بلدة الشيوخ الفلسطينية.. ذاكرة موثقة من حضرة الأولياء إلى نكبات الاحتلال
تاريخ النشر: 26th, May 2025 GMT
حظيت بلدة الشيوخ بمعاملة خاصة ومميزة في عهد الدولة العثمانية لما لها من مكانة روحية، فقد وفد إليها الشيوخ لتلقي العلم والتقرب من رموز القرية الدينية.
تقع بلدة الشيوخ إلى الشمال الشرقي من مدينة الخليل، وعلى بعد 6.5 كم، على جبل يتراوح ارتفاعه من 980م ـ 997م عن سطح البحر، وقد أكسبها قربها من طريق الخليل القدس الرئيس أهمية كبرى حيث تبعد عنه مسافة 3 كم فقط.
يحد بلدة الشيوخ من الشرق أراض مفتوحة تتاخم البحر الميت، ومن الجهات الثلاث الأخرى أراضي بلدة سعير، فهي شبه جزيرة في بحر سعير التي تحيط بها.
تحيط بالبلدة مجموعة من الخرب التي تحتوي على مواقع أثرية أهمها : خربة أبي ريش، وخربة الربيعة، وخربة الزعفران، وخربة الجرادات، وفي أراضيها القريتان الصغيرتان :العديسة، وبيت عينون.
قدر عدد سكانها عام 1922 بنحو 960 نسمة، وفي عام 1945 وصل إلى 1240 نسمة، وفي عام 1967 بلغ عدد سكانها 1800 نسمة، ارتفع في عام 1987 إلى 3400 نسمة، وتشير آخر الإحصاءات أن عدد أهالي القرية يقارب 8000 نسمة. تبلغ مساحة الأراضي التابعة للقرية نحو 22 دونما.
مشهد للشيوخ وتبدو مدرسة البنات.
وتعتمد الشيوخ على مياه الأمطار التي تسقط في فصل الشتاء، حيث يجمعها السكان في الآبار التي يحفرونها لذلك الغرض، وقد حفروا بئرا عميقة تخدم أفراد القرية جميعا، وهي ما يطلق عليه "المصنعة"، وتوجد عين ماء يطلق عليها عين عون أو عين عوينة، وعدة آبار معروفة.
وكان العمران في بلدة الشيوخ سابقا يقوم في المنطقة المحيطة بقبر ومقام الشيخ إبراهيم الهدمي، وأما اليوم فقد انتشر البناء على مساحات واسعة وذا طابع حديث، ومعظم مباني أهل القرية من الحجارة والرخام الذي تشتهر به القرية، وبالطبع لا يخلو ذلك من مضايقات ومنغصات من جانب الاحتلال وذلك بعدم منح السكان الترخيص اللازمة للبناء.
وتنتشر في منطقة الشيوخ الأماكن الأثرية الكثيرة، وتفيد روايات أن بعض السكان وجدوا بعض القطع النقدية القديمة (الأنتيكا) غالية الثمن، وقد عمل معظم سكان منطقتي الشيوخ وقرية بيت فجار في الحفر والتنقيب عن الآثار، وكشفت عمليات الحفر عن الصخر الصالح للبناء بألوانه المختلفة.
يرتبط تاريخ بلدة الشيوخ بتاريخ سعير الموغل في القدم، وكانت أرض فلسطين ساحة حرب وحضارة امتزجت على ترابها دماء كثيرة من الشعوب، وامتزجت كثير من الحضارات في بوتقة واحدة حملت اسم فلسطين.
وظهرت الشيوخ بشكل بارز في العهد الإسلامي خاصة بعد مجيء الشيخ إبراهيم الهدمي إليها حيث توفي ودفن فيها فيها، وسميت الشيوخ بهذا الاسم نسبة إلى الشيخ إبراهيم الهدمي، حيث قصده الشيوخ للعلم وإحياء الطريقة ليلة الاثنين والجمعة من كل أسبوع وليالي الذكر، ومنها اشتق اسم القرية لتجمع هؤلاء الشيوخ على مر العصور السابقة حتى وقت قريب.
مسجد الشيخ الهدمي من الداخل.
وتذكر المصادر التاريخية أن الشيخ الهدمي كان مزارعا حيث أصلح لنفسه مكانا وزرعه وغرس فيه شجرا فأثمر، وكان من الأولياء الصالحين أصحاب الكرامات، حسن الذكر ممن يعتقد فيهم الصلاح، حسب الروايات.
وكان رحالة باحثا في سبيل طلب العلم والتعليم وكان له مريدون كثيرون، والذين أقاموا على قبره وسكنوا أكناف المكان.
وتميزت الشيوخ بمكانة خاصة في العهد التركي حيث حصل سكانها على مرسوم سلطاني باللغة التركية عام 1191.
كان سكان الشيوخ في أواخر العهد التركي يرتدون العمامة الخضراء "اللفة" كعلامة للأشراف حسب المرسوم السلطاني العثماني الصادر من القسطنطينية، والمقيد بالإذن الشرعي في سجل الأوامر الشرعية السكانية في القدس الشريف التي تنص ترجمتها على أن أهل بلدة الشيوخ معفيون من الضرائب، وطعامهم مجانا ويرفع عنهم أي ظلم أو اعتداء أو قهر وهذا أمر واجب التنفيذ.
وبعد سقوط الدولة العثمانية وضعت فلسطين تحت سيطرة بريطانيا بمسمى "الانتداب" بعد توقيع اتفاقية "سايكس بيكو" وتقسيم البلاد العربية، حيث عينت هربرت صموئيل، وهو يهودي، كأول مندوب سامي على فلسطين والذي عمل بكل الإمكانيات على تهيئة الوضع لإقامة "الوطن القومي للشعب اليهودي"، فتشدد في جباية الضرائب من السكان المحليين، ويروى أن أهالي الشيوخ حملوا الإعفاء التركي إلى الممثل البريطاني في القدس لكي يعفيهم من دفع الضرائب، ولكن الممثل البريطاني أخذ الوثيقة منهم ولم يرجعها إليهم ولم يستجيب لطلبهم وأجبرهم على دفع الضرائب والمستحقات المالية عليهم.
كان لسكان الشيوخ مشاركة كغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني في الثورة ضد الإنجليز وخاصة في ثورة فلسطين الكبرى في عام 1936 والتي شهدت أطول إضراب في تاريخ المنطقة العربية، حيث تشكلت لجنة شعبية في الشيوخ أسوة ببقية القرى الفلسطينية وقدمت القرية العديد من الشهداء والمعتقلين.
وبعد نكبة عام 1948 دخل المصريون قطاع الخليل وبيت لحم ثم انسحبوا منه في العام التالي حيث أصبحت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية حيث عم الأمن والاستقرار وانتشر التعليم وتأسست العيادات الصحية والمدرس .
وبعد حرب عام 1967 خضعت الشيوخ للاحتلال الإسرائيلي الذي صادر جزءا من أراضيها وأقامت عليها مستوطنة "قنا" عام 1983. وشاركت البلدة في جميع التحركات الشعبية التي خاضها الشعب الفلسطيني وبشكل خاص في الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية.
وبعد اتفاقيات "أوسلو" خضعت الشيوخ لحكم السلطة الوطنية الفلسطينية، ورغم ذلك بقيت البلدة عرضة للاقتحام والحصار الإسرائيلي ولعمليات القتل والاعتقال ومصادرة الأراضي والتضييق على رخص البناء والتحرك والتنقل بين القرى والمدن المجاورة.
المصادر:
ـ إدريس جرادات، "طــريــق الشموخ في حاضرةِ الشيوخ"، مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي.
ـ عوض الرجوب، "بلدة الشيوخ..طاعون الاستيطان يلتهم منازلها"، الجزيرة نت، 24/2/2015.
ـ مصطفى الدباغ، بلادنا فلسطين، ص 169.
ـ موقع فلسطين في الذاكرة.
ـ موسوعة القرى الفلسطينية.
ـ موقع دائرة المعارف الفلسطينية.
ـ عبد النبي الحوامدة ومحمد الرجوب، "الزراعة في محافظة الخليل".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير تقارير بلدة الشيوخ تاريخ فلسطين فلسطين تاريخ هوية بلدة الشيوخ تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بلدة الشیوخ فی عام
إقرأ أيضاً:
هل تحب فلسطين وهي تقاتل.. أم تكتفي بالتعاطف معها وهي تنزف؟
منذ اندلاع الإبادة والتطهير العرقي والعقاب الجماعي في غزة، لم يكن الحراك الشعبي في أوروبا مجرّد موجة عابرة، بل ثورة عارمة عبّرت عن الملايين ممن رفعوا علم فلسطين، وأعلنوا تضامنهم مع أهلها، متجاوزين حدود التعاطف الافتراضي إلى فعل حقيقي ومطالبة سياسية واضحة بالعدالة والحرية.
هذا الحراك الشعبي دليل حي على أن الحب الحقيقي لفلسطين لا يقتصر على الوقوف مع الضحية، بل يتجسّد في الانحياز للحق في مقاومة الظلم والاحتلال.
وفي مقابل هذه المواقف القوية من الشعوب، بدأت بعض الحكومات الأوروبية مؤخرا تبدي مواقف أكثر جرأة، كالتلويح بفرض عقوبات على الاحتلال، واستدعاء سفرائه، وإصدار رسائل سياسية حازمة تجاه استمرار العدوان. لكن هذه التحركات -على أهميتها- لم تُترجم حتى اللحظة إلى خطوات رادعة حقيقية؛ فشحنات السلاح إلى تل أبيب لا تزال تتدفّق، والدعم السياسي والعسكري لم يتوقف.
بدأت بعض الحكومات الأوروبية مؤخرا تبدي مواقف أكثر جرأة، كالتلويح بفرض عقوبات على الاحتلال، واستدعاء سفرائه، وإصدار رسائل سياسية حازمة تجاه استمرار العدوان. لكن هذه التحركات -على أهميتها- لم تُترجم حتى اللحظة إلى خطوات رادعة حقيقية
وهنا يبرز السؤال المركزي: هل نحب فلسطين وهي تقاتل من أجل وجودها، أم نكتفي بالتعاطف معها وهي تنزف فقط؟
ولفهم أعمق لهذا التناقض بين تضامن الشعوب وازدواجية الأنظمة، نجد نموذجا حيا قادما من أمريكا اللاتينية، حيث تتقاطع الخطابات الرسمية مع الوعي الشعبي، ويظهر صوت نادر في وضوحه.. صوت الصحفي البرازيلي الكبير بابلو بوسكو.
خلال ندوة نظمها "منتدى فلسطين للإعلام والتواصل"، جلس الرجل المسنّ، لكنه لم يلبث أن وقف، رغم كِبر سنّه، ليحدثنا بحماسة لافتة عن تجربته ورؤيته للتضامن، قائلا:
"أنا صحفي كبير في السن، اسمي بابلو بوسكو. قضيت عمري في الصحافة في البرازيل، وشهدت الكثير من التحولات السياسية، لكن ما يحدث في فلسطين الآن فاق كل شيء.. إنه جرح مفتوح في ضمير العالم".
تحدّث بوسكو بإعجاب عن موقف الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الذي وصف العدوان على غزة بـ"الإبادة الجماعية"، معتبرا أن هذا الموقف ساعد في تغيير وعي قطاعات واسعة من الشعب البرازيلي، حيث أظهرت استطلاعات الرأي تضامنا كبيرا مع فلسطين.
لكن بابلو، كعادته، لم يكتف بنصف الحقيقة، فأشار بوضوح إلى التناقض في خطاب لولا، الذي رغم إدانته لجرائم الاحتلال، لم يتردد في وصف عمليات المقاومة الفلسطينية بـ"الهجوم الإرهابي".
ومن هنا انطلق بوسكو بسؤاله الجوهري: هل يُقبل الفلسطيني فقط حين يكون ضحية أعزل؟ وهل يُدان حين يحمل سلاحه دفاعا عن أرضه ورفضا للمجازر بحق نسائه وأطفاله؟ ويذكّرنا قائلا: "من دون المقاومة، لن تكون هناك فلسطين. لا معنى لتضامن لا يعترف بحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم".
وسرد حادثة جرت مؤخرا حين مُنعت عائلة فلسطينية من دخول البرازيل رغم امتلاكها تأشيرات رسمية، بدعوى ورود أسمائهم على "قائمة سوداء" أمريكية تزعم انتماء أفرادها لحماس. لم تعترض السلطات البرازيلية، رغم خطابها الإنساني المعلن.
هذه الحادثة لم تكن تفصيلا صغيرا، بل تجسيدا للفجوة بين ما يُقال وما يُفعل، بين التعاطف مع الضحية، ومعاقبتها إذا قاومت.
ولا يتوقف الأمر عند المواقف العليا، بل يتجسد في السياسات المحلية. بلدية ساو باولو -كبرى مدن البرازيل- أصدرت مؤخرا قرارا بمنع فعاليات تضامنية مع فلسطين، تحت ذرائع "منع خطاب الكراهية" و"الحياد"، رغم أن العدوان الإسرائيلي لا يترك مجالا للحياد.
هذا المنع جاء رغم تنامي الوعي الشعبي المتضامن مع غزة، وكشف عن معضلة عميقة: يُسمح لك أن تتعاطف مع فلسطين.. ما لم تتحوّل عاطفتك إلى موقف علني أو فعل سياسي.
وما يجعل صوت بوسكو لافتا ليس فقط وضوحه، بل لأنه يأتي من فضاء ثقافي وسياسي غير غربي تقليدي، ويكشف عن عمق المأزق الأخلاقي الذي تعاني منه حتى بعض الحكومات المناصرة ظاهريا لفلسطين.
هذه المواقف "النصفية" تشبه في جوانب كثيرة ما نراه في الغرب: تأييد لفظي، وتضامن إنساني، لكن مع خطوط حمراء تُرسم بوضوح عندما يصل الأمر إلى دعم الفعل المقاوم أو مساءلة الاحتلال.
ومع هذا، فإن الغرب بدوله الكبرى يبدو أكثر تورطا، وأكثر ازدواجية، حيث يتحول التواطؤ إلى دعم مادي مباشر للآلة التي تقتل الفلسطينيين.
من يحب فلسطين حقا، لا يمكن أن يحبها فقط وهي تنزف.. بل يجب أن يحبها وهي تقاتل وفق ما كفلته لها المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية لأي شعب تحت الاحتلال
فالمواقف الغربية الأخيرة من المجاعة في غزة -رغم بعض مظاهر التعاطف والتدخلات المتأخرة- أظهرت حقيقة لا يمكن تغطيتها بأكياس دقيق القمح. نعم، ثمّة جهود تُبذل لإدخال المساعدات، وبيانات تصدر تندد بالمجاعة، لكن اليد الأخرى هي التي تسلّح وتمنع وقف إطلاق النار.
ولا يمكن نسيان الجملة التي لخّصت نفاق هذا المشهد، حين علّق أحد النشطاء البريطانيين على شحنة أسلحة أُرسلت إلى إسرائيل وسط أزمة الجوع في غزة، قائلا بسخرية سوداء: "دعوا الفلسطينيين يأكلوا قليلا من الطعام.. ثم اقتلوهم".
إنها العبارة التي تختصر المأساة: قليل من الشفقة، كثير من الرصاص.. قافلة مساعدات هنا، وشحنة صواريخ هناك.. ابتسامة دبلوماسية أمام الكاميرات، وصمت عن الجرائم خلف الكواليس.
وفي هذا السياق، يبرز صوت أمثال بابلو بوسكو لا كترفٍ فكري، بل كضرورة أخلاقية. فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على المعاني:
هل يمكن التضامن مع الضحية دون الاعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها؟
هل نُدين الجوع دون أن نحاسب من يمنع الغذاء؟
وهل نناصر فلسطين كقضية إنسانية بينما نخذلها كقضية تحرر؟
في زمنٍ تتآكل فيه المبادئ وسط الحسابات، يُعيدنا صوت بوسكو إلى بوصلة الأصل برأيه:
من يحب فلسطين حقا، لا يمكن أن يحبها فقط وهي تنزف.. بل يجب أن يحبها وهي تقاتل وفق ما كفلته لها المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية لأي شعب تحت الاحتلال.