زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT
زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
بقلم : م. فؤاد عثمان عبدالرحمن
في زمن تغمره الضبابية السياسية والحروب المفتوحة، تُصبح استعادة الحقيقة عملاً مقاوِمًا. ولعل واحدة من أعظم من نبهتنا إلى خطورة تحطيم الحقيقة الواقعية باسم السياسة هي الفيلسوفة حنّه أرندت، التي حذّرت من أن “من يقول الحقيقة يُنظر إليه كمن يقوض النظام”.
من الانقلاب إلى اختطاف الدولة:
بدأ المشروع السياسي للإسلاميين بانقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989، قطع المسار الديمقراطي ورفع شعار “تطبيق الشريعة”، لكنه في جوهره كان مشروعًا لاحتكار السلطة وبناء دولة أمنية أيديولوجية. ولتثبيت أركان حكمهم، أنشأوا أجهزة موازية داخل الدولة: جهاز أمن ضخم متغوّل، واقتصاد ظل، ومليشيات تقاتل بالوكالة عن الدولة في الأطراف، أبرزها “قوات الدفاع الشعبي”، ثم لاحقًا “قوات الدعم السريع”.
ورغم خطابهم الظاهري عن تقوية الجيش، عمدوا إلى إضعافه فعليًا عبر تفتيته، وتغليب الولاءات الحزبية على المهنية، وتحويل مؤسساته إلى أدوات للنظام، لا للدولة. وهكذا، الي أن جاءت ثورة ديسمبر المجيدة لتعديل تلك الاختلالات، والتي قطع النظام البائد، بجانب طموح قادة المؤسسة العسكرية السلطوي وولغهم في السياسة، الطريق لإكمال مسارها.
السقوط والثورة: الحقيقة التي لا يريدون رؤيتها:
سقط نظام الإسلاميين بثورة سلمية فريدة، أنهت ثلاثين عامًا من الاستبداد، وفتحت الباب أمام أفق جديد للتحول الديمقراطي. لكن الحقيقة التي لم يقبلوها — بل حاولوا تدميرها — هي أن جماهير الشعب لفظتهم في الشوارع. لم يسقطوا فقط كسلطة، بل كمشروع فكري سياسي.
بدأت حربهم المضادة من اللحظة الأولى للمرحلة الانتقالية، عبر تغلغلهم العميق في مؤسسات الدولة، وإثارة الفوضى، وخلق الأزمات، ومواصلة اختراق الأجهزة الأمنية، إلى أن وصلوا إلى لحظة الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، الذي شكل العودة الثانية لهم إلى واجهة المشهد، هذه المرة عبر “قوى الثورة المضادة” وليس عبر الدبابات وحدها.
من الانقلاب إلى الحرب: صناعة سردية زائفة:
لم تكتمل عودة الإسلاميين رغم الانقلاب، فالدولة بقيت ضعيفة، والمجتمع يرفضهم. حينها، كان الحل بالنسبة لهم هو الفوضى الشاملة: إشعال الحرب.
في 15 أبريل 2023، اندلعت المواجهات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وسرعان ما بدأ الإسلاميون في نسج سردية كبرى: أن هذه “حرب كرامة”، معركة وطنية لاستعادة السيادة. لكن الحقيقة، كما في تحليل أرندت، شيء مختلف تمامًا.
المفارقة الكبرى: حين يصير صانع الوحش منقذًا منه:
في ترويجهم لسردية الحرب، يستغل الإسلاميون فظائع الدعم السريع — تلك التي وقعت في ولايات السودان التي طالتها يد الحرب — من قتل واغتصاب ونهب وتشريد، ليقدّموا أنفسهم فجأة كـ”حماة الأرض والعرض”، و”رجال الاستقرار” و”مرجعي الناس إلى منازلهم”. لكنهم يتجاهلون أن هذه القوات التي يشيطنونها اليوم، هم أنفسهم من أنشأها، وقنّنوها عبر برلمانهم في 2017، بل وخاضوا بها حروبهم ضد الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ، حيث ارتُكبت نفس الفظائع بحق المدنيين لعقدين كاملين.
تلك هي المفارقة الكبرى: أن يتحوّل صانع الوحش إلى منقذٍ منه. وهذه ليست فقط مفارقة سياسية، بل مثال حي على ما وصفته حنّه أرندت بـ”محو الحقيقة الواقعية” وإعادة إنتاج سردية زائفة تتنكر للماضي وتُفبرك الحاضر.
تحطيم الحقيقة: مشروع الإسلاميين الجديد:
تقول حنّه أرندت في أحد أكثر مقاطعها نفاذًا وتحذيرًا من الطغيان الحديث:
” الكذب السياسي ليس جديدا، ولكن مايميز الأنظمة الشمولية، أنها لاتكتفي بالكذب، بل تسعى لمحو الفرق بين الحقيقة والخيال، بين الصواب والخطأ، فتعاد صياغة الواقع ليصبح الوهم هو الحقيقة المعترف بها رسميا”
بهذا المنظور، لا يكون الكذب مجرد أداة لحجب المعلومات، بل يصبح مشروعًا كاملاً لتدمير الحقيقة ذاتها، وتحطيم قدرة الناس على التمييز. وهذا ما نراه ماثلاً اليوم في مشروع الإسلاميين في السودان، ليس منذ اندلاع الحرب، بل منذ أن قرروا أن “التمكين” لا يعني فقط السيطرة على المؤسسات، بل على العقول والذاكرة الجمعية واللغة السياسية نفسها.
لقد دأب الإسلاميون، منذ وصولهم للسلطة، على إعادة تعريف الواقع بما يخدم سرديتهم. فالفساد يصبح “رزقًا حلالًا”، والقمع يصبح “حزمًا شرعيًا”، والحرب في الأطراف توصف بأنها “جهاد”، بينما كانت في الحقيقة سحقًا للمجتمعات المهمشة وتدميرًا ممنهجًا لها. وكلما ظهرت حقيقة — سواء في دارفور أو جبال النوبة أو الخرطوم أو في ملفات الاقتصاد — كانت تُدفن بسردية مضادة، يصاغ لها قاموس جديد وأجهزة إعلام، ومؤسسات دينية، ومصطلحات تعبوية تعيد إنتاج الزيف كواقع.
وما نعيشه اليوم من سردية “حرب الكرامة” هو امتداد طبيعي لهذا المشروع: محاولة لإقناع الناس أن ما يحدث ليس انهيارًا لدولة صنعوها هم، بل لحظة وطنية كبرى يعاد فيها تعريف الوطنية ذاتها على مقاس من أشعلوا النيران في البلاد.
وما تراه أرندت خطيرًا ليس فقط أن الناس يُكذّب عليهم، بل أنهم يفقدون تدريجيًا القدرة على معرفة ما هو صحيح، وما هو زائف، لأن “الحقائق لم تعد موضوعًا للتفكير، بل ساحة حرب سياسية”. وهذا هو جوهر ما تقوم به آلة الإسلاميين الإعلامية والسياسية حاليًا: أن تجعل من الثورة “خيانة”، ومن القمع “أمنًا”، ومن الحرب “استقرارًا”، ومن التهجير “فرصة للعودة”.
إن السرديات الزائفة لا تهزم الحقيقة بالمنطق، بل بإغراقها في ضجيج كثيف من التضليل، حتى تتعب العقول، ويستسلم الناس إلى “الواقع المفبرك” لأنه صار الأكثر تداولًا، لا الأكثر صدقًا.
وهذا مايسعون إليه، أن تمحي ذاكرة الثورة، أن يتحول الشعب من ضحية إلى متهم، وأن تحول الحرب من كارثة إنسانية الي ملحمة بطولية.
أن تتحول الحقيقة الواقعية _أنهم اسقطو بثورة شعبية _ إلى كذبة، وأن تصبح الكذبة _ انهم يقاتلون لأجل الوطن _ حقيقة.
لكن رغم ذلك، تبقى الحقيقة _ كما تقول ارندت _ “عنيدة بطبعها”، وانها ليست ملكا لهم، بل ملك الذين سارو في الشوارع وقاوموا القمع ولايزالون يحلمون بأن السودان يستحق السلام والديمقراطية، وأن الحرب ليست (ملحمة كرامة)، بل جريمة أخلاقية وسياسية واقتصادية، تورط فيها من تأمر على ثورتهم، ثم يسعى ليحكمهم مجددا بجثة وطن.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإسلاميون الحرب في السودان صراع الحقيقة
إقرأ أيضاً:
هل دفع التحرك الدولي للسلام بالسودان لتشكيل قيادة لتحالف تأسيس؟
الخرطوم – بعد أكثر من 4 أشهر منذ إنشائه، اختار تحالف السودان التأسيسي "تأسيس" هيئته القيادية برئاسة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في خطوة عدّها مراقبون مسعى لإيجاد موقع لقيادة التحالف في المشهد العسكري والسياسي بعد الحرب، لتزامنها مع تحركات دولية متسارعة لطي ملف الأزمة في البلاد.
وتأسس التحالف رسميا في العاصمة الكينية نيروبي يوم 22 فبراير/شباط الماضي، ويضم في صفوفه قوات الدعم السريع، و"الحركة الشعبية- شمال" بقيادة عبد العزيز الحلو، و"الجبهة الثورية"، إضافة إلى تيارات منشقة من حزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، وشخصيات سياسية وقبلية.
ويستهدف توحيد المواقف السياسية والمدنية المناهضة للجيش السوداني، وتشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع والفصائل المتحالفة معه.
التحالفوخلال مؤتمر صحفي أمس الثلاثاء في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، أعلن التحالف إقرار نظامه الأساسي وتشكيل هيئة قيادية من 31 عضوا برئاسة حميدتي، وعبد العزيز الحلو نائبا له، ومكين حامد تيراب مقرّرا، وعلاء الدين نقد متحدثا رسميا باسم التكتل.
وقال المتحدث علا الدين نقد إن هدف التحالف هو "القضاء الكلي على المؤسسات الفاسدة، وبناء سودان جديد قائم على قيم الحرية والعدالة والمساواة".
ووفق المصدر نفسه، فإن ميثاق السودان التأسيسي والدستور الانتقالي لعام 2025، اللذين تمت إجازتهما والتوقيع عليهما في فبراير/شباط ومارس/آذار الماضيين، يُجسّدان "رؤية متكاملة لبناء سودان علماني ديمقراطي فدرالي، موحد طوعا على أسس العدالة والمساواة".
وأقر ميثاق التحالف "مركزا قياديا عسكريا موّحدا" يتضمن مجلسا للأمن والدفاع وهيئات عسكرية، على أن تضم في عضويتها قادة الفصائل المسلحة الموقعة على الميثاق، لتكون جزءا من المؤسسات العسكرية.
إعلانكما حدد الدستور الجديد فترة انتقالية من مرحلتين:
الأولى: تُعرف بـ"ما قبل الانتقال التأسيسي"، وتمتد من لحظة سريان الدستور حتى إعلان نهاية الحرب. الثانية: هي "الفترة التأسيسية"، وتبدأ رسميا بعد إعلان وقف الحرب وتمتد 10 سنوات، وهدفها إعادة بناء الدولة. ترتيباتوكشفت مصادر في التحالف للجزيرة نت أن الهيئة القيادية، بعد إعلانها أمس، انخرطت في اجتماعات لاستكمال تشكيل الهيئة التي تتكون من 24 عضوا وقعوا على ميثاقه التأسيسي، بإضافة 7 أعضاء جدد يتم اختيارهم بالتشاور، وسيلي ذلك تكثيف المشاورات تمهيدا لإعلان تشكيل "حكومة السلام".
وعزت المصادر -التي طلبت عدم كشف هوياتها- تأخر تشكيل الحكومة الموازية إلى ترتيبات إدارية وأمنية ولوجستية، وأوضحت أنه لا توجد خلافات بين فصائل التحالف بشأن توزيع الحقائب الوزارية والمناصب القيادية في السلطة، ورفضت تحديد مقر الحكومة، مؤكدة أنه تم الاتفاق عليه.
في المقابل، قللت مصادر في مجلس السيادة من أهمية تشكيل هيئة قيادة لتحالف "تأسيس" أو حكومة موازية، وقالت للجزيرة نت إن قيادة الدعم السريع تحاول "غسل جرائمها والهروب من فشلها العسكري" وتقديم نفسها بوجه جديد، ولم يعد بمقدورها تغيير الميزان العسكري لصالحها أو التأثير على المشهد السياسي.
وفي تعليقه على تشكيل هذه القيادة، قال رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل المهدي إن الخطوة تكتيك سياسي من قوات الدعم السريع بعدما خسرت عسكريا ولايات وسط السودان والخرطوم، وتستهدف زيادة الضغط على الجيش للتوصل إلى تسوية لوقف الحرب، واستبعد أن تتجه هذه القوات إلى فصل دارفور.
تعقيد الأوضاعويشير المهدي -في مقابلة مع الجزيرة مباشر- إلى أن التحالف "موجّه سياسيا ضد الجيش وتم تشكيله لخوض مرحلة التفاوض وسينتهي دوره بعدها، وسيكون عمره قصيرا".
وبرأيه، فإن الحرب فقدت أهدافها، وهناك توجه واضح من القيادة العسكرية السودانية نحو الانخراط في مفاوضات تبدأ من أرضية اتفاقات "جدة" و"المنامة"، والتي -بحسب تقديره- لا تمنح الجيش أو قوات الدعم السريع أي دور سياسي مستقبلي، مما يعكس تغيرا في معادلة إدارة المرحلة الانتقالية.
أما الكاتب والمحلل السياسي عثمان ميرغني فيرى أن تشكيل قيادة لتحالف "تأسيس" سيزيد الأوضاع تعقيدا في السودان، وفي حال تأخر إنهاء الحرب فسيتجه التحالف لتشكيل حكومة موازية تؤدي إلى انفصال سياسي وربما يصل الأمر لنشوء دولة جديدة.
وفي حديث للجزيرة نت، يقول الكاتب إن المتغيرات الخارجية المؤثرة على البلاد تتحرك بسرعة كبيرة بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الأخيرة بأن "السودان وجهة تالية لقطار السلام الدولي، إلى جانب ترتيبات للشرق الأوسط الجديد".
ووفقا لميرغني، فإن السودان مطالب بخارطة طريق واضحة لمفاوضات متعددة المسارات داخلية وخارجية لتعجيل إيقاف الحرب والقفز إلى مربع جديد، "لأن الرياح الدولية والإقليمية تنفخ في أشرعته لا ليتعافى فحسب، بل ليرتقي بمقعده بين الأمم ويتحول لدولة مانحة لا مستجدية للسلام".