تتصاعد المواجهة التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم بوتيرة غير مسبوقة منذ عقد، إذ تبدو كل خطوة من واشنطن تقابلها بكين بخطوة مماثلة، في مشهد باتت ملامحه أشبه بمباراة شطرنج على مستوى الاقتصاد العالمي.

فمع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على جميع الواردات الصينية ابتداء من 1 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ردت الصين بإجراء مفاجئ شمل تشديد القيود على تصدير المعادن النادرة والمواد التي تحتوي حتى على "آثار ضئيلة" منها، في خطوة وصفتها وكالة بلومبيرغ بأنها "تحول إستراتيجي يعكس استعداد بكين لمجاراة واشنطن بأسلحتها التجارية نفسها".

مشهد متوتر ومترابط

ووفقا لتقرير وكالة بلومبيرغ، جاء هذا التصعيد بعد أسابيع من سلسلة قرارات أميركية هدفت إلى توسيع قيود تصدير الرقائق والبرمجيات العالية التقنية إلى الصين.

وردت بكين بتدابير تشمل منع الشركات في دول ثالثة من شحن أي منتجات تحتوي على عناصر أرضية نادرة مصدرها الصين من دون ترخيص مسبق.

الصادرات الصينية تحقق قفزة تاريخية رغم تصاعد الرسوم الأميركية (غيتي)

وترى بلومبيرغ أن هذه الخطوات "تعكس نهاية مرحلة ضبط النفس الصيني، وبداية انتهاج سياسة رد بالمثل على الطراز الأميركي".

في المقابل، أكدت مصادر من مورغان ستانلي ونومورا بنك للوكالة نفسها أن هذا التصعيد "لن يمنع على الأرجح انعقاد اللقاء المرتقب بين الرئيسين في كوريا الجنوبية" خلال قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك)، والمتوقع عقدها قبل انتهاء الهدنة الجمركية في 10 نوفمبر/تشرين الثاني.

صادرات الصين تتحدى الرسوم الأميركية

ورغم التهديدات الأميركية، نشرت بلومبيرغ إيكونوميكس بيانات تُظهر أن الصادرات الصينية ارتفعت في سبتمبر/أيلول بنسبة 8.3% مقارنة بالعام الماضي، لتصل إلى 328.6 مليار دولار -وهي أعلى قيمة شهرية منذ مطلع 2025- متجاوزة توقعات المحللين البالغة 6.6%.

إعلان

لكن الأهم هو التحول في هيكل التجارة الصينية، فبينما تراجعت الصادرات إلى الولايات المتحدة بنسبة 27%، قفزت الصادرات إلى الأسواق الأخرى بنسبة 14.8%، وهو ما وصفته بلومبيرغ بأنه "أسرع معدل نمو منذ مارس/آذار 2023".

وقالت ميشيل لام، كبيرة الاقتصاديين لمنطقة الصين الكبرى في سوسيتيه جنرال، إن "صادرات الصين ظلت متماسكة رغم الرسوم الأميركية بفضل تنويع الأسواق وقوة التنافسية الصناعية"، مضيفة أن "الحدود المحدودة لتأثير الرسوم حتى الآن شجعت بكين على اعتماد موقف أكثر تشددا في التفاوض".

خريطة جديدة للأسواق

وكشفت بيانات الجمارك الصينية أن الصادرات إلى أفريقيا ارتفعت بنسبة 56% في سبتمبر/أيلول، وهي الأعلى منذ فبراير/شباط 2021، في حين زادت الصادرات إلى أميركا اللاتينية بنسبة 15% بعد فترة تراجع، وارتفعت إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 14%، وهي الأكبر منذ أكثر من 3 سنوات.

الأرقام التجارية الأخيرة تمنح بكين موقعا تفاوضيا أقوى أمام واشنطن (غيتي)

كذلك قفزت الصادرات إلى فيتنام بنحو 25%، وذلك يجعلها -بحسب تحليل كابيتال إيكونوميكس الذي نقلته بلومبيرغ- "المحور الأبرز لإعادة توجيه البضائع الصينية نحو السوق الأميركية عبر دول وسيطة".

هذا الاتجاه -الذي تصفه بلومبيرغ بأنه "تكيف هيكلي في سلاسل التوريد"- يعكس انتقال الصين من الاعتماد على سوق واحدة إلى شبكة توزيع متعددة تتيح لها امتصاص آثار الرسوم والعقوبات.

المعادن النادرة ورقة ضغط مركزية

وفي قلب هذا الصراع، تبرز ورقة المعادن النادرة التي تسيطر الصين على 70% من إنتاجها العالمي وفقا لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية التي أوردتها بلومبيرغ.

وتُستخدم هذه المعادن في تصنيع الرقائق الدقيقة، والمغناطيسات العالية الأداء، والسيارات الكهربائية، والأنظمة العسكرية، مما يجعلها عنصرا إستراتيجيا في الاقتصاد الحديث.

وقالت بلومبيرغ إن الإجراءات الصينية الأخيرة "تعكس رغبة بكين في كسر احتكار واشنطن لمفهوم الهيمنة التكنولوجية، وتحويل المعادن النادرة إلى أداة نفوذ تعادل قوة الدولار الأميركي في السياسة الاقتصادية".

بكين ترغب في كسر احتكار واشنطن لمفهوم الهيمنة التكنولوجية، وتحويل المعادن النادرة إلى أداة نفوذ تعادل قوة الدولار الأميركي في السياسة الاقتصادية

واشنطن في مأزق داخلي

على الجانب الآخر، يواجه ترامب ضغوطا اقتصادية داخلية متزايدة مع اقتراب موسم التسوق الأميركي، إذ حذرت تقارير من احتمال "فراغ رفوف المتاجر خلال عطلة عيد الميلاد" بسبب اضطراب الإمدادات الصينية.

كما أشار خبراء إلى أن توقف الصين عن شراء فول الصويا الأميركي سيعمق الخسائر في الولايات الزراعية التي تشكل قاعدة انتخابية أساسية لترامب.

اعتماد واشنطن على واردات المعادن الحساسة يحد من قدرتها على التصعيد (رويترز)

وفي الوقت نفسه، قد يخسر الرئيس الأميركي ورقة الاتصال المباشر مع الشباب إذا فشلت صفقة تيك توك الجديدة التي سبق الاتفاق عليها لإبقاء التطبيق داخل السوق الأميركية.

ومع ذلك، نقلت بلومبيرغ عن مصادر في وزارة الخزانة أن الوزير سكوت بيسنت لا يزال "منفتحا على اتفاق تجاري مع الصين قبل نهاية الهدنة"، وأن جولة مفاوضات جديدة "قد تُعقد في فرانكفورت قبل 10 نوفمبر/تشرين الثاني".

من الحرب إلى إدارة التوازن

وبحسب بلومبيرغ إيكونوميكس، فإن الأداء القوي لصادرات الصين "يمنحها قدرة تفاوضية أعلى"، خاصة في ظل التباطؤ الداخلي وركود سوق العقارات، وهو ما قد يساعدها في بلوغ هدف النمو السنوي البالغ نحو 5%.

إعلان

ويرى لين سونغ، كبير الاقتصاديين في بنك آي إن جي، أن "الصين لا تسعى لحرب تجارية لكنها باتت مستعدة للرد حين تقتضي الضرورة"، مؤكدا أن "المرونة التي أظهرتها صادراتها خلال 2025 تدعم ثقتها في مواصلة النهج الحالي".

وفي خلاصة المشهد كما تصفها بلومبيرغ، فإن العالم يشهد أكبر اختبار لتوازن القوى الاقتصادية منذ الثمانينيات؛ ترامب يتحدث عن "الورقة الرابحة"، وشي جين بينغ يرد بلغة الأرقام والإنتاج.

وبينما تحاول واشنطن فرض ضغوط عبر الرسوم والتقييد، تعتمد بكين على سلاح الأسواق البديلة والمعادن الإستراتيجية. وفي كلتا الحالتين، تشير بلومبيرغ إلى أن "منسوب التصعيد بلغ مرحلة يصعب فيها العودة إلى الوضع الطبيعي"، وأن التجارة العالمية تتجه نحو نظام مزدوج الأقطاب، حيث لم يعد التفوق الأميركي مضمونا كما في السابق.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات المعادن النادرة الصادرات إلى

إقرأ أيضاً:

الصين تتعهد برد صارم على رسوم ترامب

صعدت الصين لهجتها ضد الولايات المتحدة، منددة بشدة بخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على الصادرات الصينية، مؤكدة أنها سترد بإجراءات مضادة حاسمة لحماية مصالحها الوطنية.
وقالت وزارة التجارة الصينية، في بيان رسمي، وفقا لشبكة "سي إن بي سي"، إن واشنطن واصلت فرض سلسلة من القيود الجديدة ضد الصين منذ المحادثات التجارية الأخيرة في مدريد، بما في ذلك وضع شركات صينية على القوائم السوداء التجارية.
وأضافت الوزارة:"موقف الصين من الحروب الجمركية ثابت وواضح: لا نرغب في القتال، لكننا لا نخاف من القتال".
وانتقدت بكين التهديد المتكرر بفرض رسوم مرتفعة واعتبرته أسلوبا خاطئا للتعامل معها، محذرة من أنها "سترد بلا تردّد" إذا أصرت الولايات المتحدة على هذا النهج.
وكان ترامب قد أعلن الجمعة أنه سيطبق قيودا واسعة النطاق على الصادرات تشمل "عمليا" كل ما تصنعه الصين، بما في ذلك جميع البرمجيات الحيوية، إلى جانب الرسوم الجديدة، ومن المقرر تنفيذ الإجراءات في موعد أقصاه الأول من نوفمبر، بحسب ما نشره عبر منصته "تروث سوشيال".
جاءت هذه التطورات بعد يومين من خطوات مضادة أعلنتها بكين، شملت توسيع القيود على صادرات المعادن النادرة والتقنيات المرتبطة بها، وفرض رسوم على السفن الأمريكية في المواني الصينية، وفتح تحقيق لمكافحة الاحتكار ضد شركة “كوالكوم” الأمريكية لصناعة الرقائق.
ومن المرجح أن هذه الإجراءات تهدف إلى زيادة الضغط على واشنطن قبل اللقاء المرتقب وجها لوجه بين ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج في كوريا الجنوبية.
وكان ترامب قد ألمح إلى احتمال إلغاء اللقاء، قبل أن يعود ويؤكد أنه "سيُعقد على الأرجح".
وأثارت القيود الصينية الجديدة على الصادرات مخاوف من اضطرابات في سلاسل الإمداد العالمية، إلا أن بكين أكدت أن تأثيرها سيكون "محدودا للغاية"، وأن الشركات ليست بحاجة إلى القلق، مشددة على أن أي طلبات للاستخدام المدني سيتم الموافقة عليها ما دامت تلتزم باللوائح.
وأعادت تصريحات ترامب القلق من نهاية فترة الهدوء النسبي في الحرب التجارية منذ التوصل إلى هدنة في مايو الماضي بجنيف، بعدما فرض الطرفان رسوما جمركية وصلت إلى 145% من جانب واشنطن و125% من جانب بكين.
ولم تصدر أية تعليقات فورية من البيت الأبيض أو مكتب الممثل التجاري الأمريكي أو وزارة الخزانة حول التصعيد الجديد.

طباعة شارك الصين فرض رسوم جمركية إضافية الصادرات الصينية

مقالات مشابهة

  • الصين تطالب الولايات المتحدة بالكف عن التهديد بالرسوم الجمركية
  • ترامب: أميركا تريد مساعدة الصين وليس إلحاق الأذى بها تجاريا
  • الحرب الاقتصادية الأميركية الصينية: من التعرفة الجمركية إلى معركة المعادن النادرة وانعكاساتها على الإقليم واليمن
  • ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية 100% على الواردات الصينية
  • بكين تتهم واشنطن بـ "ازدواجية المعايير" بعد فرض رسوم جديدة على السلع الصينية
  • الصين تتعهد برد صارم على رسوم ترامب
  • ما هي المعادن الأرضية النادرة.. محور تهديدات ترامب ضد الصين؟
  • بكين تلعب ورقتها الرابحة وتقنن تصدير معادنها النادرة.. نخبرك عن تجدد الخلاف بين ترامب وشي
  • ألمانيا تحذّر من القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة