د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **

 

بينما يُصارع العالم تداعيات التضخم، من ارتفاع فواتير البقالة والكهرباء والماء إلى ارتفاع تكاليف إيجار السكن، يبرز سؤال جوهري واحد فوق كل اعتبار: ما الذي تعلمناه من كل ذلك؟

التضخم ليس مجرد مفهوم مالي عابر أو خبر مقتضب في نشرة الأخبار المسائية. إنه قوة لا يمكن تجاهلها تمس كل جانب من جوانب حياتنا اليومية؛ يتأثر به الكبير والصغير والغني والفقر والعامل والباحث عن عمل والرجل والمرأة والمواطن والمقيم.

إنه قوة تُعيد تشكيل طريقة تفكير الناس وتصرفهم وإنفاقهم في صمت وبشكل تدريجي وإجباري في كثير من الأحيان. وبينما يُناقش الاقتصاديون وخبراء السوق الأسباب الكامنة وراء التضخم وارتفاع الأسعار- مثل: اضطرابات سلاسل التوريد، والتوترات الجيوسياسية، والتعافي بعد الجائحة- يُترك الناس العاديون ليواجهوا عواقب التضخم ودفع ثمنها. ومع ذلك، يكمن في هذه المحنة درس قيّم، غالبًا ما يُغفل عنه ألا وهو: ضرورة إعادة النظر في فهمنا للقيمة.

لعقود من الزمن، ربط الكثير منا القيمة بالسعر. إذا كان الشيء غالي الثمن، فلا بد أنه ذو جودة يستحق ثمنه؛ فالسيارة التي تبلغ قيمتها 50 ألف ريال تعني الجودة والفخامة، والهاتف النقال الذي يبلغ ثمنه 700 ريال يعني امتلاكه المكانة الاجتماعية والبرستيج، وامتلاك فيلا في وسط المدينة تعني النجاح والرقي. لكن مع ارتفاع الأسعار، تبدأ هذه المعادلة بالانهيار. لقد أزال التضخم وهم ربط التكلفة العالية بالقيمة والجودة العالية. حيث أصبح المتسوق العادي يٌفكر مرتين، ويتردد ويقارن قبل القيام بأي عملية شراء.

هذا التحول لا يقتصر على التوفير فحسب، بل يتعلق بالوعي. بدأ الناس يطرحون أسئلة أكثر عمقاً: هل أحتاج لشراء هذا حقًا؟ هل يستحق هذا الثمن؟ ما هي فوائده على المدى الطويل؟ هذه ليست أسئلة مالية فحسب، بل أسئلة فلسفية أيضًا. لقد أحدث التضخم، بطريقة غير مقصودة، ثورة هادئة في كيفية قياس الرضا والنجاح.

إن ازدهار الأسواق والمنتجات المحلية ما هو إلا نتاج لهذا الوعي في تفكير وسلوك الناس؛ وذلك بسبب ابتعاد الناس عن شراء السلع والماركات المستوردة الباهظة الثمن ويتجهون نحو المنتجات المنتجة محليًا، ليس فقط لأنها أرخص، ولكن لأنها أكثر استدامة، وتدعم الشركات الصغيرة الوطنية، وتعيد ربط المستهلكين بمجتمعهم. بمعنى آخر، لم تعد القيمة مالية فحسب، بل اجتماعية وبيئية ووطنية.

وينطبق الأمر نفسه على كيفية استغلالنا لوقتنا. مع ارتفاع الأسعار وتضييق الميزانيات، يُعيد الكثيرون النظر في كيفية قضاء ساعات عملهم. يختار البعض قضاء وقت أطول مع عائلاتهم بدل الجلوس في المقاهي التي تستنزف ميزانياتهم. ويتعلم آخرون الطبخ في المنزل بدلاً من تناول الطعام في الخارج، حيث وجدوا متعة أكبر في روتين أبسط وأقل تكلفة. تُعدّ إعادة ترتيب الأولويات أحد أهم الهبات وفوائد التضخم الصامتة: فهي تُجبرنا على إعادة اكتشاف معنىً يتجاوز المال.

ولكن لعلّ أهم درس هو أن الهشاشة الاقتصادية ليست مُوزّعة بالتساوي؛ فبينما يُثقل التضخم كاهل الجميع، فإنه يُثقل كاهل الأفقر. فقد ارتفعت أسعار السلع الأساسية، كالغذاء والوقود والإيجار، بشكل غير متناسب مع الدخل، وضاقت فرص القدرة على توفير سبل الحياة الدنيا بالنسبة للعديد من العائلات. لذا ينبغي أن يحثّنا هذا الواقع ليس فقط على التكيف شخصيًا، بل على الدعوة جماعيًا - من أجل أجور أكثر عدالة، وشبكات أمان وحماية اجتماعية أقوى، وسياسات تُعطي الأولوية لرفاهية الأغلبية، لا لاستقرار الأسواق فحسب.

يجب على الحكومات والمؤسسات أيضًا أن تُدرك ذلك؛ فالتضخم ليس مجرد إشارة اقتصادية عابرة؛ بل هو اختبار ضغط مجتمعي. يكشف التضخم عن نقاط ضعف في الأنظمة والسياسات العامة، ويكشف عن عدم المساواة، ويطالب بالمساءلة. إذا استجاب القادة بتعاطف وبصيرة، فقد تصبح هذه اللحظة نقطة تحول. ولكن إذا ركزوا فقط على الحلول التقنية والاقتصادية من خلال رفع أسعار الفائدة، وتعديل السياسات المالية؛ إذ إنهم يخاطرون بإغفال الرسالة الأعمق التي يُرسلها التضخم.

في النهاية، قد ينحسِر التضخم، كما يحدث في جميع الدورات الاقتصادية في نهاية المطاف. ستستقر الأسعار، وستتغير العناوين الرئيسية، وستتحرك الأسواق وتنشط. ولكن لا ينبغي نسيان الدروس التي يتركها وراءه. لقد تعلمنا أن القيمة الحقيقية لا تقاس دائمًا بالسعر. لقد رأينا أن المرونة لا تُبنى على الاستهلاك، بل على التواصل ووضوح الهدف. وتذكرنا أنه عندما يتغير الاقتصاد، يجب علينا أن نتغير أيضًا ونتكيف، ليس بدافع الذعر والخوف، ولكن من منظور مستقبلي.

وفي الختام.. علينا أن نتذكر أنه في عصر التضخم والغلاء وتذبذب الأسواق، قد لا تكون أعظم عملة هي المال على الإطلاق؛ بل الحكمة والقدرة على التكيف وترتيب الأولويات.

** باحث أكاديمي

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بعد دعمها الخفي لإسرائيل.. انتقادات لمنصة Mubi السينمائية

أثارت منصة «Mubi» السينمائية المستقلة، التي طالما حازت على إعجاب عشاق السينما البديلة، موجة واسعة من الغضب واتهامات أخلاقية بعد الكشف عن تلقيها استثمارا بقيمة 100 مليون دولار من شركة «Sequoia Capital»، وهي شركة تمويل مرتبطة بشكل مباشر بشركة إسرائيلية ناشئة في مجال تكنولوجيا الدفاع تدعى Kela.

تأتي هذه الأنباء في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ما فجّر موجة من الانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث دعا كثيرون إلى مقاطعة المنصة وإلغاء اشتراكاتهم، ووضعت على قائمة المقاطعة «BDS».

وشركة «Sequoia Capital» التي مولت شركة (Kela) العام الماضي بقيمة 10 ملايين دولار - ضاعفت استثماراتها هذا العام، ضمن دفعة جديدة وصلت إلى 60 مليون دولار.

وتعمل «Kela» التي أسسها ضباط سابقون في وحدات استخبارات إسرائيلية - على تطوير نظام تشغيلي ميداني يستخدم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا التجارية لدعم الجيوش في العمليات القتالية، تحديدا بعد أحداث 7 أكتوبر وبدء العدوان الإسرائيلي على غزة.

وبرغم أن (Mubi) نشرت بيانا تحاول فيه التبرؤ من مواقف شركائها، مؤكدة أن "معتقدات المستثمرين لا تعكس قيم المنصة"، إلا أن هذا التبرير لم يقنع جمهورها، خاصة أن هذه الخطوة تتناقض تماما مع هوية المنصة الثقافية التي لطالما احتفت بأفلام فلسطينية وأعمال مناهضة للقمع.

اقرأ أيضاً«رزق الهبل».. الفنانة منى زكي تتصدر التريند لهذا السبب

فيلم المشروع X بطولة «كريم عبد العزيز» يتصدر شباك تذاكر السينما

مقالات مشابهة

  • براءة بعد الإدانة.. 5 حالات تُمكّنك من إعادة النظر في حكم قضائي نهائي
  • مدرب إنتر ميامي: كنا الأفضل ولكن الحظ لم يكن من نصيبنا في تحويل الفرص لأهداف
  • كشف أسرار الجانب الخفي من الشمس
  • ترامب: لسنا منخرطين في التصعيد بين إسرائيل وإيران ولكن من الممكن أن ننخرط
  • بعد دعمها الخفي لإسرائيل.. انتقادات لمنصة Mubi السينمائية
  • اشرف داري.. قدمنا مباراة جيدة أمام إنتر ميامي.. ولكن الحظ لم يحالفنا لتحقيق الفوز
  • 5 حالات يجب توافرها لإعادة النظر في الأحكام القضائية النهائية.. تفاصيل
  • محللة اقتصادية: انخفاض الأنشطة النفطية لا يعني إعادة النظر في رؤية 2030 .. فيديو
  • مجمع إرادة: التوتر اضطراب طبيعي ولكن استمراره دون تدخل يكون ضارًا