في عامها الثالث، لم تعد الحرب في السودان حدثًا عابرًا يُروى بين فقرات الأخبار، بل تحولت إلى نسيج يومي يُحاك من أشلاء الذكريات والجراح. صارت واقعًا يُعاش بكل ثقله: بيوتٌ تتهاوى كأوراق الخريف تحت دوي المدافع، وأطفالٌ يلهون فوق ركام مدارسهم، كأنهم يتحدون فكرةَ أن الطفولة لا بدّ أن تكون بريئة. هنا، لم يعد هناك فاصل بين الخاص والعام؛ فكل دمعة تسقط في بيت ما تُعد جزءًا من نهرٍ من الأحزان يغمر الأمة.

الأحياء تتحول إلى خرائب، والأسواق التي كانت تعج بالحياة تصمت إلا من صدى الخطى الثقيلة لقدامى الجوعى.
الأمهات، بوجوهٍ نحتتها رياح اليأس، يُجدنَ فنَّ الصبر، بينما يتساقط الأقرباء والأصدقاء كأوراق شجر في عاصفة لا تنتهي.

في هذا المشهد الكابوسي، تبرز الكتابة كفعلٍ مُقاوِم، ليست مجرد أداة لتوثيق الألم، بل محاولة لإنقاذ الذات من الغرق في العدم. يكتب المثقفون بحبرٍ مخلوط بالتراب والدم، مسجلين تفاصيل البيوت التي انمحت، وأسماء الأحبة الذين صاروا ظلالًا في ذاكرة المدينة.
اليوميات التي يسطرونها ليست سردًا بطوليًا بقدر ما هي همساتٌ يائسة لاستعادة شيء من الإنسانية المهدورة. تصبح الكتابة بيتًا مؤقتًا، هشًا لكنه يقاوم السقوط، يحمل بين سطوره عبق الأيام الماضية ورائحة المقاومة.

الكتابة كوثيقة اجتماعية- بين التاريخ والوجع
لا تقتصر هذه النصوص على الرثاء، بل تتحول إلى وثائق تُجسد تداخل التاريخ مع المأساة؛ فهي تسجل تحول الوطن إلى شتات، والمستقبل إلى لغزٍ مُظلم. الكاتب هنا ليس مراقبًا من برج عاجي، بل هو ابن الأرض الذي يعيش تحت القصف، يكتب بألمٍ عن جاره الذي اختفى
وعن السوق الذي تحول إلى مقبرة جماعية. النصوص تكشف كيف صار "الوطن" فكرةً هاربة، بينما يختزل الواقع معاناة البحث عن رغيف خبز أو زجاجة ماء.

من الاستثناء إلى القاعدة- الحرب كحالة دائمة
في ذهن المثقف السوداني، لم تعد الحرب استثناءً، بل جزءًا لا يتجزأ من الهوية. يقول الكاتب أمير تاج السر: «نحن أبناء الحروب المتراكمة، نعرفُ صوت الرصاص أكثر من صوت الموسيقى»، معبرًا عن واقعٍ عاشه وجيله منذ طفولتهم في وطنٍ حُفر في ذاكرة الألم.
وقد أضاف الناشر العربي على غلاف إحدى الروايات عبارة "الحياة تستحق النشيد رغم قسوتها"، وهي ليست دعوة لتفاؤل ساذج، بل تأكيدٌ على إيمانٍ بأن الفن يعد آخر حصون الكرامة. وكأن صوت المثقفة البريطانية هيلينا كينيدي، حين تحدثت عن النزوح كجريمة ممتدة
يجد صداه في واقع الأسر السودانية التي تعيش التهجير كحالة متوارثة عبر الأجيال.

الخراب كوجهٍ للوطن- لماذا تصبح الحرب "معقولة"؟
وهنا يطفو السؤال الأقسى: كيف يصبح الدمار مألوفًا؟ قد تكون الإجابة في استبدال لغة الثورة بلغة التأمل، أو في تحول الألم إلى رفيق يومي. المعقولية هنا لا تعني الاستسلام، بل اعترافًا بفشل الخطابات الكبرى.
إذ أن المثقف الذي كان يرفع شعارات التحرر صار يكتب ليُثبت أنه ما زال حيًا، كأنه يردد روح محمود درويش عندما قال: «أنا لستُ لي، أنا وطني يكتبني»، مما يحوّل الكتابة إلى فعل أخلاقي، محاولة لإنقاذ المعنى من براثن العبث، وصرخة ضدّ التطبيع مع القتل.

ما بعد الكلمات- هل تكفي الكتابة؟
رغم كل هذا، تظل الحقيقة المرة أن الكتابة لا توقف الرصاص، ولا تُعيد الطفل إلى أمه. ففي الوطن الذي يموت فيه الإنسان، تموت معه الكلمات أحيانًا. لكن المثقف لا زال يكتب، لأن الصمت يعد خيانة، ولأن الحكاية لم تنتهِ بعد.
كما تقول الروائية بثينة خضر مكي: «نحن نكتب لنُثبت أننا لم ننزلق بعد إلى حافة الوحشية»، لتظل هذه النصوص، رغم دمويتها، بمثابة البذرة الأخيرة لشتلة أمل أو على الأقل شهادةً على تمسك شعبٍ برواية معاناته.

حين تصير الكلمات دمًا
في النهاية، يبقى المثقف السوداني حائرًا بين شقين- شاهدٌ على المأساة وضحيةٌ فيها. يرتجف قلمه ولكنه يرفض السقوط، إذ إن الحرب قد تسرق الأوطان لكنها لا تستطيع سرقة الكلمات التي تُخلّدها.
وكما كتب شابٌ عاقل في يومياته تحت القصف: «إذا متُّ، ابحثوا عني في كتبي».
أعلموا أيها القتلة- نحن الباكون على واقع اليوم ، ولكن من خلال الألم نصنع المستقبل.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

شاروخان يساند ضحايا تحطم طائرة تابعة للخطوط الجوية الهندية بهذه الكلمات

حرص النجم العالمي شاروخان، على مساندة ضحايا تحطم الطائرة التابعة للخطوط الجوية الهندية خلال الساعات القليلة الماضية، وذلك بعد سقوط أكثر من 100 ضحية نقلت إلى مستشفى أحمد آباد.

وكتب «شاروخان»، عبر حسابه الرسمي بموقع تداول الصور والفيديوهات «إنستجرام»، مساندا لضحايا حادث الطائرة، قائلا: «أشعر بحزن عميق بعد سماعي عن الحادث المأساوي الذي وقع في أحمد أباد، صلواتي مع الضحايا وعائلاتهم وكل من تضرر من هذه الفاجعة».

شاروخان تفاصيل تحطم حادث الطائرة الهندية

شهدت مدينة أحمد آباد شمال غرب الهند، وقوع حادث مفجع، نتيجة تحطم طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الهندية «آير إنديا»، من طراز بوينج 787-8 «دريملاينر»، كانت متجهة إلى مطار «جاتويك» في العاصمة البريطانية «لندن» وعلى متنها أكثر من 240 شخصًا.

وتصاعدت أعمدة من الدخان الأسود من موقع التحطم في منطقة مأهولة بالسكان، بالقرب من مطار أحمد آباد الدولي، ما دفع السلطات الهندية والبريطانية لفتح تحقيقات وتعبئة فرق الإنقاذ.

وفي أول تعليق للشرطة الهندية، اليوم الخميس، على الحادث، أفادت بمقتل معظم ركاب الطائرة المنكوبة، البالغ عددهم 242 شخصًا، موضحة أن الإحصائية الأولى لجنسيات الركاب، تتضمن الآتي: «169 هنديًا - 53 بريطانيًا - 7 برتغاليين - كندي واحد».

وأعلنت الشرطة، العثور على ناجٍ واحد من حادث تحطم الطائرة الهندية على المقعد 11A في الطائرة، حيث علق على الحادث قائلًا: «إنهم سمعوا صوتًا مدويًا بعد 30 ثانية من الإقلاع»، وفقًا لقناة «القاهرة الإخبارية».

اقرأ أيضا:

تطورات الحالة الصحية لـلنجم الهندي شاروخان «صورة»

موكيش امباني.. استعدادات أسطورية لحفل زفاف ابن أغنى رجل في آسيا؟ (صور)

نوير يعرب عن سعادته بمشاركة بايرن ميونخ في مونديال الأندية

مقالات مشابهة

  • الملازم علي الكندي.. ذاكرة من ذهب
  • محمد أبوزيد كروم يكتب: حيا الله السلاح والكفاح، والنصر الذي لاح
  • أيهما أقوى ذاكرة: النساء أم الرجال؟ ولماذا؟
  • الدكتور وفيق نصير يكتب: الحرب بين إسرائيل وإيران وتداعياتها على البيئة العالمية
  • رأي.. عمر حرقوص يكتب عن الضربات الإسرائيلية ضد إيران: الحرب طويلة والمحور ليس بخير
  • ما الذي حدث في إيران ؟ ولماذا لم تُطلق المضادات؟
  • محافظ درعا يبحث مع إعلاميي المحافظة تعزيز دور الإعلام بتحسين الواقع
  • شاروخان يساند ضحايا تحطم طائرة تابعة للخطوط الجوية الهندية بهذه الكلمات
  • الغالي ابن الغالي.. رامي جمال يدعم نجل تامر حسني بهذه الكلمات
  • عادل الباز يكتب: لماذا نتفاوض مع الإمارات؟ وعلى ماذا يدور هذا التفاوض؟ (1/2)