يتلقى الرجل خبر إصابته بمرض السرطان من طبيبته التي تصرّ على ضرورة بدء العلاج فورًا. يبدأ التعبير عن صدمته بتأمل وجودي يرى فـيه المرض حكمًا قدريًّا بالعدالة الإلهية، وانتقامًا مستحقًا من جسده الذي أهمله طويلًا بالسهر والتدخين، رغم تحذيرات أمه وزوجته. فـي مواجهة الألم، يبدو الرجل ساخطًا على نفسه والعالم، ويعلن رفضه لـ«المسكنات» بكل أنواعها.

للوهلة الأولى حين يقرأ المرء هذا السرد فـي مستهل كتاب زميلنا الإعلامي الرياضي سامح الدهشان «رحلتي مع الألم والوعي، أنا والسرطان» الصادر مؤخرا عن مكتبة بيروت، سيظن أنه يحكي عن بداية تلقيه لخبر إصابته بهذا المرض العضال عام 2022، لولا أنه يفاجئنا باعترافه فـي الفصل التالي مباشرة أن ما قرأناه فـي فصلٍ بعنوان «مسكّنات» ليس سوى قصة قصيرة كان قد كتبها عام 2016 ونشرها فـي صفحته على فـيسبوك. يعلق الدهشان على القصة بالقول: «يبدو أننا نستدعي أقدارنا بما يسمى طاقة الجذب. بعد نشر هذه القصة بست سنوات علمت بإصابتي بسرطان القولون، نقاط التشابه كانت كبيرة ومرعبة بين الحقيقة وما كتبتُه، كنت مصابا بسرطان القولون من الدرجة الرابعة، وكنت بالفعل مدخنا آنذاك، وأحد أبرز الأسباب هو التدخين»، ولا تنتهي نقاط التشابه هنا، إذ أن بداية علاج الدهشان فـي مركز السلطان قابوس المتكامل لعلاج وبحوث مرض السرطان كانت على يد طبيبة! فهل يستدعي الأدب أقدارنا فعلا، أم أن الأديب يتمتع دون سواه من البشر بحساسية تنبؤية عالية، تجعله يستشرف المستقبل فـيما هو يتحدث عن الحاضر؟!

وإذن؛ فهو «قانون الجذب»، الذي لا يغيب عن أجندة أي مدرب للتنمية الذاتية، إلى درجة يمكن معها اعتباره «حمار المدربين» مثلما كان بحر الرجز حمار الشعراء الكلاسيكيين ولا يزال. يخبرنا هذا القانون أن الكون يستجيب لذبذباتنا العقلية، فإذا ركّزنا على النجاح، فإننا نجذبه ونصير ناجحين؛ أو كما قال باولو كويلو فـي «الخيميائي»: «عندما تريد شيئًا بصدق، فإن العالم كله يتآمر لمساعدتك». وإذا سيطر الخوف على تركيزنا فإن ما نخاف منه سيداهمنا عاجلا أم آجلا، مصداقا للمثل العربي «اللي يخاف من شي يطلع له»، أو كما قال الشاعر: «وكم من رهبة صارت جحيمًا / إذا ما خفتها قبل اللقاء». ومع ذلك، فإنه ينبغي علينا التذكير أن قانون الجذب ما هو إلا قانون مجازي أكثر من كونه قانونًا علميًّا مثبتًا.

إن حكاية الدهشان، وقبلها عشرات الحكايات عن أدباء وكتاب استشرفوا أحداثًا مستقبلية بينما هم يعبّرون عن الحاضر، تطرح تساؤلا مهمًّا: هل يمكن أن تكون الكتابة الأدبية نوعًا من «التركيز العقلي المكثف» يحرّك الواقع نحو الكاتب، أو تجاه الحدث الذي يكتب عنه، ولو بعد حين؟ ما الذي يجعل الروائي المصري وجيه غالي يفكر وهو يقود سيارته فـي مدينة أوروبية فـي أحد صباحات مارس 1967، أن نهايته ستكون بحبوب منومة لا سواها، ليكتب فـي يومياته ببرود هذه الفقرة: «الانتحار. كان هذا هو الشّيء الوحيد، وقد جعلني أشعر بالارتياح خضتُ فـي تفاصيل تتعلّق بكيف وأين ومتى؟ ليس هنا، بالطّبع، سيكون فـي ذلك انعدام امتنان شديد، ليس حادث سيّارة.. لكن حبوب أو شيء من هذا القبيل، وقريبًا..قريبًا»، لتتحقق هذه الــ«قريبا» بعد حوالي سنتين بانتحاره بحبوب منومة فـي نهاية ديسمبر من عام 1968.

مثال آخر هو القاص المصري محمد حسن خليفة الذي اختار مساء الأربعاء 22 يناير 2020 مقطعا من قصته «روحي مقبرة» المنشورة فـي مجموعته «إعلان عن قلب وحيد» ليضعه فـي صفحته على «فـيسبوك». يقول هذا المقطع: «علقت خبر موتي أمامي على الحائط، كل صباح وكل مساء كنت ألقي نظرة عليه، لأطمئن أن ورقة الجورنال التي كُتِبَ فـيها الخبر، بخط كبير، وصفحة أولى بعيدا عن الوفـيات، ما زالت سليمة، وتقاوم معي الأيام القادمة». وفـي الصباح التالي توجّه الكاتب الشاب الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره إلى معرض القاهرة للكتاب، لمتابعة عرض مجموعته القصصية آنفة الذكر. وخلال جولته فـي المعرض أصيب بإغماء نقل على إثره للمستشفى ليفارق الحياة هناك، ويُكتَب خبر وفاته فـي الجرائد بالفعل، ولكن ليس فـي الصفحة الأولى.

هذا يعني أن ثمة تماهيًا كبيرا يحدث بين الكاتب ونصّه، إذ يسرّب الكاتب قلقه الوجودي وخوفه من المصير، دون أن يشعر ربما. الأمر أشبه بأن يدخل هذا الكاتب -وبالكتابة وحدها - دهليزا سريًّا، أو مغارة تخبئ أسرار المستقبل، فـيطلّع على شيء من هذه الأسرار وهو فـي حالة غياب عن الوعي، ويوثقه فـي كتابته، وحين يعود إليه وعيه يبدو المكتوب شيئًا عاديًّا لحظتئذ، لأنه نسي أنه دخل المغارة. ولا ينتبه الكاتب، ومن بعده القارئ، إلى هذا السر، إلا بعد أن يتحقق حرفـيًّا على أرض الواقع بعد فترة قصيرة أو طويلة.

ولأن قصة «مسكّنات» لسامح الدهشان هي التي استدعت كل هذه التأملات، فإن التساؤل الذي يفرض نفسه فـي خاتمة هذا المقال: هل حين كتب الدهشان هذا النص قبل سنوات من إصابته بالمرض الخطير كان يكتب قصة قصيرة بالفعل؟ أم أنه دخل، دون أن يدري، مغارة الأسرار؟!

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

كاتب إسرائيلي: كيف يستدعي الوزراء جنود الاحتياط وهم لم يخدموا عسكريا؟

قال الكاتب الإسرائيلي في موقع "واللا" العبري، نير كيبنيس: "إننا أمام حكومةٌ لم يخدم أعضاؤها في الاحتياط أصلا، بينما تُرسل عشرات الآلاف من أوامر الاحتياط، بزعم تكثيف الحرب على غزة"، وذلك في إشارة لكون  قرارات حكومة الاحتلال الإسرائيلي، باستدعاء جنود الاحتياط في الجيش، ما زالت تترك تبعاتها السلبية على الإسرائيليين بشكل عام.

وأكد كيبنيس عبر مقال ترجمته "عربي21" أنّ: "حكومة اليمين التي لم يخدم معظم وزراؤها في الجيش إطلاقًا، ولو خدمةً قصيرةً، أو خدموا في مواقع بعيدة كل البعد عن القتال، فإن تجربة الاحتياط تبدو غريبةٌ على جميع وزرائها تقريبًا".

"صحيح أن الالتزام بقرار الاستدعاء للاحتياط مسألة قانونية، لكنه أمرٌ سخيفٌ عند النظر للمسألة من منظور أخلاقي، لأنه بأي منطق يرسل هؤلاء الوزراء المراوغون الجنود لساحة المعركة مجددا" تابع كيبنيس خلال المقال ذاته، الذي نشر  في موقع "واللا".

 وأضاف بأنّ: "الاستجابة لأوامر الاحتياط بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كانت طبيعية، ووصلت نسبتها 130%، لكن اليوم بعد عام ونصف حوّل فيها الجيش غزة بحراً من الأنقاض، وجرّب كل شيء، وقُتِل مئات الجنود، وأصبح من الواضح أن الحكومة أوقفت المفاوضات لإطلاق سراح الأسرى".

وأردف: "وانسحبت الحكومة من العرض الذي قدمه نتنياهو نفسه، بعد أن ابتزّته الأحزاب اليمينية المتطرفة في حكومته، واتضح أن الحرب لا غاية عملية لها سوى وجوده، فإنها توحّد الحكومة، وتمنعها من الانهيار".

وأشار إلى أنّ: "أوامر الاستدعاء للاحتياط تصدر بينما تواصل الحكومة اختلاق الذرائع للحريديم للتهرب من الخدمة العسكرية، وصولا لاستكمال قانون التهرب الذي وُعدوا به، خاصة مع اقتراب عام انتخابي ساخن، الأمر الذي يستدعي من عموم الإسرائيليين الحذر من الاستجابة لأوامر الذهاب للقواعد العسكرية من جنود وضباط الاحتياط".

وأبرز: "لأن هذه الأوامر إنما تصدر فقط للحفاظ على الائتلاف اليميني الحاكم الذي يمنع هو نفسه إجراء الانتخابات المبكرة، لأن استطلاعات الرأي تواصل إخافته بأنه محكوم عليه بالهزيمة فيها".

إلى ذلك، أوضح الكاتب الإسرائيلي أنّ: "الحكومة تُصدِر اليوم قرارا بإصدار أوامر الاستدعاء للاحتياط لعشرات الآلاف من الجنود والضباط، وإن كان هذا صحيحًا ومبررًا تمامًا في بداية الحرب، وحتى مع استمرارها، عندما كانت لا تزال مرتبطةً بأمن الدولة، وليس فقط بأمن الائتلاف".


واستدرك: "صحيح أن رفض أمر الاحتياط يُعدّ انتهاكًا للقانون، ولكن عندما يُطلب من هؤلاء الجنود والضباط تنفيذه للمرة الخامسة أو السادسة، في دولة لا يتحمّل معظم مواطنيها هذا العبء، وجزء كبير منهم لم يتحمّله قط، فلا يحق للحكومة أن تطالبهم بأي شيء".

وختم  كيبنيس بالقول: "لو كنت مكان هؤلاء الجنود والضباط في صفوف الاحتياط، فقد كنت سأخرج للدفاع عن الدولة مرة، مرتين، ثلاث مرات، لكن في المرة الخامسة، فهناك احتمال كبير أن أُجبر على الدفاع عن عائلتي وسبل عيشي، وإيجاد طريقة قانونية للتخلص من هذا العبء العسكري".

واستطرد: "لأننا في دولة فقدت كل معالمها، وجيشٌ يُستدعى جنوده الاحتياطيون للخدمة، بينما مؤسسات تعليم أبنائهم مُغلقة، ووزراءٌ فاشلون لا يؤدون وظائفهم، وميزانياتٌ لا تُخصّص لرجال الإطفاء، ولا للمعلمين، بل لمن يُشجّعون التغيّب عن المدرسة، والنتيجة أن الحكومة ستدرك قريبًا أن سياستها المريعة، في جميع القطاعات، بدأت تنهار تحت سيطرتها".

مقالات مشابهة

  • فتاة تبكي من شدة سعادتها بتوقيع الكاتب أسامة المسلم.. فيديو
  • «مهرجان مسرح الجنوب» يكرم الكاتب الصحفي محمد السيسي
  • العراق يستدعي جنود القوات الخاصة من باكستان.. فما السبب؟
  • كاتب إسرائيلي: كيف يستدعي الوزراء جنود الاحتياط وهم لم يخدموا عسكريا؟
  • الادخار يدشن تمويل أكثر من 2500 مزارع تراكتورات وطاقة شمسية بالروصيرص
  • الكاتب عمر الحمود: الأجيال السابقة أوفر حظا منا في النقد والوصول للقارئ.. نحن جيل بلا نقّاد
  • منتخب الكونغو يستدعي فيستون ماييلي في توقيت مباراة الزمالك وبيراميدز
  • الفنان خالد الصاوي السر.. الكاتب عبدالرحمن هيبة يكشف حقيقة اسمه
  • مكتبة مصر العامة بأسيوط تنظم سلسلة من الفعاليات احتفالا بذكرى نجيب محفوظ