سواليف:
2025-07-07@03:30:59 GMT

مؤشرات تنبئ بنهاية حكم قيس سعيد في تونس

تاريخ النشر: 3rd, May 2025 GMT

#سواليف

كتب .. جمال الطاهر

حدث ما كان متوقعًا، وأصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصّة في قضايا الإرهاب بتونس حكمها فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، كبرى القضايا السياسية في تونس ما بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021.

شملت الأحكام أربعين “متهمًا” بين موقوف وفي حالة سراح وبحالة فرار، وتراوحت ما بين 66 و8 سنواتٍ سجنًا، بلغت في مجملها تسعة قرون، حسب تصريح الأستاذ سمير ديلو عضو هيئة الدفاع في ندوة صحفية لتلاوة نص قرار الحكم، منها أربعة قرون مبنية على إفادات شاهدين بقيت هويتاهما محجوبتَين، ولم تتم مكافحتهما مع المشمولين كما لم يتم استنطاقهما من هيئة المحكمة التي اعتمدت شهادتَيهما لإصدار أحكامها.

مقالات ذات صلة السبت .. ارتفاع طفيف على درجات الحرارة 2025/05/03

لن نتوقف كثيرًا عند حيثيات المحاكمة وما حفّ بها من خروقات إجرائية جسام أفقدتها أدنى شروط المحاكمة العادلة؛ لأن ذلك أصبح معلومًا لدى الجميع داخل تونس وخارجها.

لن نتوقف عند هذه الخروقات لا لعدم أهميتها، ولكن لأنها أصبحت معلومة ووصفة مشتركة بين كل المحاكمات منذ الانقلاب بعد أن أحكم قيس سعيد وضع يده على القضاء، وحوّله من سلطة لها هياكلها وتقاليدها وآلياتها إلى وظيفة لدى السلطة التنفيذية السياسية تخضع للتعليمات.

في مشهد يصفه كثيرون بأنه ما فوق “سريالي” وغير مسبوق في تاريخ #القضاء_التونسي منذ زمن البايات، مرورًا بزمنَي بورقيبة، وبن علي الاستبداديَين، أصرّت هيئة المحكمة على أن تكون الجلسات عن بعد أي “سرية”، رغم رفض المشمولين (المتهمين) وعائلاتهم واعتراض المحامين؛ لإخلالها بأبسط قواعد المحاكمة العادلة من حضور المشمولين والشهود والإعلام والرأي العام.

كانت المحاكمة على مستوى الشكل أشبه بمرور بالقوة من هيئة المحكمة جعل المعنيين بها والمتابعين لها في الداخل والخارج، من منظمات وهياكل وشخصيات، يصفونها بالمهزلة ويرفضون أحكامها.

بعد أسبوع من هذه المحاكمة “المسخرة”، انتصبت هيئة أخرى للنظر في قضية ما يسمّى “التسفير”، تسفير تونسيين إلى بؤر التوتر مثل العراق وسوريا (2012-2013) من بين المشمولين فيها المهندس علي العريض وزير الداخلية ورئيس الحكومة السابق، ونائب رئيس حركة النهضة، وعدد من الإطارات الأمنية من بينهم “متهمون” بالانتماء لحركة النهضة. جاءت الجلسة هي الأخرى عن بعد، وانطلق فيها الاستنطاق قبل أن تقرر هيئة المحكمة رفعها لمواصلتها خلال أسبوع.

في قاعة أخرى من جنبات محكمة تونس، انتصبت في نفس اليوم جلسة محاكمة الأستاذ نور الدين البحيري وزير العدل السابق والنائب بمجلس النواب المنتخب في 2019، ونائب رئيس حركة النهضة لمقاضاته استئنافيًا بعد أن تمّ الحكم عليه ابتدائيًا بعشر سنوات سجنًا من أجل ما نُسب إليه من تدوينة أثبتت كل الاختبارات الفنية أنها غير موجودة أصلًا. تمّ تأجيل الجلسة إلى موعد لم يحدّد بعدُ بطلب من هيئة الدفاع.


حصاد ثقيل

يزداد حصاد المسار القضائي ثقلًا وسوادًا نتيجة أسباب عديدة منها، توسّع دائرة المشمولين من حيث العدد، ومن حيث الانتماء السياسي، أو القطاعي، خطورة الاتهامات التي تصل فيها “العقوبات” إلى الإعدام، فراغ الملفات وخلوّها من الأدلة والقرائن، جسامة الخروقات الإجرائية، وقساوة الأحكام الصادرة حتى الآن والتي فاقت كل ما صدر عن المحاكمات السياسية السابقة في تونس.

يضاف إلى ذلك تواصل التنكيل بالمعتقلين وعائلاتهم وتواصل تهميش منظمات الدفاع عن الحقوق والحريات وتجاهل بياناتها ومطالبها.

تفعل سلطة قيس سعيد كل ما يؤكّد أنها ماضية في قرارها تصفيةَ كل معارضيها من كل الاتجاهات والقطاعات بتغييب البعض في السجون والمعتقلات، وبفرض الهجرة القسرية على بعضهم الآخر، وقد أصمّت أذنيها عن اعتراضاتهم وصيحاتهم، وأغمضت عينيها عن وقفاتهم الاحتجاجية المتتالية والمتصاعدة.

لعلّ “أبشع” ما تقوم به السلطة في هذا المجال أمور ثلاثة:

الأول تماديها في اعتقال المعارضين، وكان آخرهم المحامي والقاضي الإداري المتقاعد وعضو هيئة الدفاع عن المشمولين بقضية التآمر الأستاذ أحمد صواب، على خلفية كلام قاله يوم المحاكمة حُمل على أنّه تهديد “بالقتل” للقاضي، تمّ بمقتضاه إحالته على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
الثاني، تواصل التعتيم الإعلامي والحرص على عدم إطلاع الرأي العام على حقيقة القضايا وملفاتها بمنع التداول الإعلامي، وسرية جلسات المحاكمة، وغياب السردية الرسمية، حيث لم تقدّم أي جهة قضائية إلى اليوم أي تصريح حول حقيقة التهم وأدلتها وأدواتها وسير الأبحاث.
الأمر الثالث، هو إسكات المشمولين ومنعهم من الدفاع عن أنفسهم منذ فتح الملف بإصرار قاضي التحقيق على عدم الاستماع إليهم إلا في دقائق معدودة، وعدم تمكينهم من مكافحة المبلّغَين اللذين بقيا محجوبي الهوية. فقد أمضى المشمولون أكثر من سنتين من الاعتقال دون تحقيق أو مكافحة لتنتهي مهزلة إسكاتهم قسرًا بقرار هيئة المحكمة أن تكون الجلسات عن بعد؛ أي سرية لا حقّ للمشمولين فيها بالدفاع عن أنفسهم ومكافحة المبلّغين والاستماع إلى مرافعات محاميهم.

بهذا الحصاد الثقيل في ميزان الحقوق والحريات، تكون منظومة قيس سعيد التنفيذية والتشريعية وأداتها القضائية وروافدها الأخرى السياسية والإعلامية، قد كتبت سجلًا لم يسبقها إليه أحد من الحكام السابقين، كما لن يتبعها فيه أحد من الحكام اللاحقين، سجلّ غاية في قتامة السواد سيبقى يلاحقهم أحياء وأمواتًا، وسيكون تعبيرًا عن مرحلة منبوذة في تاريخ تونس.

تدحرج نحو النهاية

في السياسة وتجارب الحكم، لا يهتمّ الحكام “الجدد” بأي وسيلة جاؤوا بها إلى الحكم، عبر انتخابات حرة أو مزورة، أو عبر انقلاب، أو عبر توريث. الأهم عندهم هو كيف يستمرّ حكمهم.

في الأنظمة الديمقراطية، حتى الناشئة منها، يجتهد الحكام في العمل للإيفاء بتعهداتهم الانتخابية؛ لضمان عهدة ثانية، وإذا ما فشلوا في تحقيق ذلك يقبلون بنتائج الصندوق، ويسلّمون السلطة وفق أعراف وآليات سلمية تضمن تواصل الدولة ومؤسساتها.

أما في الأنظمة الاستبدادية بكل أشكالها، يحرص الحكّام بمن فيهم من جاءت بهم الديمقراطية إلى الحكم مثل قيس سعيد، إلى فعل كلّ شيء “بغيض” لوضع اليد على الدولة ومؤسساتها وإمكاناتها؛ لفرض تواصل حكمهم بدءًا بتغيير هيئة الدولة ونظام حكمها، مرورًا بتصفية كل معارضيهم من سياسيين وقوى مدنية، وتجريف الفضاء العام وإخلائه من كل “أسلحته”، وترهيب الجميع لالتزام الصمت، وانتهاءً بتغييب الشعب عبر نشر المغالطات، وبيع الأوهام، وإطلاق الشعارات المضلّلة والحروب الوهمية ضد أعداء وهميين يتمّ وصفهم ووصمهم بكل نقيصة ورذيلة.

هذا بالضبط ما تقوم به منظومة #قيس_سعيد منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، وقد تعزّز وترسّخ بعد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024. تاريخ “إعادة” انتخاب قيس سعيد لعهدة رئاسية ثانية حفّت بها العديد من التجاوزات والخروقات، ورفض نتائجها العديد من الأطراف.

تصف المعارضة قيس سعيد بأنه اختار نهج المستبدين في إدارة الحكم، وأعرض عن نهج المصلحين الديمقراطيين، اختار أن تكون شرعية حكمه انتخابات مطعونًا فيها، وأن تكون أدوات حكمه عصا البوليس وقضاء التعليمات والسجون والمعتقلات.

اختار سعيد المرور بالقوة والهروب إلى الأمام في فرض مشروعه السياسي الشخصي الذي لا يزال مبهمًا، صمت عن تفسيره حتى أكبر المفسرين، وتلعثم قيس نفسه كلّما أراد شرحه وبيانه، ما جعل تونس تسير في طريق مجهول لا يعلمه حتّى من بشّر به ولم يرَ منه التونسيون غير آثاره التي لم تزد واقعهم إلا سوءًا ومعيشتهم إلا ضنكًا، وحريتهم إلا ضيقًا وأفقهم إلا انسدادًا.

مشهد جديد تكتمل أركانه

يبدو المشهد العام في تونس، أكثر من أي وقت مضى، مؤذنًا بتسارع خطوات تدحرج حكم سعيد نحو نهايته، وبتطور الأوضاع سلبيًا بشكل يجعلها غير قابلة للتدارك. يبدو ذلك واضحًا من خلال المؤشرات التالية:

تجريف الفضاء العام وقتل السياسة، وضرب الحريات والتعدّي على الحقوق وتهميش الجمعيات، وإلغاء دورها في الدفاع المدني والحقوقي معطوفًا عليه إقصاء الأحزاب، وتهميش دورها في التعبئة والمشاركة في العملية السياسية، وتدجين الإعلام الخاص بعد وضع اليد على الإعلام العمومي، وغلق أبوابهما أمام أي صوت معارض أو حتى مساند إلا من بعض الأصوات التي “انتقتها” منظومة قيس سعيّد للدفاع عن خياراتها ومهاجمة معارضيها والتنكيل الإعلامي بهم في برامج “الرأي الواحد” الفاقدة لأي مهنية، ومصداقية أصبحت محلّ استياء شعبي وذات مفعول عكسي.

اختار قيس سعيد أن يملأ وحده الفضاء العام والإعلام، يفعل ويقول ما يشاء، وحده المخاطب للشعب لا يقبل أن يسأله أو أن يعقّب عليه أحد.

المشترك بين سعيّد وكل من استحوذ على السلطة وحرص على الاستمرار فيها بطريقة شعبوية من خارج الإرادة الشعبية هو الإيهام بأنهم قادة من كوكب آخر يعرفون مصلحة شعوبهم أكثر من شعوبهم نفسها، وأنهم جاؤوا ليقوموا بأدوار تاريخية لم يسبقهم إليها أحد وليقدّموا حلولًا تتجاوز جغرافية بلدانهم لتمتدّ إلى البشرية والإنسانية جمعاء، بينما شعوبهم مسحوقة تعاني القمع وضيق العيش وانسداد الأفق.

تراكم المشاكل دون حل وتعاظم المخاطر دون حدّ وخاصة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية. يتواصل تراجع المؤشرات العامة، لم تنجح المعالجات الجزئية والموضعية في إيقافه أو التقليل من سرعته. ارتفاع للمديونية وتضاؤل للاستثمار الخارجي والداخلي، وتواصل تعثّر إنجاز المشاريع “الكبرى” مع استحقاقات قريبة لأداء الديون وخدمتها، كلّ ذلك وغيره أدّى إلى تواضع نسبة النمو، وارتفاع نسب البطالة والفقر، وتعاظم عجز الدولة عن أداء أبسط واجباتها حتى بدأت جدران المباني التعليمية وسقوفها في التصدّع والانهيار مثلما حدث مؤخرًا في معتمدية “المزونة” من ولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي، ذهب ضحيته ثلاثة طلاب يستعدون لاجتياز امتحانات ختم الدروس الثانوية في يونيو/ حزيران القادم.

كشفت هذه الحادثة الأليمة واقع هذه المعتمدية المنسيّة كغيرها من الجهات الأخرى في الداخل والساحل التونسي على السواء، كما كشفت عمق الغضب الذي يختزنه سكان هذه المناطق، حيث عبّر عنه باحتجاجات عارمة التحم فيها الجميع يطالبون الدولة بصوت واحد لا يشقّه أي خلاف بتنمية عادلة تضمن لهم حياة كريمة وتخرجهم من الظل إلى أشعة الشمس، ومن الذلّ إلى الكرامة.

الأسوأ من تهاوي المباني وتداعيها للسقوط في ظل إهمال تام من منظومة قيس سعيد، هو القمع الشديد الذي واجهت به التعزيزات “الأمنية” من مختلف الوحدات تحركات المواطنين، ما أعاد لذاكرة التونسيين مشاهد تنكيل بوليس الرئيس المخلوع زين العابدين بالمواطنين مع اندلاع شرارة ثورة الحرية والكرامة يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 حتى سقوط النظام يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011.

ارتفاع منسوب التجرؤ في نقد السلطة وتوسّعه في الفترات الأخيرة خاصة منذ الانتخابات الرئاسية في أكتوبر/ تشرين الأول 2024 وتواتر التحركات الاحتجاجية في كل الساحات تقريبًا، السياسية والمدنية والحقوقية والشعبية.

أبانت هذه التحركات والشعارات المرفوعة فيها والجهات التي تنظمها عن حصول تطورات نوعية في صفوف المعارضة تؤشّر كلها إلى أن القادم مختلف تمامًا عما مضى. انتقل موقف العديد من الأطراف من حدث 25 يوليو/ تموز 2021 من التحريض والتشجيع للقيام به إلى نقده، وأخيرًا إلى معارضته والعمل على إنهائه.

كما تطور سقف الشعارات المرفوعة من التنديد بتجاوزات السلطة إلى مطالبة قيس سعيد بالرحيل ووصمه بالدكتاتور المستبد أحياناً. واضح أن حاجزي التحفظ والخوف قد تمّ كسرهما، وواضح أن المعارضة أصبحت تسمّي الأشياء بأسمائها بدون إيحاءات، وواضح أيضًا أن المعارضات على اختلافها وجدت نفسها بحكم الأمر الواقع تقف على صعيد واحد هو مقاومة الانقلاب والعمل على إنهائه.

توالي مواقف العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية في نقد سلوك قيس سعيد وانتهاكاته الخطيرة للحريات وحقوق الإنسان، عبّرت فرنسا وألمانيا عبر تصريحات مسؤوليهما عن قلقهما من المحاكمات الأخيرة ومن الأحكام الصادرة في حق المعارضين، وطالبتا باحترام شروط المحاكمة العادلة،

كما اعتبر مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأحكام “انتكاسة للعدالة وسيادة القانون”. بعد خمس سنوات من انقلابه، يبدو المشهدان الدولي والإقليمي في غير صالح قيس سعيد؛ نتيجة طريقته المنفردة في الحكم التي جعلت من سجلّ أخطائه أكبر بكثير من سجلّ إنجازاته التي تكاد تكون صفرية.

استمرار التخبّط في إدارة شؤون الدولة والحكم، وتوسّع الهوّة بين مختلف المؤسسات والدواليب، وتعمّق مشاعر القلق والخوف في كل الدوائر من رئيسة الحكومة إلى آخر مسؤول محلي، ومن رئيس مجلس النواب إلى كل النواب، ومن رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم إلى كل الأعضاء.

الجميع واقعون بين فكَّي كماشة، بين ضغط قيس سعيد اللامتناهي ومطالبتهم بالإنجاز، وبين افتقادهم للأدوات والتشريعات والموارد التي تساعدهم على إنجاز المطلوب.

لا شيء تقريبًا يتحرك، الجميع يدور في حلقة مفرغة بمن فيهم قيس سعيد نفسه الذي لا يزيد عنهم إلا بقدرته على إيهام الرأي العام أنه يعمل واصلًا الليل بالنهار، وأنه “يحارب” من أجل تحقيق مطالب الشعب، وأنه يخوض من أجل ذلك حربًا على الفساد وحركة تحرر وطني وثورة تشريعية رائدة، ومعركة غير مسبوقة من أجل البناء والتشييد.

سدّ أبواب النقد والمساهمة في الإصلاح في الفضاء العام أمام المعارضة السياسية والقوى المدنية والنخب، وسدّ أبواب التشاركية في مؤسسات الدولة باعتماد قانون انتخابي لا يفرز غير عديمي التجربة وضعاف المؤهلات، ما جعل مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات مؤسسات ضعيفة التمثيلية، خاوية على عروشها لا أثر لها في واقع الناس ولا بصمة لها في إدارة الشأن العام.

وزاد قيس سعيد فوق كل ذلك بالمماطلة في تركيز المحكمة الدستورية رغم تجاوز الآجال كما نص عليها دستوره (2022)، وإجبار بعض النواب على سحب توقيعهم على مبادرة تشريعية، تمّ تقديمها مؤخرًا لسنّ قانون تركيز المحكمة الدستورية. ربّما لم ينتبه قيس سعيد أن إمعانه في سدّ أبواب المعارضة والمشاركة في إدارة الشأن العام سيجعل المخاطر ترتدّ عليه، وقد بدأ ذلك بالفعل حيث بدأت الأزمة تفيض تدريجيًا إلى فضاء الحكم بعد الفضاء العام.
معادلات جديدة

يؤشّر المشهد العام الجديد في تونس إلى تحولات نوعية سيكون لها ما بعدها. من جهة السلطة، فقد استحكمت فيها منذ مدّة ديناميكيات سلبية، تتعمّق بدون توقّف، لا قدرة لمنظومة الحكم على التحكّم فيها، في الجهة المقابلة، تتنامى على مهلٍ ديناميكيات إيجابية في الحزام المعارض للانقلاب جعلته أكثر حضورًا، وأبلغ رسالة وأكثر إصرارًا، مستفيدًا من خيبات الحكم وفشله.

يخفي هذا المشهد الجديد بداية تغيّر مهمّ في معادلات الحالة التونسية لغير صالح قيس سعيد ستبرز جليّة في المسائل التالية:

انهيار التعاقد بين قيس سعيد وشعبه، انهيار تعمّق خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 التي نافس سعيد فيها نفسه تقريبًا والتي قاطعها أكثر من 72% من الناخبين، ثم تسارعت خطواته بتعميق الأزمات وخاصة منها الاجتماعية؛ نتيجة تواصل الارتفاع الجنوني للأسعار وندرة المواد الأساسية، وتوسع عدد التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وتدني خدمات المرافق العمومية.

واكتملت حلقات انهيار هذا التعاقد بالاحتجاجات الشعبية وبنوعية الشعارات المرفوعة فيها، وأهمها وصم قيس سعيد بالفشل، ومطالبته بالرحيل ليتصل بذلك ضعف الشرعية الانتخابية مع فقدان شرعية الإنجاز، من جهة، وضعف التمثيلية الحقيقية للشعب باستعمال العنف وقوة البوليس في التعامل مع تحركاته ومطالبه.

تعمّق عزلة قيس سعيد في الخارج التي ظهرت جلية في تجاهله التام تقريبًا وعدم تهنئته بالفوز بعهدة ثانية، وعدم التواصل معه ما جعل استقبالاته الخارجية تقتصر على الوزراء والمبعوثين والدبلوماسيين المعتمدين في تونس.

إعلان

لم يعد قيس سعيد قريب ممن كانوا يعتبرون لوقت قريب شركاء مثل رئيسة حكومة إيطاليا والاتحاد الأوروبي. فقد أفسد سعيد علاقات تونس الخارجية وضيّق واسعًا كانت تستفيد منه تونس في علاقاتها، يقوم على ثوابت متوارثة جعلت تونس بعيدة عن الاصطفافات ولعبة المحاور الدولية ليصبح موقع تونس مع سعيد ضعيفًا بعد قوة تتحكم فيها سياسات ومصالح دول أخرى.

تبدو هذه التحوّلات في معادلات الحالة التونسية حقيقة جلية وطبيعية ضمن مسار الأحداث، ومن المرجّح اكتمال نضجها ربّما بأسرع مما يُتصوّر، ما يجعل تونس على صفيح ساخن.

خسر سعيد كل معاركه تقريبًا حتى التي يتوهّم أنه كسبها مثل الانتخابات، وفوّت بسهولة في كل مصادر قوّته وخاصة شعبيته، وفتح على نفسه جبهات تأتيه منها السهام بعد أن كانت تمثل ظهيرًا له. ربما يكمن العامل الأهم في إطالة عمر حكم قيس سعيد في استمرار تشتّت قوى المعارضة، رغم اتفاقها المبدئي على ضرورة مقاومة المسار الانقلابي.

الحلقة المفقودة في الحالة التونسية هي الحلقة المحدّدة في نهاية الكابوس ودخول تونس مرحلة جديدة. هذه الحلقة هي التقاء المعارضات في جبهة أو جبهات على حدّ ديمقراطي صلب ومتين، حتى وإن جاء في حدّه الأدنى، يقوم على التزام معلن وملزم بمبادئ الاعتراف المتبادل ونبذ الإقصاء وخطاب الكراهية وتقسيم التونسيين، وبضمان الحقوق والحريات والتداول السلمي على السلطة، واحترام نتائج الصندوق. ذاك هو الطريق إلى الحرية، وذلك هو الباب الذي سيخرج منها الانقلاب.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف القضاء التونسي قيس سعيد الفضاء العام هیئة المحکمة العدید من الدفاع عن فی إدارة قیس سعید تقریب ا سعید فی فی تونس أکثر من أن تکون من أجل

إقرأ أيضاً:

إيران تربك الحسابات.. تعليق التعاون النووي يهدد بنهاية التهدئة

بروكسل- تلوّح إيران بشرارة قرب فتيل قد يعيد إشعال القلق العالمي مجددا، فبعد أيام قليلة من توقف الهجوم الإسرائيلي الواسع الذي استهدف كبار القادة والعلماء النوويين، وألحق أضرارا بمنشآت نووية داخل البلاد، خرج الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ليعلن تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ولم يصدر هذا التصعيد في الموقف عن جنرال أو مسؤول أمني، بل جاء من رأس الدولة، وفي توقيت يفترض أنه ما بعد نهاية الحرب، لكن الرسالة التي بعثت بها طهران تشير إلى أن التهدئة لم تبدأ بعد، وأن النظام الدولي للرقابة النووية على المحك.

إعلان الرئيس بزشكيان تعليق التعاون مع الوكالة الذرية جاء بعد أيام قليلة من توقف الهجوم الإسرائيلي الواسع (رويترز) توقف التفتيش

ويرى مارك هيبس الباحث في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والمتخصص بالحوكمة النووية أن القرار الإيراني يمثل خطرا يتجاوز أبعاده السياسية، ليهدد نظام عدم الانتشار بأكمله.

وقال هيبس للجزيرة نت "من الناحية القانونية، لا يمكن لإيران تعليق التعاون مع الوكالة من طرف واحد، لأنها ما تزال طرفا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وإذا مضت في هذا الاتجاه، فإن قدرة الوكالة على التفتيش والتحقق ستتوقف بالكامل".

وأضاف أن انسحاب إيران المحتمل من المعاهدة -على غرار ما فعلته كوريا الشمالية– سيخرج البرنامج النووي الإيراني من الإطار القانوني الدولي، مما قد يدفع خصومها لاتخاذ خطوات عسكرية خشية تطوير سلاح نووي بعيدا عن أعين المفتشين.

وحذّر تقرير لـ"نشرة العلماء الذريين" (Bulletin of the Atomic Scientists) من أن الانسحاب الإيراني من معاهدة عدم الانتشار النووي سيكون نقطة تحول خطيرة، تقوّض نظام الرقابة العالمية، وتفتح الباب أمام دول أخرى للانسحاب، مما يخلف أزمة ثقة غير مسبوقة في النظام القانوني الدولي.

مفاعل فوردو الإيراني تعرض لهجوم أميركي لم تعرف نتائجه بعد (الفرنسية) أزمة ثقة

جاء تعليق التعاون في سياق أزمة ثقة متراكمة بين الوكالة وبين طهران التي تتهم المؤسسة الأممية بالانحياز للغرب، ويصف الصحفي الفرنسي دومينيك فيدال القرار بأنه "رد سياسي على الحرب الإسرائيلية الأخيرة".

إعلان

وأضاف فيدال في حديث للجزيرة نت أن "القرار لا يعبر فقط عن غضب إيران، بل عن تحميل أوروبا والوكالة الذرية مسؤولية ما تعتبره طهران تواطؤا مع العدوان".

وكان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قد صرح بأن إصرار المدير العام للوكالة رافائيل غروسي على تفتيش مواقع نووية محددة بعد وقف إطلاق النار "لا معنى له" في إشارة إلى شكوك طهران بنوايا استخبارية لا تتماشى مع الحياد المهني للوكالة.

ومن جانبه، يرى رئيس معهد الدراسات المستقبلية والأمن في أوروبا إيمانويل دوبوي أن الأزمة الراهنة تتجاوز إيران والوكالة، وتمثل فشلا أوسع للدبلوماسية الأوروبية.

ويقول دوبوي للجزيرة نت "نحن الآن في وضع ما بعد الحرب، أو بالأحرى كنا في حالة حرب، وبالتالي لم تنجح الدبلوماسية بعد القرار الذي اتخذته إسرائيل والولايات المتحدة باتباع نهج أكثر صرامة وقدرة عسكرية".

سيناريو العراق

الجدل حول حيادية الوكالة فتح الباب لمخاوف متكررة، أبرزها تحول المعلومات النووية إلى أوراق سياسية، حيث كتبت الباحثة دوريا دولزيكوفا من المعهد الملكي البريطاني للدراسات الدفاعية "آر يو إس آي" (RUSI) أن الوكالة لا تملك صلاحيات تنفيذية، وأن استخدامها أداة ضغط -كما حدث في العراق سابقا- يقوّض مصداقيتها.

وأضافت دولزيكوفا أن "آخر تقرير للوكالة لم يتضمن أي دليل على وجود برنامج نووي سري لدى إيران. ومع ذلك، فإن تقويض عملها قد يسمح بتحويل المعلومات الاستخبارية إلى ذريعة سياسية أو عسكرية."

وأوضحت أن الضربات العسكرية الأخيرة أخرجت الوكالة من ساحة الرقابة الفعلية، ومنحت طهران فرصة لإعادة هيكلة برنامجها النووي بعيدا عن الأنظار، وهو ما قد يصعّد التوترات بشكل غير قابل للاحتواء.

ورغم التصعيد، عاد وزير الخارجية الإيراني ليؤكد التزام بلاده بمعاهدة عدم الانتشار واتفاق الضمانات، موضحا أن التعامل مع الوكالة الدولية سيجري من الآن فصاعدا عبر المجلس الأعلى للأمن القومي، حفاظا على "السلامة والأمن القومي" وفق تعبيره في منشور على منصة "إكس".

تراجع الدور الأوروبي

في ظل هذا التصعيد، بدا الاتحاد الأوروبي عاجزا عن التأثير، وظهر الانقسام بين أعضائه واضحا. ويقول هيبس إن قدرة بروكسل على الضغط محدودة، مضيفا أن الاتحاد يمكنه الدعوة إلى التعاون، لكنه فقد الكثير من تأثيره السياسي، بعدما تبنى أعضاؤه العقوبات الأميركية دون استقلالية كافية.

ويرى مراقبون أن هذا التراجع عزز لدى طهران شعورا بأن أوروبا لم تعد وسيطا نزيها، بل هي طرف منحاز. ومثل هذه القناعة يتبناها عدد من المحللين الأوروبيين الذين دعوا إلى مراجعة جذرية لسياسات الاتحاد تجاه الملف الإيراني، وتفادي فقدان قنوات التفاوض الأخيرة.

وفي واشنطن، تتبنى إدارة الرئيس دونالد ترامب موقفا متشددا تجاه طهران، خاصة بعد الهجوم المشترك الأميركي الإسرائيلي الأخير.

ويقول جيمس روبنز نائب وزير الدفاع الأميركي الأسبق -في تصريح للجزيرة نت- إن البيت الأبيض "يرحب بأي موقف أوروبي يتماهى مع رؤيتنا حول خطر البرنامج النووي الإيراني، لكنه يصر على احتفاظه بحق اتخاذ إجراء عسكري إذا لزم الأمر."

إعلان

وحذر روبنز من أن الفشل في استئناف المفاوضات قريبا قد يفتح الباب أمام ضربات عسكرية متجددة، قائلا "إذا لم تتصرف إيران بعقلانية، فمن المرجح أن نعود إلى خيار القوة".

ويرى مراقبون أن تعليق التعاون مع الوكالة لا يمثل خلافا تقنيا بقدر ما هو مؤشر لانهيار الضمانات الدولية. ومع تصاعد الشكوك وانهيار الثقة وتراجع فاعلية الدبلوماسية الأوروبية، تبدو المنطقة على شفير انفجار جديد.

مقالات مشابهة

  • استقبل رئيس هيئة مكافحة الفساد.. نائب أمير مكة: القيادة تعزز قيم النزاهة لحماية المال العام
  • سعر الذهب بنهاية التعاملات المسائية اليوم الأحد 6 يوليو 2025
  • 0.81 % متوسط التضخم في عُمان بنهاية مايو
  • نائب أمير عسير يستقبل مدير فرع هيئة الهلال الأحمر بالمنطقة
  • 17.9 مليار متر مكعب إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي بنهاية أبريل
  • 90.48 % للعلمي و 68.29% للأدبي.. تنسيق الجامعات 2025| مؤشرات أولية
  • أغلى مكان للموت في العالم.. الضريبة التي دفعت الأثرياء للهروب السريع!
  • ياسين سعيد نعمان: الحوثي كـ "الضبع" بقوته الغاشمة التي تعكس البطش المحمول على سيقان مرتعشة
  • استدعاء مالك الشركة المصنعة للسيارة التي توفي فيها جوتا
  • إيران تربك الحسابات.. تعليق التعاون النووي يهدد بنهاية التهدئة