من العمل الفدرالي إلى طوابير الإعانة.. وجه آخر للجوع في أميركا
تاريخ النشر: 2nd, June 2025 GMT
واشنطن- في صباح دافئ من أحد أيام السبت، يصطف العشرات بصمت في طابور طويل أمام أحد أكبر المتاجر في ضواحي العاصمة الأميركية واشنطن، ليس بسبب عروض خاصة أو فعالية ترويجية، بل للحصول على "كرتونة" من المساعدات الغذائية المجانية التي تضم مواد أساسية مثل الأرز والمعكرونة والمعلبات.
بين الواقفين موظفون ومتعاقدون سابقون مع مؤسسات حكومية، وجدوا أنفسهم -بعد سنوات أو حتى عقود من العمل الرسمي- عاجزين عن تأمين الغذاء لأسرهم، مستفيدين من مبادرة أسبوعية أطلقها "بنك طعام منطقة العاصمة" (Capital Area Food Bank)، وتستهدف المتضررين من قرارات تقليص الوظائف الفدرالية.
ومنذ بداية الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني الماضي، شرعت إدارته في تنفيذ حملة تقشف شاملة تضمنت تقليص آلاف الوظائف الفدرالية، لا سيما في وكالات مثل وزارة الزراعة، ووزارة العدل، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
وشملت الإجراءات الموظفين الرسميين والمتعاقدين على حد سواء، مما أدى إلى فقدان مفاجئ للدخل لدى كثيرين، من دون إنذارات سابقة أو تعويضات كافية، لينعكس ذلك سريعا على حياتهم اليومية، فشريحة كانت حتى وقت قريب تنعم بالأمان والاستقرار باتت الآن على أبواب بنوك الطعام.
في موقع التوزيع الأسبوعي، علّق المتطوعون لافتة كتب عليها أن المساعدات "مخصصة للمتضررين من التقليصات الفدرالية"، وكانوا يبتسمون للوافدين وهم يسلمونهم صناديق المساعدات.
إعلانورغم الترحيب، بدا الارتباك والإحباط واضحين على كثير من المستفيدين، إذ تجنب معظمهم الحديث مع الجزيرة نت أو الكشف عن خلفياتهم، في مشهد يعكس الصدمة النفسية الناتجة عن التحول المفاجئ في حياتهم.
إحدى السيدات اكتفت بالقول، وهي تعود مسرعة إلى سيارتها بعد تسلم المساعدة، "لم أتخيل يوما أن أقف هنا، هذا كل ما أستطيع أن أقوله لك".
أما ستايسي فكانت تنتظر دورها وهي تحمل رسالة تضامن من نوع خاص. قالت للجزيرة نت "أنا هنا لأجل صديقتي. كانت تعمل بعقد مع وزارة الزراعة الأميركية، لكنهم أنهوا تعاقدها فجأة بعد بضعة أشهر فقط. منذ ذلك الحين لم تخرج من البيت".
تصف ستايسي حالة صديقتها النفسية قائلة "دخلت في نوبة اكتئاب حادة وانعزلت تماما. لم تطلب مني الحضور، لكنني أعلم أنها بحاجة ماسة إلى أي نوع من المساعدة، خاصة بعد فقدان مصدر دخلها الوحيد".
المفارقة الأبرز تكشفها حالة موظفي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي الجهة التي تمثل الذراع الأساسية للحكومة في تمويل برامج المساعدات الإنسانية في أنحاء العالم. ومع ذلك، كانت هذه الوكالة من أكثر الجهات تضررا من خطة التقليصات، إذ تم تعليق أو إنهاء برامج بملايين الدولارات كانت تهدف لتوفير الغذاء في دول فقيرة.
وانعكس هذا الواقع داخليا على موظفي الوكالة أنفسهم، فقد روت رادا موثايا، المديرة التنفيذية لبنك الطعام، شهادة مؤثرة لإحدى المستفيدات قائلة "لقد عملت هذه السيدة في الوكالة 16 عامًا، وكانت متأثرة للغاية حين وجدت نفسها مضطرة إلى طلب المساعدة الغذائية، بعد أن قضت سنوات في الإشراف على برامج للأمن الغذائي في العالم".
لطالما مثّلت الوظائف الفدرالية في الولايات المتحدة نموذجا للاستقرار الوظيفي، بفضل المزايا المتنوعة مثل الرواتب الثابتة والتأمين الصحي والمعاشات التقاعدية، خاصة في العاصمة واشنطن حيث تتمركز الوكالات الحكومية وتعيش آلاف الأسر المعتمدة على عقود العمل.
إعلانلكن هذه الصورة بدأت بالتصدع منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ويقدّر مراقبون أن أكثر من 12 ألف موظف ومتعاقد فدرالي فقدوا وظائفهم خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، مع توقعات بارتفاع العدد في ظل استمرار مراجعات الإنفاق الحكومي.
وقد أدت هذه التطورات إلى سلسلة من التداعيات الاجتماعية، أبرزها ارتفاع طلبات الإعانة الطارئة، وتزايد الضغط على بنوك الطعام، وتراجع القدرة الشرائية لفئة لم تكن تُصنّف سابقًا ضمن الفئات الهشة اقتصاديا.
وفي بلد يُنتج ما يكفي من الغذاء لإطعام مئات الملايين، ويقود الاقتصاد العالمي بإجمالي ناتج يفوق 29 تريليون دولار، ما زالت أزمة الأمن الغذائي واحدة من المفارقات الصارخة في الحياة الأميركية.
فوفقًا لبيانات وزارة الزراعة الأميركية، عانى أكثر من 44 مليون أميركي، من بينهم 13 مليون طفل، من انعدام الأمن الغذائي خلال عام 2023، أي نحو 1 من كل 7 مواطنين. وتُعرّف الوزارة انعدام الأمن الغذائي بأنه "عدم القدرة المنتظمة على الحصول على غذاء بكميات وأسعار مناسبة".
وبحسب تقرير "كابيتال إيريا فود بنك" لعام 2024، ارتفعت نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي في منطقة واشنطن الكبرى إلى 37%، بزيادة 5 نقاط مئوية مقارنة بالعام السابق.
ورغم عدم توفر بيانات رسمية توضح أثر قرارات تقليص الوظائف على هذا المؤشر تحديدا، فإن إيقاف وزارة الزراعة تمويلا بقيمة 500 مليون دولار لبرامج الغذاء في مارس/آذار الماضي، إلى جانب انخفاض حجم التبرعات الفردية والمؤسسية، يشير إلى ضغوط متزايدة على بنوك الطعام التي لطالما اعتبرت شبكة الأمان الأخيرة في وجه الأزمات الاقتصادية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات وزارة الزراعة الأمن الغذائی
إقرأ أيضاً:
ثروت إمبابي يكتب: الزراعة دون تربة.. مستقبل الأمن الغذائي في ظل التغيرات المناخية
هل تخيلت يومًا أن تنمو نبتة دون أن تلمس حبة تراب؟ أو أن تزهر شجرة في الهواء دون أن تُغرس في أرض؟ قد يبدو الأمر ضربًا من الخيال، لكنه واقعٌ بدأ يفرض نفسه على عالم الزراعة، ذلك العالم الذي كان لقرونٍ أسير التربة والماء والمناخ.
لقد تغيرت قواعد اللعبة. لم تعد الزراعة كما عرفناها، ولم تعد الأرض وحدها هي وعاء الحياة. فمع تصاعد الأزمات البيئية، وازدياد شحّ المياه، واحتضار التربة في كثير من بقاع الأرض، ظهرت تقنيات ثورية تعدنا بثورة خضراء جديدة: الزراعة المائية والهوائية.
إنها ليست مجرد بدائل، بل رؤى جذرية تعيد تعريف علاقتنا بالغذاء وبالطبيعة ذاتها. فكيف وصلت هذه التقنيات إلى الواجهة؟ ولماذا باتت خيارًا استراتيجيًا لمستقبل غذائنا؟
رغم أن الزراعة التقليدية مثّلت ركيزة الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، فإنها تواجه اليوم أزمات تهدد استمراريتها. فالموارد المائية تنضب، والتربة تتدهور بسبب الاستخدام المفرط للأسمدة والمبيدات، والمناخ يتغير بوتيرة متسارعة، ما يجعل الزراعة أكثر هشاشة وعرضة للفشل. كما أن النمو السكاني المتزايد يفرض ضغطًا هائلًا على سلاسل الإمداد الغذائي، في وقت تتقلص فيه الأراضي الصالحة للزراعة.
في هذا السياق، تبرز الزراعة المائية كأحد الحلول الواعدة. فهي تعتمد على زراعة النباتات دون الحاجة إلى التربة، حيث تُغمر الجذور في محاليل غذائية دقيقة التركيب. هذه الطريقة لا تقتصر على كونها بديلًا تقنيًا، بل تقدم مزايا عملية هائلة: فهي توفر ما يصل إلى 90٪ من المياه مقارنة بالزراعة التقليدية، وتُنتج محاصيل أكثر كثافة في مساحات أقل، كما أنها تتيح الزراعة داخل المدن، ما يقلل من الاعتماد على نقل الأغذية من الريف إلى الحضر.
أما الزراعة الهوائية، فهي تمثل قفزة أكثر جرأة نحو المستقبل. في هذه التقنية، تُعلّق جذور النباتات في الهواء، وتُرشّ بشكل دوري بضباب يحتوي على جميع المغذيات الضرورية. هذه الطريقة لا توفر المياه فحسب، بل تمنح النباتات بيئة مثالية للنمو السريع والكثيف، وتُستخدم بالفعل في مشاريع زراعة مخصصة للفضاء وأماكن لا يمكن فيها استخدام التربة أو حتى الماء بكفاءة.
عندما نتحدث عن الاستدامة، فإننا لا نقصد مجرد الحفاظ على البيئة، بل ضمان أن نتمكن من إنتاج غذائنا دون تدمير الكوكب. وهنا تُثبت هاتان التقنيتان فعاليتهما، إذ تساهمان في خفض الانبعاثات الكربونية، تقليل استهلاك الموارد، وتقديم حلول زراعية مرنة يمكن تطبيقها في أي مكان تقريبًا.
أما على المستوى الشخصي، فأنا أرى أن هذه الحلول تمثل ضرورة وليست خيارًا. في عالمٍ تزداد فيه الكوارث المناخية وتضيق فيه المساحات القابلة للزراعة، لا يمكننا أن نتمسك بأنماط قديمة وننتظر نتائج جديدة. يجب أن نستثمر في هذه التقنيات، وندعم الأبحاث المحلية لتطويرها وتكييفها مع بيئتنا. إن الزراعة المائية والهوائية ليست مجرد رفاهية تكنولوجية، بل وسيلة لإنقاذ الأمن الغذائي العالمي، وتحقيق توازن بين الإنسان والطبيعة.
لقد دخلنا عصرًا جديدًا من الزراعة، حيث لا تُقاس الخصوبة بعمق التربة، بل بذكاء النظام. وفي زمنٍ أصبح فيه الماء أثمن من النفط، فإن من يتحكم في تقنيات الزراعة الذكية، يتحكم في مستقبل الغذاء.