قصة.. (حُلم معطّل -1)
تاريخ النشر: 21st, May 2025 GMT
الكاتب حمد الناصري
راودتهُ رغبة عارمة في الابتعاد والنأْي بنفسه عن كُل ما يُؤذي مشاعره ومبادئه وأخلاقه.. عاتب نفسه وعنّفها وتمنّى لو استطاع أن يَجْلِد ذاته ويُعاقبها فقد نشأ في بيت مُتواضع، يزهو بالقِيَم، ويرتقي بمكانته المجتمعية، ومرّت الأيام واخْتلفت ثَيّمات الأوضاع، وتعاقبَت السُنون، وولّت سنين وأعْقَبتها سنين، وتمتم.
انقضىَ شبابهُ سريعاً وقوّته ليست كما كانت مُنذ بضع سنين، خلتْ وتضاءلت طاقة نشاطه وحتى أنّ رغبته في مَباهج الحياة خَفتت ... شيء ما، قد ماتَ بداخله.. هزّ رأسه.. لا شيء يَبقى على حاله، دوام الحال من المُحال. سُلوكنا، حياتنا، أخلاقنا، قِيَمنا.. مُجتمعات أخذت مكانها وأنْشأت سُلوكاً مجتمعياً خاصاً مُنفصلاً عمّا سبقتها من سلوكيات.. أجيال نشأت لا تعرف شيئاً عن ما قبْلها، سوى ما قِيْل عنها، وعن أيْديولوجيات رَبطتهما معًا.. فكّر قليلا.. البيع والشِراء والمال والسكن واللُغة توارثته الأجيال عقب أجيال.. ولكل جِيْل طريقة تعامُله.. حدّث نفسه.. هذا الجِيْل الذي تمكّنتُ من اللِّحاق بركْبه وقُدّر لي مُعايشته.. لا يَثق ولا يَطمئن بأحد ولو كان صادقًا أمِينًا أو قُدّيسًا زاهدًا.. الكُلّ يتعامل فقط بالمادة وبالمال وحدهما.. جِيْل تفكيره مادي إلى أبْعد الحُدود وكأنّما وُلدوا بلا مشاعر ولا عواطف.
رفعَ رأسه وتنَشّق الهواء في حسرة، وانْتفض وكأنّه يَستعد لموجة من الطاقة الجديدة.. أغمض عينيه، وبدا في سُكون غير عادي.. ترقرقت مُقلتاهُ، وكأنّ غشاوة حجبت عنه حالة الإبْصار، داهمهُ شُعور بالعجز الكامل، وأحسّ بدغدغة في قمّة رأسه.. طفا ذهنه فوق بُحيرة من الفوضى الخلاّقة.. همس في نفسه بصوت أجشّ، ربما أصابتني عين أو مسّني شيئاً مِن السِّحر.!! لكنّ جسدي لا يزال قوياً، فلماذا أحسّ بالوهن النفسي وأشعر بالضعف الجسدي؟
نظر إلى الشمس فأحسّ كأنّها تُضاحكه، مستبشرةً فرحةً مسرورة، تُرسل نورها إلى عينيه، فيغمضهما خشية من أشعّتها الحارقة. أشعّة الشمس في هذا اليوم على غير عادتها، باردة وهادئة، قال في نفسه.. يجب الحذر منها.. أخشى من تأثيرها على شبكيّة عيني. ويُقال، إذا رأيت القوي فاحذر منه.. وفي الأثر القديم: لا تأمَن من الذي يفوقك قوة وعتاداً.. حتى لو كان جمادًا أو شجرةً أو كوكبًا في السماء؛ وها هي الأقدار السماوية تُشرق بقوّتها لتُنذر الناس عمّا اختلفوا فيه وما وهنوا به، فالحياة شروق وغُروب وجديدها نور وظلام، أيّام لا تختلف في إشراقتها ولا في غروبها ولكنّها تختلف أنّ يومٌ ولّى وأدبر ويوم عاد وأقبَل، والجديد أنّ الآتِ لا تزال تجربتنا به مجهولة وما قد ولّى تعلّمنا الكثير منه وتجربته مرّت وانصرفت، قد يختلف عن الذي سبقه بنشاطات الناس عليه وحيويّة إدارتهم بالطريقة التي هُم مُؤمنون بها. لذلك كان هذا اليوم؛ يوم ميلاد صفحة جديدة في الحياة، صفحة قُرأت ولن تعود أبدًا.
قال في نفسه: لماذا أشْعر بأني لستُ كغيري؟ لماذا أشعُر بالعجز الجسدي؟ هل أنا امرؤٌ ضَعيف الإرادة؟ أم أنّ ظُروفي أصعب مِن ظروف غيري؟ في هذه اللحظة كان التوتّر والقلق يَنهشان فكره وعقله ونفسه.. شعر برغبة التغيير النفسي.. قلّب مزاجهُ، فكّر في خياراته واختطّ له مسارًا يُؤدّي بالضُرورة لتجاوز أسوار عجزه واقتحامها.. شعر براحة نفسية ثم خطا خُطوات في صالة لا يزيد طولها عن ستّة أو سبعة أمتار وأعاد لنفسه هاجس الخوف؛ وهذه المرّة ممزوجاً بالرّغبة التي تشدّهُ إلى اقتحام غير معهود، تلك الرغبة التي جُبل عليها ظنًا أنّهُ تجاوز عجزه الرّغبوي.
طائرٌ افترش جناحيه في لحظة مِن الحميميّة التي تجمعه بأُنثاه وضمَّها إليه فمالت بجناحيها مودّة وأُلفة.. هكذا وبكل بساطة بدأت دورة حياة جديدة لذلك الطير.!! وبما أنّ "سعيد" لم يكن قد أعدّ في مُخيّلته، مِثل تلك الرّسائل التي تُعبّر عن ذلك البُعد غير الموجود في جسده كاللّحظة الحميميّة لذلك الطّيْر.. أسئلة دارت في رأسه، أسئلة فتحتْ المجال لاحتمالات كثيرة.. منها أنّ ذلك الطير جاء مُتعمّدًا ورُبّما من فِعله أو هي أفعال يُمارسها مع غيره الأضعف قوة، وتلك المُمارسة لا أخلاقية استهدفت حُلمًا مُعطّلًا.!
ودارتْ رحى عصف الأسئلة تتكثّف في مُخيّلته، وانصبّت على تجذير موقف الرغبة الحميمية، بل أعطتهُ شكْلاً جديدًا من حريّة بعثتْ الخوف في داخله وتحرّكت بُرودة الجسد وأصابته في معقله؛ وحين أدرك أنّ الأمر يتطلّب بعضًا من انتشال مخاوفه، استدركه التفكير إلى التعمّق في شؤونه المُعَطّلة، وهل يا ترى هي مُعطّلة بطبيعتها أم عامل الخوف زادها تعطيلًا أم فطرة الحُلم عبثية لا أفق لها ولا تربطها رغبة جسدية لئلا يرتكب حماقة في أفقها وتُعطّل حريّة مفتوحة كان أجدر به أن يعتني بخواصها ولا يهدرها كل الهدر فيقعد بائسًا مهيضًا مكسور الرغبة، واهِن، عاجز لا فيض له ولا عون.
أعاد التفكير في تجديد ما انغلق من شهوة وما تعطّل من حُلم، ورأى أنْ يستحدث طُرقًا تسعده وتدفعه إلى أنجح الأفكار والتخلّص من الخوف والانغلاق، لربما ذلك وهنٌ نفسي لا دخل له في القدرة والرغبة والشهيّة.
وأعاد مشاهد حركة الطائر التي استقرت على طائر يبدو أنه ضعيف في مواجهة قوة أكبر، مكنتهُ من الاندفاع إلى الأفعال غير الحميدة. واستمر "سَعيد" يطرح تساؤلات على نفسه.. كيف عرف ذلك الطائر أنّ بقاءه يَعتمد على تلك اللحظات؟
تنهّد "سعيد" بعُمق وقال في نفسه.. طائرٌ قضى وطَرهُ بطريقته، وأنا ...؟ سكت لم يبزم.. هزّ رأسه في حِيرة.. كيفَ عرف الطائر حاجته الجسدية؟ مشهد يتجسّد، يتخيّل مَشهد الطائر المُثير.. طائر يهويِ كالسهم، بطريقة فنية احترافية، مالَ بجناحيه ثم نقر رِيْش طائر قد استراح على عود شجرة امْبّا، شجرة الـ "مانجو " ثمرتها لذيذة مَلساء وناعمة.. لكنّها بطيئة النمو.. وحين وصل إلى هذه المفردة، فزّ من مكانه، ارتباك بدا عليه.. اختلاط أشياء لم يفهم تفاصيلها، أشياء صحيحة في إطار تكوينه، لكنّها تُعطّل حُلمه وفطرة تعصف به ولا تزيده إلّا ضعفًا عاثرًا، قوة جسدية بائسة لا تربطه به، غير وضعية رجولة، مظهرها لا ينفصل عن مخبرها، وبتلك الصّفات تشكّلت صفاته الجسدية، وصار محسوبًا على قوة الرجولة التي لا يُعرف ضعفها العاثر.
اضطراب وقلق وضعف وخوف انتاب الطائر الأنثى، حين أرخى ذكر الطائر بجناحيه على الطائر الأنثى التي ضمّت جناحيها إلى جسدها، ربما خوف، ربما استعداد أو تهيئة أو أنّها فهمت مُرادهُ وتحصّلت على مرامها وبُغيتها، ووجد كلاهما فرصة سانحة أو نادرة، لتكون أكثر هدوءًا من غفوتها على عود شجرة الأمّبا " المانجو"، وبدت الطائر الأنثى بحركة لغة خاصة بينهما، مرّرت بمنقارها على عود شجرة "الأمّبا" وإذا بالطائر الذكر ينقر رقبتها بمنقاره، وأخذ يمسح به ظهرها، وكأنّه يُطبطب عليها ويدقّ فوق منقارها ويطبع حرفهُ الجميل، أو كأنّه يقول لها: لا سُبَات عميق، إيْذانًا برغبة مزعجة.
كان قدر "سعيد" قاسٍ، أزعجه حينًا، ثم بدا يتأمّلها برغبة ويتابع تفاصيلها بدقة وحماسة لعلّها تردّ بعض حُلم تفاصيلها، وأقنعتهُ مُكابرة الطائر القوي وبدت المشاعر تزدهُ تحفيزًا لنشاط فيه أمل، يستشعر به ويجمع قواهُ ويدفعهُ إلى نشاطٍ مِثْله، وكان حرصه على مُتابعة التفاصيل، تعميرًا لتفاصيل لا كراهة أخلاق فيها، إنّما موقف الطائر استفزّه لمعرفة غريزة أودعها الخالق في وجدانه، وتمثّل له الطائرين، ليرى ما همّ به، فهذا برهان، ليُريه مفازةً تنزيهًا لعاقلٍ اجْتبى الإخلاص عن غرائز لا سِتر فيها.
طائر يُمسّد بمنقاره منقار أنثاهُ، كأنّه يُطبطب عليها، يحنو بعاطفة طير ليس حاله كحال البشر، كأنّما منقاره يطبع قُبلة حرف جميل، ويمسح بتمريرته اختلاط الأشياء ويُعلن سلامتهِ ويُنجز كفاءته في أسرع عمليات التموضع بلا خوف ولا قلق ولا اضطراب، تمريرات نشطة زرعتْ في مُهجة عابرة، كدليل على تكاثر الصّنف.. بسَط الطائر جناحيه فضمّت الأنثى نفسها كأنّها خُدرت بضعف ومن ميلان جناحيه، علمت رغبته فاحتوته قبل أن تَفقد سَعيه أو تفقد لحظات عاطفة حنان لا قيود فيها ولا مُقاومة، فكلّما كانت تهتمّ به، كلما ثبت الطائر الذكر أنْ لا يطير إلى أخرى، يتصرّف الطائر الذكر ، ويستنسخ تجربة غيره ، ويكرّر الذكر الآدمي تجربته، يَستحمر بقوته ما كان عصيًّا وقاسيًا بغرور وجهل، وكأنّ الجهل والإسْتحمار تجربة يُفرضها على أنثاهُ، بتجربة قاسية لا يُراعي ضعفها ولا يهتم بنفسيّتها، لكن ذكورة الطائر لم تكن عصيّة على الطائر الأنثى بل واجهها بحركة العاطفة، فمالَ بجناحيه وبتلك الحركة خدرت الأنثى بلا ضعف واستكانتْ لقضاء رغبة مُستحبّة، ومضى الطائر الذكر قُدمًا لتسكن أنثاهُ في حنان جميل.
تمتم سعيد سرًّا.. ماذا لو اجْتمعت رغبة الآدمي، الذكر والأنثى معًا وكتم كل منهما سرّ الآخر. وعاشا حياة لا مُنغّص فيها، تحقيقًا لاستمرار حُلم حياة جميلة لا مُعطّل فيها، تستحق مُقاومة أصغر الأشياء وأتفه حُلم.
يتبع 2
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: فی نفسه ر الذکر کأن ه ی ة التی
إقرأ أيضاً:
بـ «منقار وريش».. رجل بزيّ طائر يثير الجدل في مهرجان كان السينمائي
غالبًا ما تتألق النجمات بفساتينهن الفاتنة على السجادة الحمراء في مهرجان كان السينمائي، لكن أحد الحضور ليلة السبت حضر بزيّ طائر، فقبل العرض الأول لفيلم لين رامزي «مت يا حبيبي»، بطولة روبرت باتينسون وجينيفر لورانس، حضر رجل بزيّ طائر كامل، بمنقار وريش.
كان لهذا الزيّ غرضٌ مُحدّد، فهو مُرتبط بالفيلم الوثائقي "أحب بيرو"، المُعروض في قسم كلاسيكيات «كان»، حيث كان الزيّ على شكل طائر كندور تحديدًا، والذي يُنظر إليه في بيرو على أنه مخلوق يربط بين السماء والأرض.
يشار إلى أن إدارة مهرجان كان السينمائي قد منعت مؤخرًا العُري والفساتين "الضخمة جدًا"، إلا أنه لم يمنع الحضور بأزياء الطيور الكندور.
مهرجان كان السينمائي يمنع ممثل من حضور العرض الأول لفيلمه لهذا السببوكان الممثل الفرنسي نافارو موسي قد مٌنع سابقًا من حضور العرض الأول لفيلم «القضية 137» في مهرجان «كان» السينمائي.
وأفادت مجلة «تيليرام» أن نافارو موسي اتُهم بالاغتصاب من قبل ثلاث شريكات سابقات في أعوام 2018 و2019 و2020، وقد أُسقطت القضية الشهر الماضي لعدم كفاية الأدلة، لكن «تيليرام» أفادت أن النساء الثلاث يعتزمن الاستئناف.
وصرح فريمو للمجلة الفرنسية: بسبب وجود استئناف، وبالتالي استمرار التحقيق، لم تُعلّق القضية"، وأضاف: "عندما يصبح القرار القانوني نهائيًا، يتغير الوضع.
ولم يستجب ممثلو نافارو موسي فورًا لطلبات التعليق، حيث أحال ممثلو مهرجان كان السينمائي الاستفسارات حول تعليقات فريمو إلى تيليراما.
ومن جهتها، صرحت ماريون بوزيت جالياردي، محامية نافارو موسي، لتيليراما: لم أتلقَّ أي معلومات تشير إلى وجود أي إجراءات جارية، هذه الشكوى المقترحة بصفتها طرفًا مدنيًا، على حد علمي، لم تُقدّم قانونيًا.
يُمثل هذا القرار تحوّلاً في مسار مهرجان كان السينمائي، الذي تعرّض لانتقاداتٍ أحيانًا لاستقباله رجالًا مُتهمين بسوء السلوك الجنسي. لكن البعض يرى الآن أن المهرجان يتطور في صناعة السينما الفرنسية، وإن كان متأخرًا.
وكان قد افتُتح مهرجان كان هذا العام بعد ساعات من إدانة الممثل الفرنسي جيرار ديبارديو بالاعتداء الجنسي وحُكم عليه بالسجن 18 شهرًا مع وقف التنفيذ، وعندما سُئلت عن حكم ديبارديو، قالت جولييت بينوش، رئيسة لجنة تحكيم مهرجان كان، إن المهرجان يسير على هذا النهج في الحياة الاجتماعية والسياسية.
اقرأ أيضاًمهرجان كان السينمائي يمنع ممثل من حضور العرض الأول لفيلمه لهذا السبب
بفستان أحمر.. يسرا تتألق على السجادة الحمراء في مهرجان كان السينمائي «صور»
بحضور مشاهير العالم.. انطلاق مهرجان كان السينمائي 2025