سبايكر: الجريمة التي فضحت ثوار العشائر
تاريخ النشر: 12th, June 2025 GMT
12 يونيو، 2025
بغداد/المسلة: ناجي الغزي
لم تكن مجزرة سبايكر، التي راح ضحيتها أكثر من 1700 طالب في القوة الجوية العراقية في يونيو 2014، ليست جريمة عابرة، بل لحظة كاشفة لسقوط الأقنعة. ولم تكن مجرد عملية قتل جماعي نفذتها أيادي غادرة، بل كانت نتيجة مباشرة لتحالفٍ شرير بين فلول البعث، وثوار العشائر و تنظيم داعش الإرهابي، والحواضن الاجتماعية السنية التي وفرت لهم غطاء الصمت والموافقة.
إن جريمة سبايكر لم تكن لحظة معزولة عن سياق الانهيار الأمني والسياسي، الذي خطط له مجموعة معروفة بحضورها في ساحات الاعتصامات, بل كانت نتيجة منطقية لحملة منظمة بدأت عام 2012 في الأنبار، حيث تم استخدام الاعتصامات كساحة لتجميع عناصر “النقمة السنية”، ومنصة للتهديد والوعيد، قبل أن تتطور لاحقاً إلى ظاهرة تسمى “ثوار العشائر”، ومنها إلى مشروع “دولة الخلافة”.
اعتصامات 2012.. الولادة السياسية للمجزرة
تحت ذريعة “المظلومية السنية”، تحوّلت ساحات الاعتصام في الأنبار وصلاح الدين ونينوى عام 2012–2013 إلى مراكز تجييش طائفي، رفعت فيها لافتات: “قادمون يا بغداد” و”الشيعة أبناء المتعة” و “سندخل إلى بغداد ونقطع الرؤوس” في هذه الساحات، ظهر الوجه الحقيقي للمشروع الذي كان يُحضّر، وهو إعادة إنتاج البعث تحت غطاء عشائري- ديني-جهادي، وبقيادة وتخطيط من شخصيات أمثال والهاشمي، والنجيفي، والخنجر، والعاني، والعلواني، والدليمي، والعيساوي، وخميس الخنجر، الذي لعب دوراً محورياً في تمويل الإعلام الموجه، وشراء الولاءات العشائرية، وتوفير الدعم اللوجستي والسياسي للحراك، بدعم مباشر من قنوات ومخابرات دول خليجية.
كان الهدف واضحاً: تقويض سلطة الدولة العراقية، وإسقاط حكومة نوري المالكي، التي كانت آنذاك تسعى إلى تثبيت الاستقرار، ومحاربة الفساد الاداري والمالي، واستعادة الامن في البلاد، بعد ان فتكت السيارات المفخخة والانتحاريين أسواق المدن الشيعية، والتجمهات ودور العبادة وغيرها.
ثوار العشائر- خدعة قاتلة وخيانة مفضوحة
في يونيو 2014، ومع سقوط مدينة الموصل، تقدمت مجموعات تحت مسمى “ثوار العشائر” إلى مدينة تكريت. لم يكن هؤلاء الثوار سوى بقايا ضباط الحرس الجمهوري والامن والمخابرات البعثية، وأبناء عمومة صدام حسين وأقاربه، وابناء وطبان وبرزان، وفلول عبد حمود، الذين استغلوا فوضى المرحلة وغياب التنسيق، لإيهام الجنود العراقيين بأنهم قوة عشائرية وطنية هدفها حقن الدماء.
وقد ثبت لاحقاً من شهادات أهالي الضحايا، أن الجنود في قاعدة سبايكر سلّموا أنفسهم لهؤلاء بعد أن قالوا لهم: “نحن ثوار العشائر وسنقوم بإعادتكم إلى أهلكم سالمين.”
لكن الحقيقة كانت أشد مرارة. فقد اقتيد الجنود إلى مجمع القصور الرئاسية لصدام، وتمت تصفيتهم بدمٍ بارد، وأُعدمت أجيال من خيرة شباب العراق على أيدي قتلة مجرمون يحملون رايات العشائر، وأرواحهم ملوثة بالكراهية والحقد الطائفي، وبصمتهم واضحة تمثل البعث الدموي.
الحواضن العشائرية – ومبايعة البغدادي
ليس سراً أن العديد من العشائر في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، بايعت “أبو بكر البغدادي” بعد إعلانه الخلافة، وبعضها زُينت منازل شيوخها برايات داعش السوداء. لقد وفروا الملاذ الآمن، وأمدوا التنظيم بالمقاتلين والدعم المالي والمعنوي، وسكتوا على المجازر التي ارتُكبت بحق الأبرياء، بحجّة “الثأر” من حكومة المالكي.
وهذه مسؤولية أخلاقية تقع أيضاً على المجتمع العشائري الذي لم يعلن براءته صراحة من الجريمة، بل التبس عليه موقفه بين من يعتبر ما جرى “رد فعل على الظلم”، وبين من يستمر بالترويج لفكرة أن سبايكر “عملية تمت بتواطؤ من الداخل”.
ورغم كل محاولات التشويه، فإن حكومة المالكي كانت الطرف الوحيد الذي وقف في وجه تمدد داعش قبل سقوط الموصل، وحذرت مراراً من خطر الحواضن، والتنسيق بين عناصر البعث والمجاميع المتطرفة. وقد سعى المالكي، خلال ولايتيه، إلى دعم القوات الأمنية، وإعادة بناء المؤسسات العسكرية، رغم معرقلات داخلية من البيت الشيعي والسني وخارجية شرسة من قبل الجوار الاقليمي.
بل إن أكثر ما يثير الغضب هو أن المالكي أُدين في بعض الخطابات الغربية والإعلام العربي بسبب “عدم استيعابه للعشائر”، بينما كان هو نفسه قد حذّر من استخدامها كحصان طروادة لبعث مشروع إقليمي يهدد وحدة العراق.
التمويل الخارجي والتحريض الإعلامي
جميع الدلائل تشير إلى دور خارجي منظم قاد عملية تشويه الحكومة الشرعية وتقديم “ثوار العشائر” كبديل، وهي عملية تبنّتها قنوات مثل الجزيرة والعربية، ومراكز بحث خليجية، ونشطاء مرتبطين بمشاريع خارجية.
المال الخليجي تدفّق عبر شخصيات مثل خميس الخنجر وغيره، لشراء الزعامات العشائرية، وتمويل “المجالس العسكرية” التي قاتلت الدولة العراقية، قبل أن تتماهي مع داعش لاحقاً. لم يكن ما جرى ثورة محلية، بل انقلاب إقليمي بالوكالة، نفذته أدوات محلية مغمّسة بثقافة الانتقام البعثي.
من يتحمل المسؤولية؟
الحكومة في بغداد آنذاك -برئاسة نوري المالكي- وُضعت في قفص الاتهام الشعبي، لكن من الناحية المؤسساتية، كانت القيادة المركزية تعتمد على تقارير ميدانية من ضباط وقادة المناطق، وهؤلاء إما انسحبوا دون قتال، أو تواطؤوا، أو سقطوا في أول صدمة، أو فقدوا السيطرة على الأرض. وبالتالي، فإن المسؤولية الميدانية تقع على القيادات العسكرية في صلاح الدين وتكريت، ممن تركوا الجنود وحدهم في مواجهة المجهول، بلا قيادة، بلا حماية، وبلا خط انسحاب آمن.
ولا يمكن فهم مجزرة سبايكر دون قراءة أعمق لطبيعة الاصطفاف السياسي والطائفي حينها. فقد استهدفت الجريمة في جانبها الخفي “هوية” الجنود القتلى، الذين تم تصنيفهم مسبقاً على أنهم “جنود شيعة”، يمثلون “جيش المالكي”، ولذلك جرى تصفيتهم بروح انتقامية، ومن خلال خطاب تكفيري وتحريضي يُجرّم الانتماء الطائفي. وما زاد من عمق المأساة هو تواطؤ صمت كثير من القوى السنية في وقتها، سواء بدافع الخوف أو التماهي مع السردية المعادية للدولة.
سبايكر جرح لم يُغلق
إن ما جرى في سبايكر ليس مجرد كارثة إنسانية، بل وصمة عار على جبين كل من دعم، موّل، أو برّر ثوار العشائر، أو تواطأ مع داعش ولو بالصمت.
إنصاف الضحايا لا يكون بتذكرهم في الذكرى السنوية، بل بكشف الحقيقة كاملة، وملاحقة جميع المتورطين سياسياً وعشائرياً وإعلامياً.
إن العدالة لضحايا سبايكر لا تتحقق فقط بمحاكمات لاحقة، بل بمراجعة جذرية للعقيدة العسكرية، وببناء ذاكرة وطنية شجاعة لا تخشى تسمية الأشياء بأسمائها، ولا تخفي القتلة خلف أقنعة “الثورة” أو “العشيرة” أو “الدين”. لقد كشفت سبايكر سقوط مشروع “الثورة العشائرية”، الذي لم يكن سوى فخ دموي لتمزيق العراق وإعادة إنتاج القتلة بوجوه جديدة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
سبايكر لم تنتهِ بعد شباب العراق بين رصاص الماضي وخنادق الحاضر
بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..
لم تكن مجزرة سبايكر عام 2014 مجرّد جريمة قتل جماعي بحق أكثر من 1700 شاب أعزل، بل كانت جرحاً مفتوحاً في قلب العراق، لم يندمل حتى اليوم. قد يكون الرصاص قد توقف في القصور الرئاسية بتكريت، لكن الموت الذي حصد أولئك الشباب ما زال يحصد أقرانهم بطرق أخرى البطالة، الهجرة، المخدرات، السجون، الجهل، وفقدان العدالة.
الشهداء الذين وقعوا ضحية الغدر في سبايكر، كانوا يمثلون أحلاماً شبابية بوظيفة، وأمان، ومستقبل. واليوم، آلاف الشباب العراقيين يعيشون ذات الإحباط والخذلان، وكأن المجزرة تتكرر كل يوم، لا بالجثث، بل بضياع الحياة.
في وطن يعاني من بطالة تتجاوز نسبها 40% بين الشباب، أصبح الشارع العراقي مزدحماً بالخريجين الباحثين عن فرصة عمل، أو عن أمل ضائع. العشرات يطرقون أبواب الوزارات والمؤسسات الحكومية دون مجيب، فيما يتحول البعض إلى ضحايا الجريمة المنظمة، أو يهاجرون عبر البحار طلباً لحياة لم يجدوها هنا أما السجون، فقد غصّت بشباب أوقعهم الفقر في براثن الجريمة أو دفعهم الإهمال نحو طرق لا يعرفون عواقبها. كثيرون يُعتقلون بلا محاكمات عادلة، وبعضهم ضحايا المخدرات، التي أصبحت تهدد جيلًا بأكمله، في ظل غياب واضح لدور الدولة في المواجهة الحقيقية.
والجهل ما يزال أحد أخطر أوجه الاستمرار غير المعلن لمجزرة سبايكر. فالتعليم الذي كان طريقاً للنجاة، بات عبئاً ثقيلاً على عائلات لا تملك ثمن النقل أو القرطاسية. وتراجع المستوى التربوي والأكاديمي أفرغ الجامعات من مضمونها، وترك آلاف الشباب بلا أفق.
في هذا المشهد القاتم، من حقنا أن نسأل هل انتهت سبايكر؟ أم أنها أخذت شكلاً جديداً أكثر خفاءً وهدوءاً، لكنه لا يقل فتكاً؟
إن المسؤولية لا تقع فقط على الحكومات المتعاقبة، بل على المجتمع بكل مكوناته. نحتاج إلى مشروع وطني يعيد بناء ثقة الشباب بوطنهم، ويحول آلام الماضي إلى قوة تغيير. فلا عدالة لدماء الشهداء إذا ظل أقرانهم يموتون يومياً على قارعة الإهمال.
مجزرة سبايكر لم تكن نهاية، بل بداية فصل طويل من المعاناة. ولن تُطوى صفحتها حتى نضمن أن لا يُدفن شباب العراق مرة أخرى، لا في حفرة جماعية، ولا في صمت المؤسسات.
ختاما إنها ليست مجرد ذكرى، بل قضية حياة أو موت لوطن بأكمله.
انوار داود الخفاجي