هذهً كلمة اخرى عن المتحف والجنجويد كنت نشرتها عقب احتلاهم له في اغسطس 2023
المتحف القومي السوداني: لا يمثلني فليذهب
عبد الله علي إبراهيم
روع خاطر السودانيين فيديو ذاع قبل أسبوعين تسمع فيه خطوات لجند من “الدعم السريع” تجوس صالات المتحف القومي في الخرطوم. وترافقت مع ذلك الجوس تعليقات من أحدهم وهو يمر بمومياوات في توابيتها قائلاً إنها جثث تملأ المكان، وإنها من ضحايا “الكيزان” (الإسلاميين).

بما فهم منه أن تلك المومياوات طائفة من قتلاهم أخفوها عن العيان. ومن الصعب تصديق أن المجند المعلق، وهو في متحف معروف بالاسم، جهل أنه إزاء جثث من القرون الأولى، ولكن كل شيء جائز طالما أساء تعليقه للإسلاميين الذين تتهمهم قوات “الدعم السريع” بأنهم يقفون وراء تحريض القوات المسلحة على الحرب. ومن المطمئن أن الأخبار اللاحقة أفادت بأن “الدعم السريع” غادر المتحف بعد احتلاله لبعض الوقت بغير خسائر معلومة.
ولن يفهم المرء زيارة “الدعم السريع” الموجزة للمتحف إلا بالنظر إلى ثقافة الجدل بين هامش السودان ومركز الحكم في الخرطوم الواقع بيد صفوة الشمال النيلي. وهو مركز لم يفشل في حكمه المتطاول للسودان فحسب، بل أدمن الفشل أيضاً في عبارة لواحد منه، هو منصور خالد، تملأ أصداؤها المكان كلما عرضت أزمة الحكم عندنا للنقاش. وتواصت قوى الهامش، لضمان عافية البلد، على الاستغناء عن ذلك المركز وإحلال مركز بديل له.
ولطالما كان الهامش ناقماً على مركز لم يحسن له لنحو ثمانية عقود منذ الاستقلال، فاعتبر أن تاريخه ذاته مما جاز أن يلقى في مزبلة التاريخ المجازية. فليس تفهم احتلال “الدعم السريع” لدور رموز الحركة الوطنية والدولة السودانية مثل الزعيم إسماعيل الأزهري والفريق إبراهيم عبود والسيد الصادق المهدي، وحرائق مكتبات مثل مركز محمد عمر بشير بجامعة أم درمان الأهلية، وبعثرة حصائل المكتبات صفوة، إلا الإحاطة برأي الهامش السلبي، بل والعدائي لتاريخ هذا المركز ومدوناته.
فإثر شيوع خبر اقتحام “الدعم السريع” متحف السودان تناقلت الوسائط تعليقات لمناصرين له لم ترَ بأساً من ذلك الاقتحام. ومن ذلك عبارة لعبدالمنعم الربيع، الذائع أنه إسلامي تحول إلى “الدعم السريع”، قال فيها، “من قال لك إنه متحف قومي؟ بالنسبة إليَّ ما متحف قومي. كلو كذب ساكت. يعني كان اتكسر خليهو يتكسر، ما مشكلة. أصلو نحن قاعدين نعيد كتابة تاريخ السودان، ما محتاجين ليهو (له)، ما محتاجين ليهو. من قال المتحف دا قومي. لا يمثلنا. المتحف القاعد دا لا يمثلنا. ولا قاعد يعكس تاريخنا. وكلو كذب. وذاتو بالنسبة إليَّ هو جزء من تزوير تاريخ السودان. خليه يندك (يتدمر)”.
فمن الواضح أن اقتحام المتحف وسائر الدور التي ذكرناها لرموز الحركة الوطنية ومدوناتهم لم يكن اعتباطاً. فالربيع صريح في القول إن تاريخ هذه الصفوة “الإسلاموعربية” القابضة في الخرطوم سيذهب أدراج الرياح مع سلطانها عليهم.
وجاء الربيع بمصطلح “إعادة كتابة التاريخ” القديم فينا. وهي عن مطلبنا رد الاعتبار للذات في تملك ماضيها بأقلامها. فما إن استقل السودان حتى دعت دوائر وطنية كثيرة إلى إعادة كتابة تاريخنا الذي قلنا إن الاستعمار أساء إليه وشوهه، ثم ظهرت الدعوة بشدة خلال سنوات نظام الرئيس جعفر نميري (1969-1985) الأولى بدعوته إلى الاشتراكية، وقد رأى أن الإرث التاريخي المزور من جانب الاستعمار والحكومات والدوائر “الرجعية” التي انقلب عليها،. سيعوق دعوته تلك. وظلت الدعوة لإعادة كتابة التاريخ قائمة ولا ترى مع ذلك لها أثراً ملموساً في مدونة التاريخ عندنا.
وتقوم الدعوة لإعادة كتابة هذا التاريخ اليوم على منصة وطنية الهامش السوداني التي تريد الخلاص من استعمار المركز “الإسلاموعروبي”. فالسودان الراهن كما يراه الهامش خاضع لاستعمار داخلي لصفوة هذا المركز، التي تمكنت منه منذ الاستقلال. فمايزت بين السودانيين، فجعلت بعضهم مبنياً على المعلوم، وآخرين مبنيين على المجهول، أي منسيين في تاريخهم.
فالتاريخ المعروف للسودان، في قول آخر، غطى على سير الممالك التي سبقت هجرة العرب المسلمين للسودان في القرن التاسع الميلادي. وسأل عن هذا التغييب القسري لتاريخها بقوله، “فهل انشقت الأرض عن هذه الممالك وابتلعتها؟”. وزاد بأنه إذا لم تلغ نسخة تاريخ الصفوة الحاكمة تاريخ غيرها شوهته. وقال ثالث إن هذه الصفوة “الإسلاموعروبية”، متى درست تاريخ هذه الممالك، صورتهم طغاة بغية تكريه حتى أهلهم فيهم.
فجذر المسألة في محنة السودان، في قول آخر، أن تاريخ السودان حتى يومنا يدرس بانتقائية تلغي تاريخ من ليس من “الإسلاموعروبيين”. فغطى بالنتيجة على التنوع التاريخي. والتنوع التاريخي من أعمدة نظرية العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، للسودان الجديد. ويريد به أن نصطلح على أن للسودان إرث تاريخي تشكل منذ عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا، يملي علينا الاعتراف بمكوناته جمعاء بلا فرز. ومن هنا يرى يوسف عزت، المستشار السياسي لمحمد حمدان دقلو و”الدعم السريع”، أن الوقت قد أزف لصنع تاريخ جديد للسودان بواسطة قوى جديدة نشأت بمعزل عن الأحزاب الصفوية والبيوتات التقليدية التي لا ترى من السودان منذ الاستقلال سوى الخرطوم. ليس ما نقلناه عن غبن “الدعم السريع” قولاً وعملاً من تاريخ السودان المقروء مجرد أقوال. فهو ثقافة، بل صار مادة مرموقة في وثائق معتمدة للدولة مثل اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر 2020) الموقع بين الحكومة الانتقالية وبعض حركات دارفور المسلحة. فنص الاتفاق في الفصل الثالث منه على حق سكان منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق بالمشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات للغرض لتنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ مشارك، بموضوعية.
وجاء هذا الحق لمنطقة ما بالمشاركة في كتابة تاريخها خلافاً لأعراف الكتابة في بابه. فالتاريخ يكتبه المؤرخون من المنطقتين، أو من باقي السودان، بل وحق الكتابة فيه شامل للأجنبي المختص.
فالتاريخ يكتب ولا تعاد كتابته إلا بفرمان سلطوي. فكتابة التاريخ حالة لا تتجزأ إلى كتابته مرة وإعادة كتابته. فكتابة التاريخ لا تنقطع وتتجدد الكتابة لا برغبة نظام سياسي أو كيان سياسي آخر مثل المنطقتين اللتين وردتا في اتفاق جوبا، بل يكتب لفتح طرأت به مواد على أرشيفه لم تتوافر من قبل، كما تتجدد الكتابة فيه بظهور نظريات في التاريخ وغير التاريخ يريد بها المؤرخ إعادة النظر في ما تواضع العلم عليه.
ربما صح كل نقد أصوات الهامش التي عرضنا لها محتجة على بنائها للمجهول في تاريخ السودان كما قالوا، أو صح بعضه، ولكن يبرز السؤال هنا عن لماذا مثلاً تأخرت الحركات المسلحة عن كتابة تاريخ أقاليمها يداً بيد مع تحريرها؟ فهل استردفت أي من هذه الحركات معهداً للدراسات العلمية عن منطقة تحريرها، سواء بإنشائه أو بعون من أنشأه مستقلاً؟ لماذا رهنت إعادة كتابة تاريخها، لو صح المفهوم، بإحلال السلام الذي يأتي ولا يأتي في حين أنه كان متاحاً لها كتابته بواسطة طاقم من مؤرخيها حتى لمجرد تقوية عزائم المكافحين من أجلها بفوهة البندقية؟
لا أعرف إن احتاج شمول الهامش في مجرى التاريخ السوداني إلى فتح الخرطوم الجاري ليومنا لو سبقت صفوة الهامش إلى كتابة تاريخ إقليمها، طالما كان شاغلها، بالقلم قبل أن تتداركه بفوهة البندقية، بل لربما لو فعلت ذلك لما احتاج الهامش إلى غزو الخرطوم. فالسبل إلى الحق شتى.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: تاریخ السودان کتابة التاریخ الدعم السریع کتابة تاریخ إعادة کتابة

إقرأ أيضاً:

اتهامات للدعم السريع باختطاف وقتل فتيات بالفاشر

اتهمت اللجنة العليا لنازحي مخيم زمزم في شمال دارفور غرب السودان قوات الدعم السريع باختطاف 23 فتاة من المخيم، وسط تقارير تؤكد وفاة 5 منهن بعد احتجازهن في سجن دقريس بنيالا، عاصمة جنوب دارفور، في ظروف يُعتقد أنها ناجمة عن التعذيب وسوء المعاملة.

وفي 13 أبريل/نيسان الماضي، شنت قوات الدعم السريع هجوما واسعا على مخيم زمزم، الذي يقع على بُعد 15 كيلومترا جنوب مدينة الفاشر، فرضت خلاله سيطرتها على المنطقة، وسط معارك عنيفة في محيط المدينة، مما أدى إلى تصاعد التوتر الأمني وتفاقم الأزمة الإنسانية.

وقال المتحدث الرسمي باسم النازحين في مخيم زمزم، محمد خميس دودة، للجزيرة نت إن الفتيات المختطفات نُقلن إلى نيالا عقب اجتياح المخيم، مشيرا إلى معلومات موثوقة تفيد بوفاة 5 منهن تحت التعذيب، بينما لا تزال أوضاع المحتجزات الأخريات مجهولة وسط تكتم شديد.

ووصف المتحدث هذه الحادثة بأنها انتهاك جسيم لحقوق الإنسان، مطالبا المجتمع الدولي بالتحرك الفوري لحماية المدنيين وضمان الإفراج عن المحتجزات.

من جهته، وصف الناشط محمد آدم ما حدث بأنه "جريمة إنسانية مروعة"، مشيرا إلى أن التقارير الميدانية تؤكد أن الفتيات فارقن الحياة نتيجة الجوع والتعذيب داخل السجن. ودعا المنظمات الحقوقية إلى اتخاذ إجراءات عاجلة والضغط دوليا لإنقاذ المحتجزات وتقديم الدعم الإنساني للنازحين.

سكان الفاشر يعانون من نقص حاد في الغذاء والدواء بسبب الحصار المفروض على المدينة (الجزيرة) قصف مستمر

وفي سياق متصل، أفادت مصادر ميدانية بسقوط قتيلين و3 جرحى إثر قصف طائرة مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع على حي أولاد الريف بمدينة الفاشر، ليلة الاثنين، مما زاد من معاناة السكان الذين يعانون بالفعل من نقص حاد في الغذاء والدواء بسبب الحصار المفروض على المدينة.

وقال العقيد أحمد حسين مصطفى، المتحدث الرسمي باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، للجزيرة نت إن قوات الدعم السريع لا تزال تستهدف المدينة بالمدفعية الثقيلة والطائرات المسيّرة، لكنه أكد أن قواته تحقق تقدما ملموسا لفك الحصار عن الفاشر، مشددا على أن "النصر بات قريبا"، في ظل العمليات العسكرية الجارية.

الوضع الإنساني

ويواجه سكان الفاشر أوضاعا إنسانية قاسية، حيث قفزت أسعار المواد الغذائية إلى مستويات غير مسبوقة، في حين أغلقت غالبية المتاجر في الأسواق بسبب القصف المستمر، وسط نقص حاد في الإمدادات الضرورية، مما يجعل الحياة أكثر صعوبة للمدنيين المحاصرين داخل المدينة.

وأفاد تاجر البضائع صالح هارون، أحد الموردين الرئيسيين في الفاشر، بأن الأوضاع قد تفاقمت بشكل كبير بعد الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع على 3 قرى غرب الفاشر، وهي قولو وقرني والشريف.

إعلان

وأوضح للجزيرة نت أن هذه الأحداث أدت إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية في المنطقة، مما أثر سلبا على حياة السكان المحليين، مشيرا إلى أن بعض التجار كانوا يعتمدون في السابق على عربات الكارو التي تجرها الحمير للوصول ليلا إلى هذه القرى وجلب البضائع الضرورية، إلا أنه منذ وقوع تلك الحوادث، توقفت هذه الأنشطة التجارية تماما، مما زاد من معاناة الأهالي الذين يعتمدون على هذه الإمدادات.

وأضاف هارون أن الوضع الحالي يتطلب تدخلا عاجلا لمساعدة السكان والتجار على حد سواء، وأن استمرار تدهور الأوضاع قد يؤدي إلى تفشي المجاعة وفقدان المزيد من سبل العيش الضرورية.

وفي بيان عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، حذّرت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر من أن المجاعة تهدد آلاف الأسر، نتيجة استمرار أزمة الغذاء لعدة أشهر والتدهور السريع في الأوضاع المعيشية. وأضافت أن الأزمة امتدت لتشمل نقص الدواء والمياه، مما يزيد من صعوبة الحياة اليومية للسكان الذين يعانون من الحصار والقصف.

وأكدت التنسيقية أن القصف المتواصل يجبر السكان على البقاء داخل منازلهم، مما يمنعهم من البحث عن الغذاء أو تلقي الرعاية الصحية، بينما تعرقل الظروف الأمنية وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين.

ودعت التنسيقية المنظمات الدولية والجهات الحكومية إلى التدخل العاجل لإنقاذ المدنيين، محذرة من كارثة إنسانية واسعة إذا استمرت الأزمة دون حلول ملموسة.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وسّعت قوات الدعم السريع عملياتها إلى 4 ولايات في دارفور، شملت الجنوب والشرق والغرب والوسط، ضمن محاولة للسيطرة على المنطقة، مما أدى إلى ارتكاب مجازر واسعة.

وفي أبريل/نيسان الماضي، تخلّت الحركات المسلحة في الفاشر عن حيادها، وأعلنت دعمها للجيش السوداني، مما دفع قوات الدعم السريع إلى محاصرة المدينة ومهاجمة مخيم زمزم المجاور.

إعلان

مقالات مشابهة

  • شبكة مهنية: الدعم السريع تنفذ تنجيد قسري بالضعين وتعتقل العشرات بينهم كادر طبي
  • "أطباء السودان" تتهم الدعم السريع باعتقال 178 شخصا بشرق دارفور
  • الدعم السريع تعلن حالة الطوارئ جنوب دار فور وحركة نزوح جماعي في كردفان
  • مصدر عسكري: «الدعم السريع» قصفت بمسيَّرة مستودعاً للوقود ومقراً للجيش جنوب السودان
  • تيم هاورد.. من الاضطرابات العصبية إلى كتابة التاريخ في كأس العالم
  • هجمة بمسيرة.. الدعم السريع تضرب هدفين استراتيجيين في جنوب السودان
  • اتهامات للدعم السريع باختطاف وقتل فتيات بالفاشر
  • مسيرات الدعم السريع تهاجم للمرة الثالثة على التوالي المنشآت الحيوية جنوبي البلاد
  • محطات فى تاريخ الإسلاميين في السودان: علاقاتهم الخارجية ودورهم في النزاعات وتدمير الدولة
  • هل استخدم جيش السودان الأسلحة الكيميائية ضد الدعم السريع؟