ستبقى زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة إلى المنطقة عنوان فخر وإنجاز تحقق لدونالد ترامب على المستوى الشخصي، ومكسبا غير مسبوق لأمريكا، استثمارات هي الأضخم في التاريخ بحسب وصفه للعقود المبرمة مع الدول التي زارها، والتي تضمن مئات آلاف الوظائف للأمريكيين واستمرارا للانتعاش الاقتصادي الذي يطمح ترامب بتحقيق "عظمة" لأمريكا به وجعلها في المرتبة الأولى.
تحدث دونالد ترامب في رحلته العربية بكثير من مفردات الثناء على زعماء المنطقة، وبقليل الكلام عن أهم القضايا التي تمر بها المنطقة العربية، وبشكل أدق لم يُسمع بشكل صريح ومباشر شيء عن ضرورة ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل لوقف العدوان، بل أعاد السردية الصهيونية عن السابع من أكتوبر وتعاطفه مع إسرائيل أمام مضيفيه.. طقوس وحرارة استقباله حدث مستعاد في العلاقة الأمريكية الخليجية، حتى لو غيّر الأول طريقة تعاطيه مع ملفات عربية فالمصالح باقية ولم تتأثر، ولن تخضع لتحولات استراتيجية تنزع نحو بحثٍ عن تعدد الأقطاب والمصالح من الطرف الثاني على مبدأ التكافؤ والمساواة.
في الأيام القصيرة التي أعقبت زيارة ترامب، زادت أوضاع غزة مأساوية بخلاف أجواء التفاؤل التي سبقت مجيئه للمنطقة، وكشفت عن هشاشة العلاقة لناحية التأثير العربي المنعدم بالمصالح مع الإدارة الأمريكية مقابل التريليونات التي تحصل عليها، فالتسلح بفهلوة وابتسامات عربية يُبقي حالة التراجع والهزيمة تتسيد الموقف الرسمي العربي، وكما أثبتت تجربة ولاية ترامب الأولى بتحقيق التطبيع والاعتراف بسيادة إسرائيل على القدس ونقل السفارة إليها وبضم الجولان، تثبت فاتحة رئاسته الثانية إمكانية تحويل المسار العربي السياسي بالافتراق الفعلي عن قضية فلسطين، وبقابلية تخلي النظام العربي عن نجدة غزة، بهذا الشكل الفاضح بعد واقعة حصاد التريليونات العربية.
مكامن القوة الاقتصادية والمالية العربية لا قيمة فعلية لها، والنتائج السابقة للاستثمار العربي لم تكن قائمة على ندية المصالح، ولن تتغير بغير الاتجاه الذي وضعت به، بأن تكون بعيدة كل البعد عن أن تكون عامل قوة ذاتي، وبقيت تشكل عامل اهتراء للأسس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. عند الحديث عن الحاجة العربية لعقود واستثمارات ضخمة بمجالات معينة لا تفيد وتخدم مستقبل هذه المجتمعات، وإن كانت هذه الاستراتيجية معروفة مسبقا، إلا أنها بقيت ضمن رهان التطلع العربي بممارسة نوع من ضغط المصالح التي تحفظ بعض ما تبقى من سياسة عربية، وتعيد ما فقدته من أوزان وتأثير في العقدين الماضيين.
لم يتبق في جعبة السياسة العربية ما يشير لحنكة ودهاء وأخلاق ومصالح وكرامة، بغير تلك المرتبطة باستراتيجية أمريكية صهيونية، لا شيء في الخطاب العربي أمام هول المذابح والجرائم الإسرائيلية بحق أبناء فلسطين، سوى مزيد من دعوات سخيفة تُطالب الجلاد بالكف عن سفك الدماء. فخلال عشرين شهرا من جرائم الإبادة الجماعية التأم العرب في اجتماعات وقمم عدة، أفضت لتحويل غزة لمقابر جماعية وقتل بمختلف الوسائل حتى الموت جوعا، فكم من شجاعة بَحث عنها العربي في قهره السائل؛ شربة ماء وما يسد به رمق جوع الغزيين قبل الموت بقنابل أمريكا و"عربات جدعون" التي تسحق أجساد فتك بها المرض والحصار والتدمير!
يتلقى الفلسطينيون بعد زيارة ترامب مواعظ كثيرة؛ فيها من إسفاف الكلام والتضليل والخداع للتسليم بقضاء المحتل وقدره، كلام يشير إلى أن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه ضحايا الإبادة الجماعية في غزة، هو درس الاجترار السوداوي للكلام العربي بعد مراقبة الأفعال التي تنتهي عند تقوية شوكة المشروع الصهيوني في المنطقة العربية.
لكل ذلك، بدت القمة العربية في بغداد كسابقاتها عنوانا للعجز والتواطؤ العربي، وباهتة جدا بعد زيارة ترامب ومكاسبه، فأي كلام بعد هذه الزيارة لا معنى سياسيا له، فلا شيء يدل على ابتهاج عربي بإرادة حرة وكرامة وعزة، سلبها الأمريكي في أربع ليالٍ، ومنح المحتل طريقا لـ"عربات جدعون" ليستكمل سحق الأرض وما عليها، فلولا خطاب رئيس وزراء إسبانيا أمام زعماء العرب وممثليهم في قمة بغداد، لن يسجل في محاضر القمة ما يدل حقيقة عن صلابة مواقف، فحتى خطاب رئيس الوزراء الإسباني سانشيز كان بمثابة تعميق لفضيحة كبرى في عصر ما بعد انكسار المواقف العربية أمام جرائم الإبادة والعدوان المستمر.
بين زيارة ترامب والقمة العربية في بغداد، ربما تحضر رحلة هزيمة السياسة العربية، في انحدار أخلاقيات التآزر والتضامن العربي والإنساني مع غزة، وقد قلنا وكررنا مرات عدة، أن ما يفتقده الفلسطينيون شعبا وقضية هو حليف عربي فعلي على الطريقة الأمريكية الغربية لإسرائيل، ليس حليفا يدعم بالقنابل والذخيرة والمال واللوبيات، فقط في إثبات بعض من أخلاق وإنسانية لمن يموت بفعل سلاح الجوع والحصار والمرض، وهذا أدنى درجات التحالف، بعيدا عن "فذلكة" الشعارات والكلمات التي أتقن ترامب بشعبوية خطابه بعضا من فنها في طرح واقع خيالي مرسوم في ذهنه الاستعماري عن المنطقة العربية وعن فكرة التطهير العرقي لسكان غزة.
أخيرا، أثناء انعقاد القمة العربية في بغداد حذر قادة سبع دول أوروبية إسرائيلَ من أن آلاف الغزيين قد يموتون جوعا "ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية" لإدخال المساعدات الإنسانية، والتهديد بفرض عقوبات على إسرائيل والتفكير بمراجعة اتفاق الشراكة الأوروبي مع إسرائيل. البيان الصادر عن آيسلندا وإيرلندا ولوكسمبورج ومالطا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا، مرتبط بما تشهد عواصمها من مظاهرات ضخمة مؤيدة لفلسطين، وتضغط على حكوماتها لاتخاذ قرارات حاسمة. بالمنطق، ألا يفترض أن تكون مواقف عربية مماثلة ومبدئية بـ"مكارم الأخلاق" والغذاء والدواء، بأن يقال له للتو حصلت على أربعة تريليونات، وهو يستحق عتابا على الأقل؟
x.com/nizar_sahli
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء ترامب العربية غزة امريكا غزة عرب ابادة ترامب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة زیارة ترامب
إقرأ أيضاً:
لماذا “فشلت” القمة العربية في بغداد؟
لا شك أن زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى الخليج الأسبوع الماضي، أشاحت بالأضواء بشكل كبير عن قمة بغداد العربية، التي عقدت في 17 مايو بحضور عدد محدود من القادة العرب.
قد أثار الغياب الجماعي للعديد من الرؤساء والملوك العرب تساؤلات حول أسباب ضعف التمثيل، ما دفع مراقبين إلى وصفها بـ”أضعف القمم” في تاريخ الجامعة العربية.
القمة طالبت في بيانها الختامي المجتمع الدولي بـ”الضغط من أجل وقف إراقة الدماء” في قطاع غزة. وحث المجتمعون المجتمع الدولي، ولا سيّما الدول ذات التأثير، “على تحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية للضغط من أجل وقف إراقة الدماء وضمان إدخال المساعدات الإنسانية العاجلة دون عوائق إلى جميع المناطق المحتاجة في غزة”.
وناقشت القمة قضايا عربية عديدة من أبرزها التحديات التي تواجه سوريا، والتطورات الميدانية في ليبيا واليمن ولبنان، إلى جانب الحرب في قطاع غزة.
لكن زيارة ترامب ليست العنصر الوحيد الذي ألقى بظلال على قمة بغداد، بل ثمة عناصر عديدة جرى تداولها، على أنها لعبت دورا في إحجام بعض القادة العرب عن المشاركة.
أبرز تلك العناصر، النفوذ الإيراني وزيارة إسماعيل قآني، قائد فيلق القدس إلى العراق قبل القمة بأيام، الأمر الذي اعتُبر رسالة واضحة عن حجم التأثير الإيراني على الدولة العميقة في العراق، حتى وإن كان رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، يحاول أن يتمايز بمواقفه ويظهر انفتاحا على الدول العربية والخليجية.
كما أن السوداني، ورغم الاعتراضات الصادرة عن أصوات تدور في فلك إيران، التقى بالشرع في الدوحة. أضف إلى ذلك، غياب القرار السيادي في العراق، بسبب تنوع الولاءات السياسية وتأثير الفصائل المسلحة على القرارات السيادية العراقية، وهو ما جعل القادة العرب، بحسب مراقبين ومحللين سياسيين، يشككون في جدوى حضورهم لقمة تُعقد في بغداد، حيث لا يرون في الحكومة العراقية تمثيلاً حقيقياً للدولة.
وقد انعكس الأمر على التحضيرات للقمة، وعلى تفاعل الجمهور العراقي معها، حيث تصاعدت عبر وسائل التواصل الأصوات المتطرفة المرتبطة بالفصائل المسلحة، ما أدى على ما يبدو، إلى إرسال رسائل سلبية لقادة عرب بعدم ترحيب العراقيين بهم، خصوصاً الجدل الذي رافق دعوة السوداني للشرع لحضور القمة.
من جانب آخر، أثارت المحكمة الاتحادية العراقية الجدل بإلغاء اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله مع الكويت، ما اعتبرته الأخيرة تنصلاً من التزامات دولية. هذا الخلاف قد يفسر بحسب محللين عراقيين، غياب بعض قادة دول الخليج عن القمة.
ولا يمكن، أثناء استعراض أسباب “فشل” قمة بغداد، اغفال مسألة أن القمم العربية الشاملة باتت أقل أهمية في ظل تفضيل الدول العربية للقمم الثنائية أو الإقليمية التي تتناول قضايا محددة، تماماً كما حدث في زيارة ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات.
هذا النوع من الزيارات واللقاءات الثنائية، بات يفضله القادة العرب، وباتوا يبدون اهتماماً أقل بحضور القمم العربية لا تلبي أولوياتهم الوطنية المباشرة، والتي تنتهي غالباً إلى بيانات إنشائية، لا إلى قرارات عملية.
الحرة
إنضم لقناة النيلين على واتساب