الكيان الصهيوني مختبر الفاشية الغربية
تاريخ النشر: 13th, April 2025 GMT
مازن النجار
رغم أنّ الفاشية أحد مكوّنات المشروع الغربي الرئيسية الأربعة: الإمبريالية، والرأسمالية، والعنصرية، والفاشية، إلا أنها المكوّن الأكثر التباساً وتنكّراً في التجربة الغربية. ويتّفق مفكّرون غربيون على أنها لا تأتي إلا متدثّرة بالعلم القومي وتحمل صليباً أو متخفّية في صورة أيديولوجية مركّبة من العنصرية والدين والاشتراكية بمُسمّى “الاشتراكية القومية”، أو “إعادة أمريكا عظيمة” واسترداد الفوقيّة العنصرية البيضاء و”تلفيق الإجماع”.
أخيراً عادت الفاشية الغربية لتقمع حرية التعبير والحرية الأكاديمية والاحتجاج السلمي على الإبادة الإسرائيلية في غزة، بدعوى “محاربة عداء السامية” و”حماية اليهود”!
عودة الفاشية مُتنكّرة
يقول الكاتب البريطاني، جوناثان كوك، مؤخّراً في مقال بعنوان “الفاشية الجديدة: إسرائيل نموذجٌ لحرب ترامب وأوروبا على الحرية”، إنه ما كان للفاشية أن تعود أبداً إلى أوروبا أو الولايات المتحدة في رداء النازية. وما كان لها أن تصل أبداً مُرتديةً أحذية عسكرية ورافعةً صليب النازية المعقوف. في الحقيقة، كان يُتوقّع تماماً أن تصل مُتنكّرة، مُرتديةً بدلات رسمية أنيقة وجذّابة، على شاشات التلفزة، مُصوِّرة خصومها، لا نفسها، كنازيّين أشرار.
هنا تكمن فائدة “إسرائيل” مرة أخرى، فهي لم تُصبح نموذجاً للفاشية فحسب، مُحافظةً على أفكار الفوقيّة والتفوّق العرقي والاستعمار والإبادة الجماعية ومُجدِّدةً لها. بل طيلة عقود، سمحت أيضاً للغرب بإضفاء شرعية أخلاقية على الفاشية الإسرائيلية. وتمّ ترويج ودعم تسلسل الهرمية العرقية الإسرائيلية، التي تُضحّي بأرواح الفلسطينيين بالكامل، كضرورة “لحماية اليهود”.
بدورها، أتاحت هذه الفرضية للإبادة الجماعية أن تصبح قضية “محترمة” أخلاقياً. وهذا تحديداً ما جعل رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، قادراً على القول إنّ لإسرائيل “حقاً” في حرمان أكثر من مليوني رجل وامرأة وطفل فلسطيني من جميع أنواع الطعام والماء والوقود. إنّ الإبادة الجماعية التي كان سيرفضها ستارمر في ظروف أخرى (بل رفضها بالفعل) باتت مقبولة طالما أنّ “إسرائيل” هي من تقوم بها.
لهذا السبب، لم يحظَ تقرير الأمم المتحدة الصادر بشهر مارس 2025 عن “أعمال الإبادة الجماعية” الإسرائيلية باهتمامٍ يُذكر في وسائل الإعلام الغربية. يُظهر التقرير كيف جعلت “إسرائيل” الاعتداء الجنسي والاغتصاب – ضد فلسطينيين تعتقلهم تعسفيّاً – ممارساتٍ روتينيةً كأوراق مساومةٍ مقابل رهائن لدى حماس في غزة.
ولهذا السبب أيضاً، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مجرم الحرب المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية وغيرها والهارب من العدالة، موضع ترحيب العواصم الغربية، وكذلك جنرالاته الذين يرتكبون الإبادة الجماعية في غزة.
حساباتٌ مُشوّهة
إنّ تساهل الغرب المستمرّ مع تنوّع الفاشية الإسرائيلية الصهيونية قد سمح لأفكاره بالتسرّب بهدوءٍ إلى مجتمعاته، حيث لا تزال الصهيونية تُعامل باحترامٍ شبه مُبجّل.
وإذا كان تسلسل الهرمية العرقية أمراً جيداً في “إسرائيل”، فلماذا لا تكون كذلك في الولايات المتحدة وأوروبا؟ لهذا السبب، يُطلق قطاعٌ كبيرٌ من قاعدة ترامب على أنفسهم بفخرٍ لقب “الصهاينة البيض”. إنهم يرون في “دولة إسرائيل” اليهودية المحَصّنة نموذجاً للولايات المتحدة كدولة بيضاء محصّنة ضدّ مخاوفهم من “الاستبدال العظيم”.
إذا كانت “حماية اليهود” في “إسرائيل” تبرّر أيّ جريمة ترتكبها “الدولة” الصهيونية ضدّ الفلسطينيين، فلماذا لا تبرّر “حماية اليهود” أيضاً سلوك دول الغرب غير القانوني تجاه شعوبها؟!
فـ “حماية اليهود” تعني وجوب تجريم أيّ خطاب ينتقد “إسرائيل”، حتى مع ارتكابها جرائم حرب وإبادة جماعية، لأنّ هذا النقد يُسيء لمنظمات يهودية محلية تُشجّع “إسرائيل”.
يجب سحق الحرية الأكاديمية أيضاً، لحماية مشاعر الطلاب والأساتذة اليهود الذين يعتقدون أنّ المذبحة الجماعية لأطفال فلسطين ثمن مقبول لإعادة تأكيد الردع الإسرائيلي العسكري.
وبمنطق تبريري ذاتي، يُعتبر اليهود الغربيون الذين لا يسجدون لـ “إسرائيل” بحماس كافٍ من “النوع الخطأ من اليهود” أو “فلسطيني”، كإهانة جديدة وجّهها ترامب لتشاك شومر، زعيم الأقلية الديمقراطية (اليهودي) في مجلس الشيوخ الأمريكي.
في هذه الحسابات المشوّهة الأنانية لحقوق الإنسان، تُوضع حساسية اليهود الصهاينة في القمة، وحقّ الفلسطينيين في عدم التعرّض للقتل في القاع.
ولهذا تحديداً، تسعى السلطات الفيدرالية الأمريكية لإرساء سابقة باختطاف وترحيل محمود خليل، المقيم الدائم بشكل قانوني، لدوره في قيادة احتجاجات طالبيّة ضدّ الإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة.
ويُتهم، من دون أيّ دليل، بـ “الاصطفاف مع حماس” و”دعم الإرهاب” و”تبنّي آراء معادية للسامية” والرغبة في تدمير الغرب بواسطة التطرّف الإسلامي.
وكما جنّدت “إسرائيل” الذكاء الاصطناعي لاختيار المستهدفين بالإعدام في غزة، باستخدام أوسع فئات يُمكنها ابتكارها كمحفّزات خوارزمية، يستخدم البيت الأبيض الذكاء الاصطناعي لاختيار أوسع نطاق ممكن لمن هو [بزعمه] مُنحاز لحماس، ومن هو إرهابي ومعادٍ للسامية.
كذلك، تُلغى المنح الحكومية الفيدرالية لمؤسسات أكاديمية أمريكية بدعوى أنها لا تبذل جهوداً كافية لمعالجة “معاداة السامية”، أي لا تسحق الاحتجاجات ضدّ الإبادة الجماعية. ويتسارع انضمام الجامعات المطيعة لحملة القمع الحكومية.
تُصوّر إدارة ترامب هذه التحرّكات، ولا شكّ أنّ المزيد منها مقبل، كجزء من “الحرب على معاداة السامية” وهي امتداد لـ “الحرب على الإرهاب”.
في هذه العملية، تُهيّئ واشنطن أرضيةً لشيطنة شرائح واسعة من الطلاب الأمريكيين ومن الجالية اليهودية، خاصة الشباب اليهود الرافضين لارتكاب إبادة جماعية باسمهم. ويواجه الجميع الآن التشهير بهم بتهمة “الاصطفاف مع الإرهاب”.
وإدارة ترامب ليست الوحيدة في هذا. لقد هيّأت حكومة ستارمر ببريطانيا، كسابقتها، بعناية مناخاً سياسياً يُشوّه سمعة صحافيين وباحثين وطلاب ومنظمي احتجاجات وسياسيين وناشطين – وكثير منهم يهود – بوصفهم كارهين لليهود، وتعتبر احتجاجهم ضدّ الإبادة الجماعية عداءً للسامية.
وسّعت الحكومة البريطانية نطاق تشريعات الإرهاب القاسية، بصياغة غامضة وفضفاضة، للتحقيق والادعاء الجنائي على من تتهمهم بالتعبير عن آراء أو سرد حقائق تنتقد “إسرائيل” بشدة، وتوجيه الاتهامات إليهم – وترى الحكومة أن انتقاد “إسرائيل” قد “يشجّع على دعم” حماس.
حالياً، يتمّ نبذ حرية التعبير وحجب الحقّ في الاحتجاج والحرية الأكاديمية – كمبادئ أساسية للديمقراطية الليبرالية – على عجل، ويُفترض أنها تُشكّل تهديداً للديمقراطية!
تفاوت قيمة البشر
هناك نمطٌ لافت ومتكرّر من ممارسات الفاشية تتضح معالمه أكثر فأكثر.
لقد أعادت إدارة ترامب قانون الأعداء الأجانب، وهو تشريع غامض من القرن الثامن عشر صُمّم لمنح السلطة التنفيذية صلاحيات استثنائية لإخفاء (اعتقال) الأجانب أثناء الحرب من دون إجراءات قانونية واجبة. لم يُستخدَم هذا القانون إلا في ثلاث فترات تاريخية – آخرها لاعتقال عشرات الآلاف من ذوي الأصول اليابانية من دون محاكمة خلال الحرب العالمية الثانية.
جرّب ترامب هذا القانون للمرة الأولى على مجموعة يفترض أنّ أحداً لن يدافع عنها: أشخاص يصفهم مسؤولوه بالمجرمين الفنزويليين. لكنّ المؤكد أنّ الإدارة حريصة على توسيع نطاق تطبيقه.
كما استعانت إدارة ترامب الأولى بقانون غامض آخر، هو قانون التجسّس لعام 1917، لاستخدامه ضدّ جوليان أسانغ، وهو غير مواطن، معتبرةً عمله الصحافي الذي يكشف جرائم الحرب الأمريكية والبريطانية في العراق وأفغانستان “تجسّساً”. أُقرّ القانون على عجل خلال الحرب العالمية الأولى.
كان هدف واشنطن من استهداف أسانغ هو إرساء سابقة قانونية تُمكّنها من القبض على أيّ شخص، في أيّ مكان بالعالم، واحتجازه لأجل غير مسمّى كجاسوس.
والمؤكّد أنّ مسؤولين في إدارة ترامب يُنقّبون في كتب القوانين القديمة بحثاً عن قوانين أُهملت زمناً طويلاً، ويمكن إعادة توظيفها لقمع المعارضة وسجن من يقف في طريق إدارة ترامب.
لكن أسوأ السوابق قائمة بالفعل، وتُقدّمها “إسرائيل”.
إذا كانت “إسرائيل” تستطيع إبادة الشعب الفلسطيني الذي تضطهده منذ عقود لمنع ما تدّعي، بشكلٍ غير معقول، أنه تهديد وجودي مستقبلي من جماعة مسلحة صغيرة، في حين تتلقّى دعماً غربياً قوياً، فلماذا لا تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا أن تحذو حذوها؟
بإمكانهما اللجوء إلى مزاعم مماثلة حول تهديد وجودي لتطبيع معسكرات الاعتقال، أو الترحيل، أو حتى برامج الإبادة الجماعية.
كان اليهود الألمان يعتبرون أنفسهم مواطنين ألماناً حتى قرّرت حكومة أدولف هتلر أنهم عنصر دخيل تُطبّق عليه قواعد مختلفة. لم يحدث ذلك بين عشية وضحاها. بل كان انزلاقاً تدريجياً تراكمياً في القواعد القانونية، أدى إلى تأكّل قدرة الجماعات المستهدفة على مقاومة اعتبارها كبش فداء، وتأكّل قدرة أنصارها على الاحتجاج، بينما انصاعت الأغلبية انصياعاً أعمى.
يؤكد جوناثان كوك أنه في الواقع، لم تختفِ الفاشية قط. لقد أوكل الغرب أمرها إلى دولة تابعة مهمتها، نيابةً عن الغرب، الترويج للأفكار القبيحة نفسها حول هرميّة وتفاوت قيمة البشر وحقوقهم في الشرق الأوسط. نحن نتعاطف مع “إسرائيل” إذ يُقال لنا إنها تُمثّلنا، وتُمثّل قيمنا وحضارتنا.
والحقيقة أنها كذلك، ولهذا السبب تقع مسؤولية 18 شهراً من الإبادة الجماعية في غزة علينا. هذه إبادتنا الجماعية. وقبل أن تكتمل، ستعود لتوجعنا!
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة حمایة الیهود إدارة ترامب فی غزة
إقرأ أيضاً:
ثاني «أضحى» يُنحر في غزة بسكين الإبادة
في صبيحة العيد التي لطالما كانت في غزة تضجّ بصياح الخراف والعجول وتكبيرات الأطفال المتحمسين لمشاهد الذبح وتوزيع اللحوم، حلّ مكان هذه الأصوات دويّ الطائرات الحربية الإسرائيلية، وأزيز الرصاص، وهدير المدافع. مشاهد الحياة التي كانت تُعاش في أسواق المواشي وساحات الذبح، استُبدلت بمشاهد أخرى: رائحة البارود، وجثامين الشهداء، وركام المنازل.
غابت الأضاحي هذا العام عن غزة، كما غابت البهجة والطقوس والعادات. لا زحام في المسالخ، ولا تجمعات حول اللحوم، ولا صوانٍ تُنصب لتوزيع حصص الفقراء، ولا أطفال يلهون بجانب المواشي بانتظار لحظة الذبح. حتى أصوات المعايدات اختفت، وخيّم الصمت الموجع في كثير من المخيمات والملاجئ.
ست مئة يوم ويزيد، وغزة ترتدي كفنها الأبيض، كأنها تعيش موسم الحِداد الأبدي، لا موسم الأعياد. قدّمت قوافل الشهداء والجرحى قرابينها على مذابح الإنسانية، حتى صار العيد يمرّ باهتًا، يتيماً بلا أبٍ ولا ولد، بلا ضحكة أو قبلة، ولا حتى كسرة كعكٍ من صينية العيد.
أحبابنا صاروا أضاحي بدلًا من الذبائح
"العيد ليس عيدًا، لا أضاحي، لا تكبيرات، لا بهجة، فقط موتٌ ودمار"، يقول سامي أبو نمر، وهو رجل في عقده الخامس من حي الشجاعية.
يتنهد قبل أن يُكمل: «كنّا ننتظر هذا اليوم لنذبح ونفرّح أولادنا، نوزّع اللحمة، ونُعطي العيديات للأطفال... اليوم نحن ندفن أحبابنا بدل أن نذبح الأضاحي».
ويتابع بنبرة منكسرة لـ«عُمان»: «العيد هذا العام لا يُشبه أي عيد عرفناه، لا طقوس، لا زيارات، لا رائحة شواء في الحارات، فقط رائحة الدم والركام».
محمود السراج، ربّ أسرة من مدينة غزة، اعتاد في كل موسم أضحى أن يشترك مع إخوته في شراء عجل لذبحه، إلا أن هذا العام جاء مختلفًا كليًّا.
يقول: «كنا قبل الحرب ندفع 500 دولار مقابل حصة من عجل، أما الآن فلا تجد عجلاً أصلاً، وإذا وجدته، فإن ثمنه يصل إلى أكثر من 3 آلاف دولار! من يملك هذا المبلغ اليوم؟».
عدس وحساء عظام.. مائدة العيد
ويتابع بحرقة: «حتى الخروف الصغير صار بعيد المنال، الأسعار وصلت إلى أرقام خيالية، والناس بالكاد تجد الدقيق لتطهو العدس، فكيف بأضحية؟».
ويوضح أن أهل غزة يلجؤون الآن إلى شراء حساء من دهون صناعية وعظام قليلة اللحم كمحاولة لتقديم شيء مختلف على موائدهم المعدمة، بعيدًا عن المعلبات التي باتت طعامًا يوميًا منذ بدء الحرب.
يؤكد السراج أن فرحة العيد سرقتها الحرب من قلوب أطفاله، وحوّلت العيد إلى ذكرى موجعة، حيث لا أصدقاء يزورونهم، ولا أقارب يقدّمون التهاني، بل جيران يعزّون بعضهم بفقدان الأحبة.
15000 شيكل للخروف.. من يقدر على ذلك؟
من جانبه، يقف نادر بدوي، صاحب مزرعة ماشية سابقًا، أمام منزله المدمر في جباليا، متحسرًا على ما ضاع. كانت مزرعته تعجّ بالعجول والخراف، وكانت أيام العيد بالنسبة له موسمًا للرزق والبركة. أما اليوم، فلم يتبقّ له شيء.
يقول: «مزرعتي قُصفت بالكامل، ماتت معظم المواشي بسبب القصف ونقص الأعلاف، ومن تبقّى ذُبح في بداية الحرب، اضطررنا لذلك حتى لا تموت جوعًا».
ويضيف أن الاحتلال يمنع دخول الأعلاف والأدوية البيطرية منذ شهور، ما جعل استمرار تربية المواشي مستحيلاً. أما الأسعار فقد ارتفعت بشكل جنوني. «الخروف الذي كان يُباع بـ1500 شيكل، صار الآن بـ15 ألف شيكل، وهذا مبلغ لا يقدر عليه إلا قلة قليلة جدًا».
ويؤكد أنه في مثل هذا الوقت من الأعوام السابقة كان يبيع قرابة 50 عجلًا وأكثر من 200 خروف، أما اليوم فلا يملك ولا رأسًا واحدًا.
يختم بدوي بأسى: «الناس لم تعد تهتم بالأضاحي، بل تسعى لتأمين طحين لأطفالها. الأولويات تغيّرت. الأضحية تراجعت أمام الجوع والقهر والخوف».
عيد تحت ركام الإبادة
يأتي عيد الأضحى هذا العام على قطاع غزة كأنّه امتحان قاسٍ لإرادة الحياة تحت ركام الإبادة. للمرة الثانية على التوالي، يغيب صوت الأضاحي، وتغيب زيارة الأحباب، وتُختزل الطقوس في دعاء النجاة لا في زينة العيد. لقد تحوّل العيد من مناسبة للبهجة إلى يوم ثقيل، محمّل بالحزن والفقد، تقاس فيه فرحة البقاء على قيد الحياة بدلًا من الفرح بالعيد. لا لحوم في الأسواق، ولا كعك على الأفران، ولا أطفال يركضون بثياب جديدة. الناس يبحثون لا عن الضحك بل عن وجبة تحفظ كرامتهم من الجوع، وعن مكان آمن يقون فيه أطفالهم من نيران القصف المستمر. المساجد والساحات صارت أماكن مهددة لا مراكز للفرح، والخيام باتت منازل العائلات لا مأوى مؤقتًا. فقد فُقدت مظاهر العيد، وحُوصرت في خنادق الدمار، وبقيت في مستشفيات القطاع بلا دواء تخيط جراح أرواح لا أجساد فقط. في عيد كهذا، تصبح الإنسانية امتحانًا صعبًا في زمن الوحشية، وتغدو الطقوس صرخة في وجه النسيان. أضحى بلا منسف.. أضحى بلا طعم.
في خيمة بلاستيكية مهترئة نُصبت على أنقاض منزلها في حي الشجاعية المدمر، كانت صابرين ذات الثمانية أعوام تجلس القرفصاء بجوار والدتها، تحدّق في حذاء بلاستيكي صغير أحضرته لها إحدى الجارات كهدية «عيد».
تنظر إليه مطولًا ثم تهمس لأمها: «هل ألبسه اليوم؟ هل يرانا أحد؟». لا تدرك صابرين أن العيد، الذي كان يومًا مليئًا بالأراجيح والضحكات، بات ذكرى موجعة تعبر سماء غزة على وقع القصف، لا على أهازيج العيد.
صابرين، التي فقدت والدها وأخاها في غارة جوية قبل ثلاثة أشهر، لم تطلب الكثير. أرادت فقط ثوبًا جديدًا يذكّرها بأنها ما زالت طفلة، وأن الحياة لم تُسلب منها بالكامل. لكن الحرب لا تُبقي مكانًا للأحلام الصغيرة. اكتفت أمها بأن تغسل لها ثوب العام الماضي، وتقصّ أطرافه المحترقة، وتربطه بحزام خيطته من قطعة قماش مهترئة.
في الطريق إلى ساحة الصلاة، كانت صابرين تسير حافية، تمسك بيد أمها المرتجفة. وصلت متأخرة، والساحة كانت شبه خالية، فقط بعض الرجال والنساء يؤدون الصلاة وسط الركام.
بعد الصلاة، لم تذهب صابرين لزيارة الأقارب، فكل من كانوا يملؤون أيامها دفئًا صاروا تحت التراب، أو في خيام في أماكن أخرى من القطاع. جلست على حافة الطريق تنظر إلى السماء، لعلها ترى طائرة لا تقصف، بل تحمل أمنية واحدة: أن يعود والدها، أو أن تختفي الحرب.
في المساء، أحضرت لها أمها صحنًا صغيرًا من الأرز المطبوخ ببقايا العدس، وضعته أمامها وقالت مبتسمة: «عيدك مبارك يا حبيبتي». فأجابت الطفلة دون أن تلمس الطعام: «كان بابا يعملنا صينية منسف.. العيد ما إله طعم».
مناسبة لفتح الجراح لا تضميدها تجلس نادية أبو الريش، خمسينية العمر، على مدخل مدرسة تأويها منذ أربعة أشهر في حي الدرج، تحاول أن تخيط قطعة قماش بالية لأحد أحفادها لتبدو كأنها سروال جديد للعيد.
تقول نادية: «أعيادنا كانت تملأ البيوت برائحة الكعك واللحم، أما اليوم فكل ما لدينا هو القهر والغبار».
لم تتمكن نادية من تحضير أي شيء للعيد، لا ثياب ولا طعام، فالأسواق إما مدمرة أو فارغة، وما تبقى من المال بالكاد يكفي لشراء بعض الطحين الفاسد.
تحكي نادية عن فقدانها لابنها الشاب وزوجته في قصف على خان يونس، وتقول لـ«عُمان»: «إن العيد أصبح مناسبة تفتح جراحها بدلًا من أن تضمدها. كان يفرح أولاده بالعيدية ويشتري لهم البالونات، الآن أطفاله يصرخون من الجوع، ولا يجدون سوى بقايا أرز وحساء رقيق لا يكفي لسد الرمق».
ورغم الألم، تحاول نادية أن تبقي على شعلة صغيرة من الفرح في عيون الصغار، فتجمعهم بعد صلاة العيد لتروي لهم حكايات عن الأعياد الماضية، تلك التي كانوا يستقبلونها بالفرح والأمل. لكنها تهمس في النهاية: «أنا كذابة.. أقول لهم إن الأمور ستتحسن، وأنا لا أؤمن بذلك، لكن لا أملك سوى أن أُكذب حزني كي لا يموتوا قبلي».
العيد مات
فادي عصفور، في منتصف الثلاثين من عمره، يقف في طابور أمام نقطة توزيع مساعدات في جباليا، عيناه غائرتان ووجهه شاحب. حين نسأله عن العيد، يرد بكلمة واحدة: «مات». يُخرج من جيبه صورة ممزقة لطفلين يبتسمان، يشرح: «كانوا يحبون العيد أكثر من أي شيء. نجهز ملابسهم قبل أسبوع. هذا أول عيد لا يفرح فيه أحد، لأنهم ذهبوا».
فقد فادي زوجته وطفليه في قصف ليلي استهدف حيهم في نوفمبر. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد يفرّق بين الليالي والأعياد، كلها تمر كأنها نسخ من نفس الجرح. «لم أعد أشتري شيئًا، لا طعام ولا ملابس. صارت الحياة نفسها مؤقتة. كل شيء صار بلا طعم. نحن نعيش كأننا ننتظر دورنا».
ومع ذلك، قرر فادي أن يتطوع في لجنة توزيع المساعدات، يقول لـ«عُمان» إن «العطاء وحده ما يبقيه على قيد النفس. حين أرى طفلًا يأخذ كيس خبز ويضحك، أشعر أنني أستعيد شيئًا من روحي.. ولو للحظة". لكنه لا يخفي خوفه من الغد، من أن تكون الضحكة التالية تحت ركام جديد». لم نستطع الصلاة.. كنا نختبئ من القصف عمر لبد، شاب في الحادية والعشرين من عمره، كان يدرس الطب في الجامعة الإسلامية قبل أن تُقصف وتنهار أحلامه تحت أنقاضها. يقيم الآن مع عائلته في خيمة قرب ملعب اليرموك، حيث لا مياه ولا كهرباء ولا أفق.
يقول: «العيد؟ أي عيد؟ لم أستطع حتى الصلاة، كنا نختبئ من صوت القصف الذي بدأ مع ساعات الفجر». قبل الحرب، كان عمر يحلم بأن يصبح جرّاحًا يساعد الفقراء، واليوم هو يعجز عن معالجة جرح صغير في قدم أخته. يروي كيف قضوا ليلة العيد على صوت الطائرات والانفجارات، وكيف أن والده لم يذق النوم منذ يومين وهو يحرس الخيمة من تسلل الجوع أو القذائف. لكن عمر لم يفقد الأمل كليًا، ويقول بابتسامة باهتة: «ربما نعيد بناء الجامعة.. ربما يأتي عيد ثالث أفضل من هذا.. نحن لا نملك رفاهية اليأس، لأننا إن يئسنا سنموت».
يضيف: «أنا أكتب يومياتي على كرتونة، حتى لا أنسى أننا بشر، لا فقط أرقام في تقارير الحرب».