عبد الله علي إبراهيم

د. حسن بلة الأمين، أطباء السودان الحفاة: قصة نجاح بهرت العالم، جامعة الخرطوم للنشر، 2012 (الطبعة الثانية، المصورات 2025)

(شرفت بطلب الدكتور حسن الأمين بلة تقديم كتابه أعلاه. فكتبت ما تجده أدناه)

هذا الكتاب شديد الحفاوة بتدريب القابلات بمدرسة الدايات التي نشأت في أم درمان في 1920.

وبلغ من حفاوته أن قال إنها تجربة في الأطباء الحفاة، الممارسين للرعاية الصحية غير متفرغين، سبقنا إليها الصين التي جاءت بحفاة أطبائها في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وتأسف المؤلف أن لم تجد تجربة القابلة السودانية الحفاوة التي لقيها طبيب الصين الحافي. فلا تجد ذكراً لها في أروقة كلية الطب التي نشأت بعدها في 1924. وتأسف شخصياً كخريج من هذه الكلية أنه لم يسمع عن إحساننا فن التوليد طوال سنيه بها. وسمى كسب مؤسسة القابلات كسباً عبقرياً. وذكر دهشة كل من سمع منه محاضراً عن هذه العبقرية. فوقف جراح سوداني بعد الاستماع له ببلد أجنبي:
“You made me feel proud as a Sudanese as I never felt before.”
"لقد جعلتني أحس بالزهو بأنني سوداني كما لم أحس من قبل".
وأراد المؤلف بالتوثيق لمدرسة القابلات أن نستصحب عبقرية تلك المدرسة في السياسة الصحية القومية وأن نبني عليها لعافية الريف خاصة. فظل المؤلف مهجساً بخبرة الطبيب الحافي في مدرسة القابلات لأربعين سنة أنفقها في لقاءات بمن كانوا من وراء تدريب أولئك الطبيبات الحافيات، وفي أبحاث عن حال هذا التدريب في إطار تخصصه في طب الأسرة. وكتب مؤلفاته بالإنجليزية ثم ساءه ألا يبلغ من ذلك شيء إلى بني بلده. فكتب كتابه هذا في العربية الذي تجوهرت فيه معارف أربعين عاماً في لغة أجنبية. وقال: "ارجو أن يكون هذا الكتاب تعبيراً عن حبي للوطن، وللمحتاجين للنصرة من أهله".
أدرك المؤلف مابل وولف، مؤسسة مدرسة القابلات في 1920، وأخذ منها لأنها عاشت لمائة عام. فهشت له وسعدت أن يطلبها طبيب سوداني شاب راغب في معرفة تجربتهن الباكرة في السودان. واجتمع معها بإلين كندل آخر مديرة بريطانية لمدرسة القابلات. ثم بحث عن مس إي هلز ينق التي خلفت مابل في العمادة. ثم التقى في السودان بالست بتول محمد عيسى الباشدايه الأولى بالمدرسة وعميدة المدرسة لاحقاً ولمدة طويلة. والتقى كذلك بست الدون من أوائل خريجات المدرسة وصارت عميدة لمدرسة الدايات بمدني. ثم ست حواء محمد صالح من رائدات التمريض والتوليد.
نشأ برنامج تدريب القابلات في مدرستهن على يد السيدة مابل وولف ولحقت بها أختها جيرترود لاحقاً لتساعدها لدى مرضها عام 1929. وحين شفيت مابل صارت جيرترود مساعدة لها. وجاءت مابل إلى السودان من مصر وكانت رئيسة التمريض بالفيوم فيها. وهدفت المدرسة إلى تحقيق وجود قابلة مدربة في كل قرية للتغلب على العادات الضارة بصحة المرأة، وترعى صحتها وصحة أطفالها.
وكان نهج مابل الدعوة بالحسنى لصحة الأمهات لا التأمر من عل. ولم تفهم من المقاومة التي لقيتها في تحديثها للولادة أنها صنع "متمردين" ذوي نية مبيته لإفشالها، بل زميلات لهن عزة بما تعودن من مهنتهن. وصح استصحابهن في ذلك الطريق المستجد عليهن. ومن مصابرتها على جفاء زميلات المهنة انتهازها زيارات التفتيش على القابلات للترويج للمدرسة بين الأهالي. فلم تر في معارضة دايات الحبل التقليديات للنظام الجديد دساً للتقويض. وسعت مابل في وجه مقاومتهن لتليين موقفهن بلقاءات معهن والحديث إليهن بأحاديث سمتها "أحاديث في التوليد". وكانت المقاومة حقيقة حتى طالبات المدرسة كرهن الإقامة في المدرسة. ووكزتها مرة داية حبل قائلة: "أنا وَلَّدت قبل يولدو أمك". وبدأ فصلها الأول وفيه اثنتان من دايات الحبل (عمرهما 68 سنة و70 سنة). وسارعت لتخريج دايات مثل عزيزة برسي (68 سنة) ومستورة خضر الأصغر قليلاً لتخرج من الحرج بأنها أجنبية لا تحسن الولادة السودانية. ثم جات جندية صالح التي لعبت، رغم أميتها، دوراً مميزاً في تقريب مهنتي القابلة والممرضة لجمهور النساء.
وأهم سمات نهج مابل هو حسها الفائق بالزمالة مع فريقها مع طاقم المدرسة. فقالت عن بتول عيسى: "إنها بحق امرأة غير عادية في توجهها ونظرتها للحياة، وفي تربيتها لابنها، وفي إحساسها العميق بالمسؤولية. يأتي العمل عندها أولاً مهما كلف ذلك. ولا تدخر وسعاً في ذلك. إن ثباتها على قيم وشرف العمل بمدرسة الدايات كان أعز شيء عندها". ونعت هي واختها جيرترود المرحومة جندية حين توفيت بالسرطان في 1936. ووصفتاها ب"المجاهد المحارب". وكتبتا شاهداً باسمهما على قبرها. وترقرقت عين حفيدة لجندية وهي تسمع من المؤلف ثناء مابل وأختها عليها.
وكان أبهر صور زمالة مابل هو تعلمها اللغة الدراجة السودانية لتصح دعوتها للتحديث بلغة القوم فتصل الشغاف. فلم تتعلل بمعرفتها عامية مصر دون تعلم عامية السودان. وبلغت من معرفة العامية السودانية مبلغ أهلها. ففي زيارة للمؤلف لها بمنزلها بإنجلترا كسرت زميلتها إناء ما فصاحت مابل: "انكسر الشر".
وأعانتها معرفة العامية السودانية على تملك زمام قاموس النساء السودانيات. فجمعت الكلمات في العامية عن الحمل ومتعلقاته لوظيفها في تدريب القابلات. وهو البدء من ثقافة طالب الخدمة ومؤديها لا افتراض خلوه منها لتجريعه ثقافة أرقى مزعومة. فأنشأت "دليل العربية السودانية لقابلات" ترجمت فيه المصطلحات العلمية في لغة ميسرة للتدريب فيه. ووظفت خيالاً شفيفاً للغاية. فجعلت الجسم في الكتاب ك: "شبه بيت مفروش. وكل العدة الفيه عندها فايدة مخصوصة. القلب يشبه الطرمبه فشان كلما ينفك يشفط الدم الفاسد". الصدر شبه قفص من عظم وفيه بالظهر عظام السلسلة واللوحتين. والفشافيش مثل شبابيك البيت. والمعدة متل الخرج. وهي "متل المرحاكة عشان بتفرم الأكل ناعم".
وجنح خيال مابل تستثمر في روتين حياة النساء اليومي لبلوغ مقاصدها. فلتقلع النساء عن لزوم السرير لأربعين يوما جاءت ماربل بمجاز "الجبنة" لتقريب مخاطر العادة. فصورت الرحم كجبنة. والرقاد يجعل الرحم كجبنة راقدة على جنبها يبقى فيها شيء من القهوة بعد صبها. وهذا ما يحدث للمرأة المستلقية فلا تنزل منها إفرازات الولادة. وزينت كل كتب منهجها بصور إيضاحية بريشتها فقد كانت رسامة موهوبة أيضاً. بل لربما كان الفن هو الذي ساقها إلى هذه المخاطرة الرشيقة مع مستعمَرين تحت حكم بلدها.
ودخلت بإحسان تعليم القابلات المطبخ لتأتي لهن بمجازات قريبة إلى افهامهن. فاخترعت مجاز "كشف الحلة" مثلاً من واقع النساء لتأليف الحوامل ليحضرن للعيادة. وتخريج المجاز في سؤالها للحامل: إذا كانت لك حلة على النار هل ستتركين الطعام يحرق أم أنك سترفعين الغطاء عنها مرة بعد مرة للتأكد من نضج الطبيخ قبل الحريق؟ وصار "كشف الحلة" عبارة في وفود الحوامل للكشف الدوري عليهن.
وسخي المثال الديني لمابل في التدريب. فواتاها في ما ورد في المنهج: "عليك أن تتذكري أن كل مولود تساعدينه من ظلام الرحم إلى ضياء الحياة هو هبة من الله وعليك أن تكوني جديرة بهذه الهبة الربانية". وزكى المنهج التوليد من جهة تقواه فاستثمرت من الدين الشعبي قوله: إذا ولدت الداية 99 ولادة بكرية (تلد لأول مرة) فلها الجنة. وحز في نفس المؤلف أن نغادر هذه البركة، وهي مطلب البروف عبد الله الطيب من التعليم، في تعليمنا الطبي المعاصر وممارسته فيتقدس عندنا الكسب والجاه. فعبارة طب الجاه بالمقابل هي: علم بالعينات الخمس: عيادة وعربة وعروس وعمارة وعزبة
لا مندوحة أن ينصرف الذهن إلى عقد مقارنة بين مدرسة القابلات وبخت الرضا بقرينة أنهما خدمتان تعليميتان من مستعمر واحد. وقد جاء ذلك المستعمر بتكليف ذاتي لانتشال أهل المستعمرة من وهدة الفاقة إلى رحاب الحداثة. ولكن في المماثلة بين التجربتين ظلم كبير لمدرسة القابلات. فاختلف التدريب في مدرسة القابلات عن معهد بخت الرضا من جهة تقييم المؤسستين للثقافة السودانية. فاتفق كلاهما على شح مواردها في ما يليهما من فن. ولكن بينما قامت فلسفة بخت الرضا على أخذ التلميذ من فقر ثقافته (المفترض من الاستعمار) إلى غنى ثقافتهم في مدرسة غنية لبيئة فقيرة (أو غبية)، في قولهم، كانت فلسفة مدرسة القابلات في استثمار ثقافة النساء للنفاذ بالحداثة لهن. فدربت القابلات لأداء مهمتهن داخل أكثر البيوت فقراً وتسخير إمكاناته لغرضها. فلتوقع ألا تكون بالبيت إنارة فالقابلة دُربت القابلة على حفظ استعمالات وجرعات الأدوية. كما تستخدم حواسها بالذوق أو الرائحة لتتعرف على المساحيق في صندوق المهنة. وكانت القابلات يُدربن على الولادة ونظافة الطفل على دمى من مواد محلية تصنعها المتدربات وهذا باب في المشاركة مميز في التدريب. وأعطوا اسم "ظريفة" لدمية الولادة لأنها تسمح للجميع توليدها. وجرى تدريب خياطة الأنسجة بالمقص على إطارات السيارات الداخلية. واحترمت مابل أمية قابلاتها فرتبت لهن أقراص ملونة تقف بها الداية على مراحل الحرج في النفاس في المستشفى. وهكذا قبلتهن أميات كما ولدتهن أمهاتهن ووفرت لهن طرائق للتوطن في المهنة ومعرفة لغتها.
واختلفت المؤسستان حيال الهرمية المؤسسية التي شابها استعلاء المستعمر على من هم دونه.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

تخصيص أراضٍ لإنشاء 20 مدرسة جديدة بالمنيا

وافق اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، على تخصيص عدد من قطع الأراضي لإنشاء 20 مدرسة جديدة بمختلف مراكز المحافظة التسع، تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية بالتوسع في إنشاء صروح تعليمية حديثة تستوعب الكثافات الطلابية، وتسهم في الارتقاء بمنظومة التعليم وتوفير فرص تعليمية متميزة لأبناء المحافظة.

كما وافق المحافظ على إخراج 3 قطع أراضٍ، كانت مدرجة ضمن مشروعات شراكة لإنشاء مدارس لغات، من نظام المشاركة، لإدراجها ضمن الخطة الاستثمارية لهيئة الأبنية التعليمية بمركزي مغاغة وسمالوط، بهدف دعم إنشاء مدارس لغات حكومية تلبّي تطلعات أولياء الأمور وتوفر تعليمًا متميزًا بتكلفة مناسبة.

دون إصابات.. السيطرة على حريق شب بمحل مأكولات بديرمواس جنوب المنياضبط 149 مخالفة تموينية خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق بالمنياالموجة 26.. محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة

جاء ذلك خلال ترؤس المحافظ لاجتماع المجلس التنفيذي، بحضور الدكتور محمد أبو زيد، نائب المحافظ، واللواء أ.ح أحمد جميل، السكرتير العام المساعد، والعميد أ.ح محمد توفيق، المستشار العسكري للمحافظة، وعدد من القيادات الأمنية والتنفيذية، ورؤساء الوحدات المحلية، ووكلاء الوزارات، ومديري المديريات الخدمية، وممثلي الهيئات والشركات.

وأكد المحافظ أن قطاع التعليم يشهد تطورًا ملموسًا على مستوى المحتوى والمضمون، مما يسهم في تنمية قدرات الطلاب الفكرية والذهنية، لافتًا إلى أهمية التوسع في إنشاء المدارس الرسمية والتجريبية للغات لتلبية الإقبال المتزايد على التعليم بتنوع تخصصاته و اختلاف فئاته.

كما وافق المحافظ على تخصيص أراضٍ لإنشاء مدارس جديدة بقرية الدوادية التابعة لمركز المنيا، وعزبة الرملة التابعة لمركز سمالوط، موجّهًا بتشكيل لجنة فنية لمعاينة تلك الأراضي بالتنسيق مع هيئة الأبنية التعليمية ومديريتي الزراعة والري، لسرعة استكمال إجراءات التخصيص وبدء الأعمال الإنشائية.

وفي سياق آخر، أكد محافظ المنيا رفع درجة الاستعداد القصوى بجميع أجهزة المحافظة استعدادًا لانتخابات مجلس الشيوخ، المقرر عقدها يومي 4 و5 أغسطس المقبل، مشيرًا إلى الانتهاء من تجهيز 469 مقرًا انتخابيًا بإجمالى 476 لجنة فرعية، تستعد لاستقبال 3 ملايين و797 ألفًا و577 ناخبًا وناخبة على مستوى المحافظة.

وشدّد المحافظ على أهمية التزام الأجهزة التنفيذية بالحياد الكامل، واقتصار دورها على الدعم الفني والإداري فقط، بما يضمن إجراء الانتخابات في مناخ آمن ومنظّم يعكس الوعي الوطني لدى المواطنين.

كما وجّه المحافظ بإلغاء الإجازات للعاملين بالوحدات المحلية ومديريات الخدمات خلال أيام الانتخابات، ومتابعة أعمال النظافة ورفع الإشغالات بمحيط اللجان، وتوفير وسائل الإضاءة والمياه والتهوية، إلى جانب تجهيز دورات مياه وكراسٍ ومقاعد لكبار السن وذوي الهمم، لتيسير مشاركتهم في العملية الانتخابية.

وفي إطار جهود التنمية المحلية، وافق المجلس التنفيذي على تخصيص عدد من قطع الأراضي لإقامة مشروعات خدمية وتنموية، من بينها قطعة أرض بمساحة 11 قيراطًا لإنشاء وحدة مرور بمغاغة، و19 قيراطًا لمخزن معدات النقل البطيء، إضافة إلى توسعة فناء معهد أزهري بقرية أبيوها، وتوسعة مدرسة التوحيد الابتدائية بقرية تلة، وإنشاء مجمع مصالح حكومية بمركز العدوة، وذلك ضمن الخطة الاستثمارية للمحافظة للعام المالي 2025/2026.

كما ناقش المجلس عددًا من الطلبات الخاصة بتخصيص أراضٍ لإنشاء معاهد أزهرية بمركزي مغاغة والعدوة، ووجّه المحافظ بسرعة إنهاء الإجراءات اللازمة بالتنسيق مع الجهات المعنية.

واختتم الاجتماع باستعراض موقف تنفيذ الخطة الاستثمارية الموحدة للعام المالي 2025/2026 على مستوى مراكز ومدن المحافظة، ومديريات الخدمات، والهيئات المختلفة، لتعظيم الاستفادة من المشروعات بما يحقق الصالح العام.

طباعة شارك المنيا محافظ المنيا المجلس التنفيذي

مقالات مشابهة

  • تخصيص أراضٍ لإنشاء 20 مدرسة جديدة بالمنيا
  • تكوين مجلس الجالية السودانية في مصر
  • ختام النسخة الثالثة من "المدرسة الصيفية للأكاديميين"
  • رانيا يوسف تفتتح مدرسة لتعليم الرقص الشرقي
  • مدير تعليم بورسعيد يتابع انتظام امتحانات الدور الثاني لصفوف النقل
  • «الغرباوي» يتابع امتحانات الدور الثاني ميدانيًا في بورسعيد.. ويُشدّد على دعم الطلاب الضعاف|صور
  • الرئيس اليمني الأسبق: الرئيس السيسي مواقفه وطنية والحرب على غزة تجسيد للمأساة الإنسانية
  • اللا-معقول في السياسة السودانية
  • زيد ديراني يحيي حفلاً في بيروت وُصِفَ بـالاستثنائي
  • نقابة موظفي التعليم العالي والأحياء الجامعية تستنكر التضييق على أشكالها النضالية