حين تكتب الحرب ذاكرة شعب- في مأساة المثقف السوداني ومعقولية الخراب
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
في عامها الثالث، لم تعد الحرب في السودان حدثًا عابرًا يُروى بين فقرات الأخبار، بل تحولت إلى نسيج يومي يُحاك من أشلاء الذكريات والجراح. صارت واقعًا يُعاش بكل ثقله: بيوتٌ تتهاوى كأوراق الخريف تحت دوي المدافع، وأطفالٌ يلهون فوق ركام مدارسهم، كأنهم يتحدون فكرةَ أن الطفولة لا بدّ أن تكون بريئة. هنا، لم يعد هناك فاصل بين الخاص والعام؛ فكل دمعة تسقط في بيت ما تُعد جزءًا من نهرٍ من الأحزان يغمر الأمة.
الأمهات، بوجوهٍ نحتتها رياح اليأس، يُجدنَ فنَّ الصبر، بينما يتساقط الأقرباء والأصدقاء كأوراق شجر في عاصفة لا تنتهي.
في هذا المشهد الكابوسي، تبرز الكتابة كفعلٍ مُقاوِم، ليست مجرد أداة لتوثيق الألم، بل محاولة لإنقاذ الذات من الغرق في العدم. يكتب المثقفون بحبرٍ مخلوط بالتراب والدم، مسجلين تفاصيل البيوت التي انمحت، وأسماء الأحبة الذين صاروا ظلالًا في ذاكرة المدينة.
اليوميات التي يسطرونها ليست سردًا بطوليًا بقدر ما هي همساتٌ يائسة لاستعادة شيء من الإنسانية المهدورة. تصبح الكتابة بيتًا مؤقتًا، هشًا لكنه يقاوم السقوط، يحمل بين سطوره عبق الأيام الماضية ورائحة المقاومة.
الكتابة كوثيقة اجتماعية- بين التاريخ والوجع
لا تقتصر هذه النصوص على الرثاء، بل تتحول إلى وثائق تُجسد تداخل التاريخ مع المأساة؛ فهي تسجل تحول الوطن إلى شتات، والمستقبل إلى لغزٍ مُظلم. الكاتب هنا ليس مراقبًا من برج عاجي، بل هو ابن الأرض الذي يعيش تحت القصف، يكتب بألمٍ عن جاره الذي اختفى
وعن السوق الذي تحول إلى مقبرة جماعية. النصوص تكشف كيف صار "الوطن" فكرةً هاربة، بينما يختزل الواقع معاناة البحث عن رغيف خبز أو زجاجة ماء.
من الاستثناء إلى القاعدة- الحرب كحالة دائمة
في ذهن المثقف السوداني، لم تعد الحرب استثناءً، بل جزءًا لا يتجزأ من الهوية. يقول الكاتب أمير تاج السر: «نحن أبناء الحروب المتراكمة، نعرفُ صوت الرصاص أكثر من صوت الموسيقى»، معبرًا عن واقعٍ عاشه وجيله منذ طفولتهم في وطنٍ حُفر في ذاكرة الألم.
وقد أضاف الناشر العربي على غلاف إحدى الروايات عبارة "الحياة تستحق النشيد رغم قسوتها"، وهي ليست دعوة لتفاؤل ساذج، بل تأكيدٌ على إيمانٍ بأن الفن يعد آخر حصون الكرامة. وكأن صوت المثقفة البريطانية هيلينا كينيدي، حين تحدثت عن النزوح كجريمة ممتدة
يجد صداه في واقع الأسر السودانية التي تعيش التهجير كحالة متوارثة عبر الأجيال.
الخراب كوجهٍ للوطن- لماذا تصبح الحرب "معقولة"؟
وهنا يطفو السؤال الأقسى: كيف يصبح الدمار مألوفًا؟ قد تكون الإجابة في استبدال لغة الثورة بلغة التأمل، أو في تحول الألم إلى رفيق يومي. المعقولية هنا لا تعني الاستسلام، بل اعترافًا بفشل الخطابات الكبرى.
إذ أن المثقف الذي كان يرفع شعارات التحرر صار يكتب ليُثبت أنه ما زال حيًا، كأنه يردد روح محمود درويش عندما قال: «أنا لستُ لي، أنا وطني يكتبني»، مما يحوّل الكتابة إلى فعل أخلاقي، محاولة لإنقاذ المعنى من براثن العبث، وصرخة ضدّ التطبيع مع القتل.
ما بعد الكلمات- هل تكفي الكتابة؟
رغم كل هذا، تظل الحقيقة المرة أن الكتابة لا توقف الرصاص، ولا تُعيد الطفل إلى أمه. ففي الوطن الذي يموت فيه الإنسان، تموت معه الكلمات أحيانًا. لكن المثقف لا زال يكتب، لأن الصمت يعد خيانة، ولأن الحكاية لم تنتهِ بعد.
كما تقول الروائية بثينة خضر مكي: «نحن نكتب لنُثبت أننا لم ننزلق بعد إلى حافة الوحشية»، لتظل هذه النصوص، رغم دمويتها، بمثابة البذرة الأخيرة لشتلة أمل أو على الأقل شهادةً على تمسك شعبٍ برواية معاناته.
حين تصير الكلمات دمًا
في النهاية، يبقى المثقف السوداني حائرًا بين شقين- شاهدٌ على المأساة وضحيةٌ فيها. يرتجف قلمه ولكنه يرفض السقوط، إذ إن الحرب قد تسرق الأوطان لكنها لا تستطيع سرقة الكلمات التي تُخلّدها.
وكما كتب شابٌ عاقل في يومياته تحت القصف: «إذا متُّ، ابحثوا عني في كتبي».
أعلموا أيها القتلة- نحن الباكون على واقع اليوم ، ولكن من خلال الألم نصنع المستقبل.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
د. جمال القليوبي يكتب: النووي خارج إيران.. وإسرائيل تستنجد بترامب
يبدو أن طهران تركت أراضيها لأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والموساد فترات كبيرة من الزمن دون أن تقيم تاريخ الاغتيالات السابقة لرجال الحرس الثوري الكبار أو حتى لاغتيالات العلماء النوويين الإيرانيين، ولم تكن هناك حتى تنبؤات تبين أن طريقة الاغتيالات التي طالت علماء إيران النوويين أو حتى الطريقة التي تم بها اغتيال إسماعيل هنية في مبان تخص حراسة الحرس الثوري ما هي إلا مقدمات إلى ما هو قد يكون أخطر.
ولم يكن الغزو العدائي الذي شنته إسرائيل منذ أكثر من ثلاثة أيّام على سيادة دولة إيران وضرب منشآتها النووية في مناطق متفرقة حول العاصمة طهران، إلا أنها رسالة واضحة إلى كل دول الشرق الأوسط أن العربدة الصهيونية والفتونه الأمريكية تستطيع أن تطاول كل من لا يصغي ولا يذعن إلى إرضاء حكومة المرتزقة في تل أبيب أو قد يحمل أي نوع من التهديد لشعب الله !!!
أقرب العم سام وابناء عمومتهم فهو في مرمي حرب التصريحات والتلميحات والتهديدات التي يراسلها ترامب عبر تغريداته علي منصات السيوشيال ميديا او التي يتشدق بها المتعجرف الصهيوني نتينياهو من خلال احاديثه إعلاميا او علي منصبه الكنيست.
وقد تكون الضربات التي وجهتها إسرائيل في أبريل ٢٠٢٤ على منصات الرادارات في محيط المحطات النووية في أصفهان ونطنز باستخدام الطائرات المسيرة والتي مرت علي إيران دون تقييم أو حتى تطبيق أي رد فعل لمراجعة الحال الأمني الداخلي، بينت أن هناك أصابع خفية داخل الأراضي، ولكن التزمت إيران الصمت الرسمي.
ثم تأتي الضربة الثانية التي زادت فيها إسرائيل من قوة الهجمات على المنشآت التي تنتج الصواريخ البالستية ومراكز تصنيع الطاءيرات الدرون ستخدام اكثر من ١٠٠ طائرة مقاتلة من F35-F15 وطائرات التشويش وقامت الولايات المتحدة بتقديم كافة الدعم اللوجستي لتلك الضربة من خلال القواعد العسكرية في العراق والأسطول الخامس في بحر العرب .
ثم نستيقظ صباح يوم ١٣ من الشهر الحالي على عملية تم التخطيط لها تجمع في طياتها محصلة العمليتين السابقتين في عام ٢٠٢٤، حيث استخدمت الطائرات بدون طيار من داخل الأراضي الإيرانية، وبالإضافة إلى أفواج كثيفة من طائرات F35 والتي وصلت إلى أكثر من ٢٠٠ طائرة مع أن إسرائيل لا تملك أكثر من ١٠٠ طائرة من تلك الطائرات (فمن أين الباقي !!).
واستهدفت الكثير من الأماكن للمنشآت النووية ومخازن الصواريخ الباليستية، وكذلك مساكن العلماء النوويين الإيرانيين والمنشآت العسكرية للحرس الثوري، والذي أدى إلى مقتل رئيس الحرس الثوري حسين سلامي ورئيس الأركان محمد باقري و٩ علماء نووي أهمهم مهدي طهرانجى ورضا زلفغاري وعبد الحميد مينوشهر.
ولكن سرعان ما تحركت ايران هذه المره حيث كان لديها كل الطرق التي وصلت بها الي القبض علي عملاء الموساد، وكذلك المناطق التي استخدم فيها الدرون لضرب المنشآت وأيضا استعدت وبتركيز عالي لإطلاق الصواريخ الباليستية فرط الصوت، والتي حملت الكثير من الأطنان المتفجرة، والتي وصلت إلى أماكن أكثر حساسية داخل تل إبيب بل ووصلت إلى مبنى الموساد نفسه.
ويبدو أن الوتيرة الإيرانية للردع بدأت تتغير تدريجيا إلى الأصعب، حيث بدت خلال الثلاثة أيّام السابقة في التركيز على تحركات سرية لنقل ق ع حساسة تبدو أنها القنابل النووية التسعة التي صنعتها إلى خارج إيران.
وقد يظهر من الوهلة الأولى أنها في مكان ما خارج الأراضي الإيرانية، وأنها خلال الفترة القادمة سوف تكون الردود الإيرانية باستخدام صواريخ باليستية أكثر فتكا بالبنية التحية في مختلف المناطق العسكرية والأمنية والنفطية داخل الأراضي الإسرائيلية والكثير من التهديدات التي أرسلها خامئني بأن إسرائيل سوف تجني الكثير من الدمار بسبب هذا الهجوم على إيران.
ومن خلال المتابعة لتصريحاتهم كلا الطرفين الإسرائيلي والإيراني أجد أن التركيز في ضرب العمق الإسرائيلي، وأن إيران بدأت في التأقلم على عمليات الردع، وكذلك الهجوم مما سوف يطيل زمن الحرب، والتي سوف تستهلك كل قدرات إسرائيل من العتاد والسلاح، بالإضافة إلى عدم قدرة الطيارين.
وكذلك استهلاك كامل لجميع منصات الدفاع الجوي في كل الأراضي الإسرائيلية، والتي قد تبدو شبه مكشوفة في الأيام القليلة القادمة، والتي سوف تجبر أمريكا وبريطانيا على أمرين إما الدخول في الحرب أو الدعوة إلى وقف الحرب والتفاوض بقوة إيران واشتراطاتها دون النظر إلى التفاوض ما قبل الحرب أو الأمر الأخير وهو الغذاء الذي سوف يجعل طبول الحرب العالمية الثالثة آتية لا محالة إذا هاجمت أمريكا وبريطانيا على إيران مما سوف يجعل دول مثال باكستان والصين وروسيا تسعى إلى دعم كامل لإيران سواء بالمشاركة أو الدعم اللوجستي للسلاح وعندها قد تطول الحرب.. وإلى تكملة قادمة.