليَّة الإجراميَّة بول ثيروكس Paul) Theroux)، الرِّوائيَّ الأمريكيَّ، الَّذي أكَّد أنَّ فريليني قد قام بنسف قمم الأهرامات بالدِّيناميت، فشوِّهها وأفقدها قيمتها الجماليَّة وطمس أسرارها، وسرق مكتنزاتها الثمينة. والعملية الثانية تحدث الآن أمام أعيننا، حيث نُهبت آثار ومقتنيات متحف السودان القومي وغيره من المتاحف الأخرى. لمزيد من التفصيل، ينظر:
(Yvonne Markowitz and Peter Lacovara, “The Ferlini Treasure in Archeological Perspective”, Journal of the American Research Center in Egypt, Vol. 33 (1996), pp. 1-9).
(2)
متحف السُّودان القوميِّ ونهب آثاره
يُعَدُّ متحف السُّودان القوميِّ في الخرطوم، أكبر المتاحف السُّودانيَّة على الإطلاق. بدأ العمل فيه في النِّصف الثَّاني من ستينيَّات القرن العشرين، واُفتتح عام 1971 في عهد حكومة مايو (1969-1985). ويحتلَّ المتحف موقعًا متميِّزًا في العاصمة الخرطوم، إذ يطلُّ على شارع النِّيل وجوار مبنى قاعة الصَّداقة، ويفتح مدخله الرَّئيس صوب النِّيل الأزرق، وقبل التقاء النِّيلين في منطقة المقرن. وقد صُمَّمت مباني المتحف بطريقة رائعة، إذ يوجد في فناء مدخله الرَّئيس متحف مفتوح، يحتوي على عدد من المعابد والمدافن والنَّصب التِّذكاريَّة والتَّماثيل، الَّتي تعكس طرفًا من الآثار النَّوبيَّة السُّودانيَّة الَّتي غمرتها مياه السَّدِّ العالي، وقد وضعت هذه القطع الآثاريَّة حول حوض مائيّ، تعطي الزَّائر انطباعًا بأنَّها في موضعها الأصليِّ. وكانت قاعات المتحف تحتوي على مقتنيات أثرية من مختلف أنحاء السودان، يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث تشمل الآثار الحجرية، والجلدية، والبرونزية، والحديدية، والخشبية، الأدوات الفخارية، والمنحوتات، والصور الحائطية، فضلاً الآثار المسيحية والإسلامية، التي تشكل جزءًا من هوية السودان.
وعندما اقتحمت قوَّات الدَّعم السَّريع مباني متحف السودان القومي في بداية هذه الحرب اللَّعينة تطير العارفون بمقتنياته شرًّا، وبعد تحرير الخرطوم نقلت عدسات القنوات الفضائية أنَّ مقتنيات المتحف قد نهبت. ولذلك وصف الكواري ما حدث بأنَّه: “أمر محزن… أنَّ نرى التَّاريخ يباد تحت أقدام الطَّامعين، وأن يُسرق ما لا يعوِّض، ويُطمس ما لا يُقدَّر بثمن”. نعم، يمكن إعادة إعمار الأضرار المادِّيَّة التي لحقت بمباني المتحف، و”لكن كيف يُعاد ما سُرق؟ كيف تُبعث من جديد قطع أثريَّة عمرها آلاف السِّنين؟ كيف يُعوِّض شعب تُسلب ذاكرته وهو ينزف؟ إنَّ ما يحدث في السُّودان ليس مجرَّد حرب على السُّلطة، بل هو جريمة في حقِّ الحضارة، جريمة ترتكب أمام أعين العالم، الَّذي يراقب بصمت، بل ويُسهم البعض في إشعالها. وما يُؤلم أكثر، أن تُمحى آثار هذا البلد العظيم، بينما أهل السُّودان يُواجهون القتل والتَّشريد والجوع، ويُترك وطنهم فريسةً للصِّراعات وأطماع العابثين”.
(3)
أسئلة الكواري تحتاج إلى إجابات ممكنة؟
عليه يُرفع النداء إلى أبناء السُّودان الحادِّبين على الحفاظ على آثارهم التَّاريخيَّة أن يشرعوا في القيام بحملة لإعادة ما نُهب. فمقتنيات السُّودان الأثريَّة ليست لها علاقة بدولة “56” المزعومة، بل تشكِّل جزءًا من تاريخ البلاد وهويَّتها، والشعب الذي لا يحافظ على تاريخه، لا يستطيع أنَّ يبنّي مجدًا حاضرًا. فالإجابة عن أسئلة الكواري تحتاج إلى وعي بقيمة الآثار المنهوبة، وإلى عمل منظَّم يبدأ بالحفاظ على الموجود، والبحث عن المنهوب وسبل إرجاعه؛ وذلك عملًا بالمثل السُّوداني القائل: “الجفلن خلِّهنَّ أقرع الواقفات”. فنبدأ بالحفاظ على الموجود، ثمَّ نشرع في استرداد المنهوب. فمشوار الألف ميل يبدأ بخطوة.
السوداني
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: متحف الس
إقرأ أيضاً:
محرقة غزة تعيد كتابة التاريخ
في زمنٍ تتكسر فيه المدن تحت الأقدام الثقيلة للحرب، وتتماوج الحقيقة بين دخان القصف وضجيج الإعلام، برزت غزة لا كمساحة صغيرة على خارطةٍ محاصَرة، بل كجبهة سردية كبرى تُعاد عبرها صياغة الوعي العالمي. فالمحرقة التي فُتحت أبوابها في أكتوبر 2023 لم تكن مجرد فصل دموي في الصراع، بل لحظة مفصلية انشقّ فيها المشهد السياسي والأخلاقي أمام عدسات العالم، وبدأت رواية جديدة تتشكل من قلب النار.
منذ 1948، نجحت إسرائيل في بناء هيمنة محكمة على الوعي الغربي، عبر شبكة مركّبة من الإعلام والسينما والجامعات واللوبيات. كانت الرواية الصهيونية تُروَّج كقدر تاريخي لا يُناقش: دولة صغيرة محاطة بالأعداء، تناضل للبقاء في مواجهة “تهديد فلسطيني” دائم. لكن حرب السابع من أكتوبر شقّت هذا الجدار القديم، ليس بسلاح المقاومة فقط، بل بقوة الصورة، وقسوة الحقيقة، وسقوط اللغة الرسمية في امتحان الأخلاق.
لم يعد الفلسطيني مجرّد موضوعٍ يُغطّيه مراسل أجنبي؛ صار هو المراسل والشاهد والضحية وصاحب الرواية. من هواتف محمولة ترتجف بين الأنقاض، خرجت صور لا يمكن لأي غرفة أخبار أن تُهذّبها، ولا لأي دعاية أن تطمسها. وفي تلك اللحظة، بدأت توازنات السرد في الانقلاب: شبكات عالمية اضطرت لمراجعة مسلّماتها، وصحف كبرى تخلّت عن كثير من احترازها اللغوي، ومنظمات أممية وجدت نفسها أمام وقائع لا تستطيع أن تُخفيها خلف مفردات “الاشتباكات” و”التوترات”.
في المقابل، واجهت إسرائيل تحديًا وجوديًا في المجال الأهم: المجال الرمزي. فالسردية التي بنتها على مدى عقود—بالقوة والدعاية—بدأت تتهاوى أمام عين طفل يبكي أمام كاميرا هاتفه، وأمام أم تبحث عن فلذات أكبادها تحت الركام. سقطت روايات “تحرير الرهائن” و”القضاء على حماس” أمام الأدلة الدامغة على المجازر؛ وتورّطت منظومة الاحتلال في تناقضات أحرجت حلفاءها قبل خصومها. حتى الإعلام العربي، الذي وقع كثير منه في فخ الحياد المزيّف، بدا عاجزًا عن ملاحقة حجم الحقيقة التي تفجّرت من غزة.
لكن التحول الأكبر تجلّى في الشارع العالمي. من نيويورك إلى باريس، من الجامعات الأميركية إلى النقابات البريطانية، خرجت الجماهير لا بوصفها مؤيدة لفصيل، بل بوصفها شهودًا على جرح إنساني أكبر من كل الحسابات السياسية. لم يعد الدعم لإسرائيل بديهيًا في الغرب، ولا النقد محرّمًا. تفككت القداسة القديمة وعاد السؤال الأخلاقي إلى الواجهة: من يقتل من؟ ومن يعيش فوق دم من؟ وفي هذا السياق، جاء قرار إدارة ترامب بربط المساعدات الفيدرالية للمدن الأميركية بعدم مقاطعة إسرائيل، لا كقانون إداري، بل كوثيقة خوفٍ سياسي من انهيار السردية الصهيونية داخل الحاضنة الغربية نفسها.
في هذه المعركة، لم تنتصر غزة لأنها الأقوى عسكريًا، بل لأنها الأصدق. لأن الرواية حين تخرج من قلب المجزرة لا تحتاج إلى زخرفة أو وسيط. ولأن الدم الذي يصبح صورة، يتحول إلى وثيقة، ثم إلى موقف، ثم إلى تاريخ يُدرَّس للأجيال. لقد أعادت غزة تعريف معنى القوة في زمنٍ تحكمه الصور، حيث لم تعد الغلبة لمن يمتلك الدبابة، بل لمن يمتلك الحقيقة.
اليوم، يقف الكيان الإسرائيلي أمام أخطر تهديدٍ في تاريخه الحديث: فقدان السيطرة على الرواية. فكم من جيش هُزم في الوعي قبل أن يُهزم في الميدان، وكم من دولة سقطت عندما سقطت شرعيتها الأخلاقية أمام العالم. ومع كل مقطع يُبث من غزة، تتراكم حجارة جديدة في جدار الحقيقة، وتنهار طبقات جديدة من الزيف الذي بُني على امتداد عقود.
أما غزة، فهي في هذه اللحظة ليست مدينة محاصرة، بل مركز جاذبية أخلاقية وسياسية. مدينة صغيرة تعيد ترتيب خرائط القوى الكبرى، وتفرض على العالم درسًا جديدًا: أن السردية ليست ملحقًا بالحرب، بل هي الحرب نفسها؛ وأن من يمتلك الحكاية يمتلك التاريخ؛ وأن من يكتب وجعه بيده لا يمكن لأحد أن يسرق صوته.
وهكذا، بينما ينهار الصمت العالمي وتتشكل تحالفات الوعي الجديدة، تكتب غزة—بدم الشهداء وصمود الأحياء—فصلًا جديدًا في ملحمة الإنسانية. فصلًا لا يمكن محوه، ولا يمكن تزويره، لأنه خرج من مكانٍ لا تستطيع الدعاية الوصول إليه: من قلب الحقيقة.
*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني