جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-13@16:49:33 GMT

عندما انتهى بناء القارب.. جف النهر

تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT

عندما انتهى بناء القارب.. جف النهر

 

 

علي بن سالم كفيتان

أسير وحيدًا على شط نهر منقطع؛ فبعد كل مسافة أجد بحيرة تحفها نباتات الخوص (نخيل السعف)، وهي تتراقص مع نسمات الهواء الباردة القادمة من لُجة الوادي السحيق خلفي، يشعرني ذلك بالسُّمو، ويتبادر إلى ذهني فيلم أسكتلندي بطله رجل حارب الإقطاع والعبودية، وأسمع وقع خُطاي على حصباء الوادي، وأتابع صدى تلك الخطى في أنحاء المكان، أقف التفتُ إلى الخلف أحسُّ أن أحدًا يتبعني، لكنني لا أرى سوى بقايا هذا النهر العظيم الذي نحتته السنون؛ فأصبح غائرًا لدرجة تشعرك أنَّك تسير في بلاط قصر نبي الله سليمان عليه السلام.

أستفيق من أحلامي وتصوراتي تلك، وأقول لنفسي رحل جميع الأنبياء والرسل وبقيت الرسالات. أُلملم نفسي وأبحث عن جدول صغير على أطراف هذه البحيرة القابعة في عمق الصحراء لأتوضأ للصلاة. صوت خيط الماء المتدفق من بين تلك الصخور الصماء القاسية يمنحني أقرب صورة للفرق بين الحياة والموت. وجَّهتُ نفسي إلى القبلة ورفعت الآذان وحيدًا هنا، وقبل أن انتهي تدافعت العَبرات، وخفت صوتي، مستحضرًا عظمة الخالق وضعف المخلوق، وبعد الإقامة والدخول في الصلاة، لامستْ يدٌ غريبة كتفي الأيمن؛ فاقشعرَّ بدني.. من يا ترى سيكون في هذا المكان القصي الموحش؟!

كانت صلاتي قصرًا، عندما ركعت لمحت رأس رجل أشعث مخضب بالشيب، وأطراف وجه أسمر تلفه التجاعيد، وجسد شاحب نحيل، وأصابع طويلة ترقد على ركبتيه. أتممتُ الركعتين، وعند السلام ظل الرجل الفارع القامة مطرقًا بنظره إلى أصابعه الخشنة التي تعلوها الكثير من الندوب، وهو يكمل التسبيح. مددتُ يدي للسلام، فسلَّم واعتدل في جلسته على الحصباء، ودار حديث عميق بيننا، علمتُ فيما بعد أنه قدم من أرض بعيدة تشبه هذه الأرض، تنبت فيها ذات الشجرة المقدسة الباقية على هذه السفوح والقيعان (شجرة اللبان)؛ وبما أن الإنسان اجتماعي بطبعه- كما يقول ابن خلدون في مقدمته- سكنتْ نفسي بوجود هذا الرجل، ولم أعد أشعر بالخوف والوحشة من الوحدة؛ فالمسار لا زال طويلاً إلى منابع النهر. قضينا تلك الليلة معًا، بعد أن أوقدنا النار، وطبخنا ما تيسر من مُعلَّبات كنتُ أحملها في حقيبتي، فقد كان الضيف زاهدًا في كل شيء في الأكل، وحتى عندما يستل قربته الجلدية ليشرب يأخذ بضع رشفات فقط، رغم أننا على أطراف بحيرة تنضح من أطرافها عدة ينابيع، ومع كل ذلك كنت متوجسًا منه، بحكم تربيتنا الريفية على الحذر من كل غريب. لم يكن يحمل سلاحًا ناريًا، وكان لديه جزرة وعصا فقط، وقصَّ عليَّ رحلته الكاملة من بلاد الصومال إلى اليمن، وحتى وصوله إلى عُمان؛ فتمنيتُ لو حولت إلى فيلم سينمائي بإخراج عالمي استمرت جلستنا من قبيل المغرب إلى التاسعة ليلًا أستأذن بعدها لقضاء حاجته، ولكنه لم يعُد. ولجتُ إلى خيمتي القماشية وأشعلت مصباحًا صغيرًا وفتحت هاتف الثريا لأتأكد أنه موصول بالأقمار الصناعية، وأنه يعمل، فأجريتُ اتصالًا بأعضاء فريق المسح الذي يعمل بشكل متوازٍ في عدة أودية مجاورة.

فجر اليوم التالي، حزمتُ أمتعتي ومضيتُ مرات أتسلق ومرات أخوض المياه، حتى وجدت بقايا أخشاب لا زالت تجمعها حبال قذفتها السيول على ما يبدو إلى ضفة النهر الجاف هذا، فامتلكني الفضول للتدقيق في الأمر، ما عساه يكون؟ فقلت لعلها أتت من كهف يسكنه أناس وأتى عليه الفيضان، لكن الأمر يبدو مختلفًا من حيث توازي أطوال الأخشاب وطريقة ربطها، وحتى الحبال المستخدمة هي من شجرة النارجيل، يبدو لي أنه بقايا قارب بدائي مصنوع من الأدوات المحلية. هنا تسابقت إلى مخيلتي الكثير من التساؤلات؛ هل يكون هذا هو آخر القوارب التي أبحرت في نهر أنظور عزز وجود بقايا القلعة وأبراج الحراسة ومخازن اللبان المطلة على واحة أنظور المهيبة؟! من هذا التصور الخيالي لنهر يجري وقوافل لبان تمخر المنحدرات محملة باللبان إلى ميناء مائي تعج فيه حركة البيع والشراء تكمل بعده المراكب حمل البضاعة إلى المحطة النهائية التي يذوب فيها النهر في الصحراء.

فكرتُ مليًا في صانع هذا القارب القابع اليوم على ضفاف وادي قاحل جاف وكيف حاول بكل ما يملك أن يجعله أحد أعظم القوارب التي سوف تبحر يومًا ما ولكنه لم يبحر أبدًا. يبدو أن النهر جف عندما انتهى بناء القارب!

*****

القصة مستوحاة من جولة عمل بيئي في وادي أنظور بمحافظة ظفار في ديسمبر 2004 استمرت لعدة أيام برفقة خبراء من عدة جهات لتقييم الأودية الجافة المنحدرة من جبل سمحان إلى صحراء الربع الخالي.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

كوشنر في ساحة الرهائن: منذ 7 أكتوبر لم يطمئن قلبي.. الآن انتهى الكابوس

قال جاريد كوشنر، صهر ترامب، الذي شارك في اتفاق إنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن، كان السابع من أكتوبر يوما عصيبا على،  شاهدتُ الفيديوهات وسهرتُ الليل كله، بكيت، صدمتني رؤية الأعمال التي ارتُكبت في ذلك اليوم والفظائع الوحشية، لدرجة أنني لم أعد كما كنت. 

منذ ذلك اليوم، لم يطمئن قلبي". وأضاف في خطابه في ساحة الخاطفين: "الآن انتهى كابوس المختطفين. لن نحتفل اليوم، بل سنحتفل يوم الاثنين عندما تنتهي المرحلة الأولى".

وجه المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسي و القادة العرب، للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك خلال إلقاء كلمته في ساحة المختطفين في تل أبيب.

وسط أجواء من الحماس والترقّب، شهد ميدان الرهائن في تل أبيب مساء السبت، توافد آلاف الإسرائيليين للمشاركة في المسيرة الرئيسية التي تُختتم بها عامان من الاحتجاجات الأسبوعية.


ووصل إلى الساحة كل من مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وإيفانكا ترامب وزوجها جاريد كوشنر، حيث قوبلوا بتصفيق حار من الحضور.


ووفقًا لصحيفة معاريف أونلاين، عقد المبعوثون الأمريكيون اجتماعا خاصا مع عائلات المختطفين، لمناقشة أوضاع ذويهم وتطورات تنفيذ اتفاق تبادل الأسرى الأخير. ومن المقرر أن يُلقي ويتكوف كلمةً أمام المشاركين في المسيرة الجماهيرية لاحقا الليلة.


وتأتي الزيارة في وقت تشهد فيه إسرائيل حالة من الترقّب الشعبي عقب توقيع اتفاق شرم الشيخ، وسط تصاعد الآمال بإنهاء معاناة المختطفين وعودة جميع الأسرى إلى ديارهم في أقرب وقت.


 

طباعة شارك جاريد كوشنر صهر ترامب المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف عبد الفتاح السيسي

مقالات مشابهة

  • ترامب: كابوس طويل انتهى.. فجر جديد للسلام في الشرق الأوسط
  • ترامب: سنفعل شيئًا لا يُصدق.. وأشيد بالدول العربية التي تعهدت بإعادة إعمار غزة
  • الصدّي من نهر الكلب: حملة شاملة لتنظيف النهر وإنهاء التعديات والتلوث
  • الرئيس الأمريكي:  الصراع في غزة انتهى
  • بعد الهجوم على لبنان.. قيادي حوثي يحذّر: يبدو أن الإسرائيليين يريدون العودة للملاجئ!
  • قانون الموارد المائية والري الجديد يشدد الإجراءات لحماية مجرى نهر النيل من التعديات
  • السيسي بافتتاح "أسبوع القاهرة للمياه": أرحب بكم في هبة النيل أرض النهر الخالد
  • كوشنر في ساحة الرهائن: منذ 7 أكتوبر لم يطمئن قلبي.. الآن انتهى الكابوس
  • د. هبة عيد تكتب: المزحة التي خرجت عن السيطرة.. عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى فوضى رقمية
  • خفر السواحل يضبط قارب تهريب يقل 41 مهاجرًا أفريقيًا في باب المندب