مابل ولف ومدرسة القابلات (1920): الاستعمار المضاد (1-2)
تاريخ النشر: 25th, April 2025 GMT
عبد الله علي إبراهيم
د. حسن بلة الأمين، أطباء السودان الحفاة: قصة نجاح بهرت العالم، جامعة الخرطوم للنشر، 2012 (الطبعة الثانية، المصورات 2025)
(شرفت بطلب الدكتور حسن الأمين بلة تقديم كتابه أعلاه. فكتبت ما تجده أدناه)
هذا الكتاب شديد الحفاوة بتدريب القابلات بمدرسة الدايات التي نشأت في أم درمان في 1920.
“You made me feel proud as a Sudanese as I never felt before.”
"لقد جعلتني أحس بالزهو بأنني سوداني كما لم أحس من قبل".
وأراد المؤلف بالتوثيق لمدرسة القابلات أن نستصحب عبقرية تلك المدرسة في السياسة الصحية القومية وأن نبني عليها لعافية الريف خاصة. فظل المؤلف مهجساً بخبرة الطبيب الحافي في مدرسة القابلات لأربعين سنة أنفقها في لقاءات بمن كانوا من وراء تدريب أولئك الطبيبات الحافيات، وفي أبحاث عن حال هذا التدريب في إطار تخصصه في طب الأسرة. وكتب مؤلفاته بالإنجليزية ثم ساءه ألا يبلغ من ذلك شيء إلى بني بلده. فكتب كتابه هذا في العربية الذي تجوهرت فيه معارف أربعين عاماً في لغة أجنبية. وقال: "ارجو أن يكون هذا الكتاب تعبيراً عن حبي للوطن، وللمحتاجين للنصرة من أهله".
أدرك المؤلف مابل وولف، مؤسسة مدرسة القابلات في 1920، وأخذ منها لأنها عاشت لمائة عام. فهشت له وسعدت أن يطلبها طبيب سوداني شاب راغب في معرفة تجربتهن الباكرة في السودان. واجتمع معها بإلين كندل آخر مديرة بريطانية لمدرسة القابلات. ثم بحث عن مس إي هلز ينق التي خلفت مابل في العمادة. ثم التقى في السودان بالست بتول محمد عيسى الباشدايه الأولى بالمدرسة وعميدة المدرسة لاحقاً ولمدة طويلة. والتقى كذلك بست الدون من أوائل خريجات المدرسة وصارت عميدة لمدرسة الدايات بمدني. ثم ست حواء محمد صالح من رائدات التمريض والتوليد.
نشأ برنامج تدريب القابلات في مدرستهن على يد السيدة مابل وولف ولحقت بها أختها جيرترود لاحقاً لتساعدها لدى مرضها عام 1929. وحين شفيت مابل صارت جيرترود مساعدة لها. وجاءت مابل إلى السودان من مصر وكانت رئيسة التمريض بالفيوم فيها. وهدفت المدرسة إلى تحقيق وجود قابلة مدربة في كل قرية للتغلب على العادات الضارة بصحة المرأة، وترعى صحتها وصحة أطفالها.
وكان نهج مابل الدعوة بالحسنى لصحة الأمهات لا التأمر من عل. ولم تفهم من المقاومة التي لقيتها في تحديثها للولادة أنها صنع "متمردين" ذوي نية مبيته لإفشالها، بل زميلات لهن عزة بما تعودن من مهنتهن. وصح استصحابهن في ذلك الطريق المستجد عليهن. ومن مصابرتها على جفاء زميلات المهنة انتهازها زيارات التفتيش على القابلات للترويج للمدرسة بين الأهالي. فلم تر في معارضة دايات الحبل التقليديات للنظام الجديد دساً للتقويض. وسعت مابل في وجه مقاومتهن لتليين موقفهن بلقاءات معهن والحديث إليهن بأحاديث سمتها "أحاديث في التوليد". وكانت المقاومة حقيقة حتى طالبات المدرسة كرهن الإقامة في المدرسة. ووكزتها مرة داية حبل قائلة: "أنا وَلَّدت قبل يولدو أمك". وبدأ فصلها الأول وفيه اثنتان من دايات الحبل (عمرهما 68 سنة و70 سنة). وسارعت لتخريج دايات مثل عزيزة برسي (68 سنة) ومستورة خضر الأصغر قليلاً لتخرج من الحرج بأنها أجنبية لا تحسن الولادة السودانية. ثم جات جندية صالح التي لعبت، رغم أميتها، دوراً مميزاً في تقريب مهنتي القابلة والممرضة لجمهور النساء.
وأهم سمات نهج مابل هو حسها الفائق بالزمالة مع فريقها مع طاقم المدرسة. فقالت عن بتول عيسى: "إنها بحق امرأة غير عادية في توجهها ونظرتها للحياة، وفي تربيتها لابنها، وفي إحساسها العميق بالمسؤولية. يأتي العمل عندها أولاً مهما كلف ذلك. ولا تدخر وسعاً في ذلك. إن ثباتها على قيم وشرف العمل بمدرسة الدايات كان أعز شيء عندها". ونعت هي واختها جيرترود المرحومة جندية حين توفيت بالسرطان في 1936. ووصفتاها ب"المجاهد المحارب". وكتبتا شاهداً باسمهما على قبرها. وترقرقت عين حفيدة لجندية وهي تسمع من المؤلف ثناء مابل وأختها عليها.
وكان أبهر صور زمالة مابل هو تعلمها اللغة الدراجة السودانية لتصح دعوتها للتحديث بلغة القوم فتصل الشغاف. فلم تتعلل بمعرفتها عامية مصر دون تعلم عامية السودان. وبلغت من معرفة العامية السودانية مبلغ أهلها. ففي زيارة للمؤلف لها بمنزلها بإنجلترا كسرت زميلتها إناء ما فصاحت مابل: "انكسر الشر".
وأعانتها معرفة العامية السودانية على تملك زمام قاموس النساء السودانيات. فجمعت الكلمات في العامية عن الحمل ومتعلقاته لوظيفها في تدريب القابلات. وهو البدء من ثقافة طالب الخدمة ومؤديها لا افتراض خلوه منها لتجريعه ثقافة أرقى مزعومة. فأنشأت "دليل العربية السودانية لقابلات" ترجمت فيه المصطلحات العلمية في لغة ميسرة للتدريب فيه. ووظفت خيالاً شفيفاً للغاية. فجعلت الجسم في الكتاب ك: "شبه بيت مفروش. وكل العدة الفيه عندها فايدة مخصوصة. القلب يشبه الطرمبه فشان كلما ينفك يشفط الدم الفاسد". الصدر شبه قفص من عظم وفيه بالظهر عظام السلسلة واللوحتين. والفشافيش مثل شبابيك البيت. والمعدة متل الخرج. وهي "متل المرحاكة عشان بتفرم الأكل ناعم".
وجنح خيال مابل تستثمر في روتين حياة النساء اليومي لبلوغ مقاصدها. فلتقلع النساء عن لزوم السرير لأربعين يوما جاءت ماربل بمجاز "الجبنة" لتقريب مخاطر العادة. فصورت الرحم كجبنة. والرقاد يجعل الرحم كجبنة راقدة على جنبها يبقى فيها شيء من القهوة بعد صبها. وهذا ما يحدث للمرأة المستلقية فلا تنزل منها إفرازات الولادة. وزينت كل كتب منهجها بصور إيضاحية بريشتها فقد كانت رسامة موهوبة أيضاً. بل لربما كان الفن هو الذي ساقها إلى هذه المخاطرة الرشيقة مع مستعمَرين تحت حكم بلدها.
ودخلت بإحسان تعليم القابلات المطبخ لتأتي لهن بمجازات قريبة إلى افهامهن. فاخترعت مجاز "كشف الحلة" مثلاً من واقع النساء لتأليف الحوامل ليحضرن للعيادة. وتخريج المجاز في سؤالها للحامل: إذا كانت لك حلة على النار هل ستتركين الطعام يحرق أم أنك سترفعين الغطاء عنها مرة بعد مرة للتأكد من نضج الطبيخ قبل الحريق؟ وصار "كشف الحلة" عبارة في وفود الحوامل للكشف الدوري عليهن.
وسخي المثال الديني لمابل في التدريب. فواتاها في ما ورد في المنهج: "عليك أن تتذكري أن كل مولود تساعدينه من ظلام الرحم إلى ضياء الحياة هو هبة من الله وعليك أن تكوني جديرة بهذه الهبة الربانية". وزكى المنهج التوليد من جهة تقواه فاستثمرت من الدين الشعبي قوله: إذا ولدت الداية 99 ولادة بكرية (تلد لأول مرة) فلها الجنة. وحز في نفس المؤلف أن نغادر هذه البركة، وهي مطلب البروف عبد الله الطيب من التعليم، في تعليمنا الطبي المعاصر وممارسته فيتقدس عندنا الكسب والجاه. فعبارة طب الجاه بالمقابل هي: علم بالعينات الخمس: عيادة وعربة وعروس وعمارة وعزبة
لا مندوحة أن ينصرف الذهن إلى عقد مقارنة بين مدرسة القابلات وبخت الرضا بقرينة أنهما خدمتان تعليميتان من مستعمر واحد. وقد جاء ذلك المستعمر بتكليف ذاتي لانتشال أهل المستعمرة من وهدة الفاقة إلى رحاب الحداثة. ولكن في المماثلة بين التجربتين ظلم كبير لمدرسة القابلات. فاختلف التدريب في مدرسة القابلات عن معهد بخت الرضا من جهة تقييم المؤسستين للثقافة السودانية. فاتفق كلاهما على شح مواردها في ما يليهما من فن. ولكن بينما قامت فلسفة بخت الرضا على أخذ التلميذ من فقر ثقافته (المفترض من الاستعمار) إلى غنى ثقافتهم في مدرسة غنية لبيئة فقيرة (أو غبية)، في قولهم، كانت فلسفة مدرسة القابلات في استثمار ثقافة النساء للنفاذ بالحداثة لهن. فدربت القابلات لأداء مهمتهن داخل أكثر البيوت فقراً وتسخير إمكاناته لغرضها. فلتوقع ألا تكون بالبيت إنارة فالقابلة دُربت القابلة على حفظ استعمالات وجرعات الأدوية. كما تستخدم حواسها بالذوق أو الرائحة لتتعرف على المساحيق في صندوق المهنة. وكانت القابلات يُدربن على الولادة ونظافة الطفل على دمى من مواد محلية تصنعها المتدربات وهذا باب في المشاركة مميز في التدريب. وأعطوا اسم "ظريفة" لدمية الولادة لأنها تسمح للجميع توليدها. وجرى تدريب خياطة الأنسجة بالمقص على إطارات السيارات الداخلية. واحترمت مابل أمية قابلاتها فرتبت لهن أقراص ملونة تقف بها الداية على مراحل الحرج في النفاس في المستشفى. وهكذا قبلتهن أميات كما ولدتهن أمهاتهن ووفرت لهن طرائق للتوطن في المهنة ومعرفة لغتها.
واختلفت المؤسستان حيال الهرمية المؤسسية التي شابها استعلاء المستعمر على من هم دونه.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
المدرسة المعظمية مؤسسة موقوفة على الأحناف في القدس
المدرسة المعظمية -وتعرف أيضا بالمدرسة الحنفية- واحدة من كبريات المدارس ومن أهم الركائز الدينية في القدس المحتلة، وتستفيد من أوقاف أوقفتها عليها جهات كثيرة. وكان لها دور ملموس في الحركة الفكرية بالمدينة الفلسطينية المقدسة.
تولى مشيختها والتدريس فيها عدد من كبار العلماء، واستمرت تقوم بدورها الفكري قرونا عدة.
الموقع والتأسيستقع المدرسة المعظمية في المنطقة الشمالية من المسجد الأقصى المبارك، في طريق المجاهدين الموصل من باب الأسباط إلى عمق البلدة القديمة.
وقد أنشأ المدرسة المعظمية الملك الأيوبي المعظم شرف الدين عيسى بن محمد بن أيوب، وهو ابن أخ السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمهما الله، سنة 614هـ/1218م، وأوقفها على طلبة العلم من أتباع المذهب الحنفي.
وكانت للمدرسة أوقاف كثيرة من القرى والمزارع والضيعات، منها على سبيل المثال: نصف قرية لفتا وقرية علار الفوقا والتحتا، وقرى الرام ودير أسد وحوسان وبتير وغيرها، ولكن عبثت بهذه الأوقاف أيدي بعض الناس فأصبحت أملاكا خاصة.
سبب التسميةسميت بالمعظمية على اسم مُنشئها وواقفها الملك المعظم عيسى بن محمد بن أيوب، وسميت بالحنفية لأنه تم وقفها على الفقهاء والمتفقهة من أصحاب المذهب الحنفي.
وصف المدرسةتتألف المدرسة من طابقين، ومدخلها يؤدي إلى موزع يؤدي بدوره إلى صحن مكشوف في الطابق الأول، ويوجد شمال الصحن إيوان (وهو مكان متسع من الدار تحيط به جدران ثلاثة فقط معقود السقف مكشوف الوجه).
والإيوان مرتفع كبير الحجم، ويطل على الصحن من فتحة جنوبية يتقدمها عقد مدبب. وحول الصحن عدد من الغرف التي تستخدم لقراءة وحفظ القرآن، وتشير الدلائل الأثرية إلى أنه كان هناك إيوان جنوبي مقابل الإِيوان الشمالي.
إعلانوقد كانت الغرف القائمة في الطابق الأول إلى الآن، والأخرى التي كانت قائمة في الطابق الثاني المتهدم، تستعمل لسكن المدرسين وطلبة العلم والقائمين على خدمة المدرسة.
غير أن هذه المدرسة اندثرت وتهدمت كثير من أجزائها، وأصبح ما تبقى منها يستخدم دارا للسكن.
وخلفها ساحة تضم قبور مجاهدين يعتقد أنهم من العصر الأيوبي ممن جاهدوا مع صلاح الدين الأيوبي، وسميت الطريق إلى جنوب هذه المدرسة "طريق المجاهدين" نسبة إلى هذه المقبرة.
وتوجد بقايا مئذنة خلف الساحة، من الجهة الجنوبية للمدرسة، وقد أنشئت في عهد المماليك سنة 673 هجرية، بأمر من الملك القاهر بن الملك المعظم.
وتعلم في هذه المدرسة الكثير من العلماء الأحناف في القدس، وأشهرهم على الإطلاق شمس الدين الحموي ناظر القدس والخليل، والذي دفن في مقبرة المجاهدين المذكورة آنفا.
ويروي عارف العارف أنه زار هذه المدرسة يوم 20 فبراير/شباط 1947 فوجد الخراب مخيما على الجانب الأكبر منها، واستطاع أن ينسخ نقشين لا يزالان مقروءين مثبتين على بلاطتين.
ويقول النقش الأول "أمر يعمله مولانا السلطان الملك المعظم شرف الدنيا والدين أبو العزائم عيسى بن أبي بكر بن أيوب الواقف لهذه المدرسة على الفقهاء والمتفقهة من أصحاب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه. وذلك في شهور سنة أربع عشرة وستمئة للهجرة النبوية، تقبل الله عنه وغفر له. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما".
أما النقش الثاني فنصه "أمر بعمارة هذه المئذنة المباركة الملك القاهر الناظر بهذه المدرسة غفر الله له وتغمد برحمته والده الواقف السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى قدس الله روحه في شهور سنة ثلاث وسبعين وستمئة".
وتهدمت مئذنة جامع المدرسة، الذي كان يعرف بمسجد المجاهدين قبل حوالي 150 عاما، ويستخدم ما تبقى من المدرسة سكنا لعائلات مقدسية.
إعلان