جمعينا نتذكر الأنشطة الكشفية التي كانت أهم مصادر التعلم بالممارسة، ولا تخلو ذكريات أيام المدرسة منها. ومع التطورات الهائلة في العلوم والمعرفة تعود الطريقة الكشفية؛ لتلهم العملية الابتكارية أيضاً، وتتموضع بين أهم الفاعلين في منظومات الابتكار. إذ يؤدي «كشّافة التكنولوجيا» دوراً رئيسياً في تقليص الفارق الزمني بين التقدم التكنولوجي، ومجالات تطبيقه، واكتساب القيمة الاقتصادية.

فهل نجحت الأنشطة الكشفية في عبور نطاق تأثيرها الذي اقتصر على المرحلة المدرسية سابقاً، لتأخذ أدواراً لا تقل أهمية في نقل التكنولوجيا، وتحفيز الابتكار؟

في الواقع تُثبت لنا منظومات الابتكار باستمرار بأنها جزء أصيل من حياة الإنسان، والاقتصاد، وبذلك هي تتأثر وتستفيد من جميع التجارب الإنسانية. ففي بيئة تتزايد فيها التعقيدات التكنولوجية، وعولمة البحث، والتطوير، والابتكار، تتزايد كذلك أهمية إزالة الحدود بين مختلف المهارات، والمعارف، وتمكين الاستفادة من الخبرات العديدة والمتنوعة التي لم يظن أحد يوماً بأنها قد تحمل إسهامات قيَّمة في الابتكار. إذن دعونا نتوقف هنا عند أهم المهارات المرتبطة بالأنشطة الكشفية، والتي تسهم بشكل مباشر في دعم وتمكين منظومات الابتكار. فمنتسبو الكشافة يطورون مهاراتهم عن طريق التعلم التطبيقي الذاتي، والكشَّاف يتحدى قدراته وينميها باستمرار، وهي مهارة أساسية لجميع الفاعلين في الابتكار. وإذا تأملنا واقع التحديات التي تواجه العملية الابتكارية نجد أن الصعوبة الحقيقية تكمن في نقل التكنولوجيا من الجهات المنتجة للمعرفة، والتقنيات إلى الصناعة، والمؤسسات الإنتاجية؛ ولذلك سعت منظومات الابتكار إلى هيكلة وسطاء المعرفة لدعم النقل الفعال للتكنولوجيا، فظهرت أشكال مختلفة من مكاتب نقل التكنولوجيا، وكذلك تُطلق المؤسسات البحثية مسارات الزمالة الصناعية؛ لضمان الانتقال السلس للمعرفة بين القطاعين الأكاديمي والصناعة، ولكن الأثر الفعلي لتطبيق هذه الحلول أظهر فجوات عديدة.

ومن أجل فهم ومعالجة هذه المعضلة لا بد أولاً من الإشارة إلى النقطة الحاسمة التي أدت إلى عدم كفاءة وسطاء المعرفة التقليديين، وأسهمت بالتالي في التقليل من العوائد التقنية، والاقتصادية، والتجارية، والاجتماعية المتوقعة من نقل التكنولوجيا؛ حيث تتطلب ترجمة الابتكارات إلى منتجات أو خدمات ناجحة تجاريًا درجة متوازنة من الجاهزية المشتركة بين التكنولوجيا من جهة، والقدرة الاستيعابية للسوق من جهة أخرى. وتحديد هذه الجاهزية توجب مستويات عالية من رأس المال المهاري، والاجتماعي اللذين يمثلان محددات بالغة الأهمية لنجاح عملية نقل التكنولوجيا، مع الأخذ في الاعتبار أن دور وسطاء المعرفة يجب ألا يقتصر على تحقيق استفادة الطرف المتلقي وحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى الإلمام بمتطلبات جميع الجهات المستفيدة، ثم توجيه منتجي المعرفة لإعادة صناعة المعرفة المطلوبة، وهذه العملية تعرف رسمياً باسم التدفق العكسي للمعرفة. ولكن تحقيق هذه الميزة غير متاحة لدى مكاتب نقل التكنولوجيا بحكم طبيعة مهامها التي تعمل بشكل خطي في التشبيك بين القطاعات الأكاديمية والبحثية والقطاع الصناعي.

ومن هنا بدأ البحث عن المهارات المثالية لوسطاء المعرفة بعيداً عن الهياكل المؤسسية الرسمية. وإذا أسقطنا متطلبات النقل الفعال للتكنولوجيا على سياقات التجارب الحياتية المختلفة نجد أن مهارات الكشافة تتطابق مع هذه المتطلبات؛ فالهدف العملي من نقل التكنولوجيا هو التسويق للابتكارات، وإيصالها إلى الجهات المستفيدة، ثم تحليل مستوى جاهزية الطلب على هذه الابتكارات، وإيصال الفرص إلى الجهات المنتجة. وهذه الأدوار تضمن فعالية نقل التكنولوجيا من خلال اعتماد مقاييس النتائج، ومعايير المرونة والتكيف في مرحلة ما قبل إنتاج التكنولوجيا وما بعدها. وهذا أمر لافت للنظر؛ لأنه حتى في غياب وحدات نقل التكنولوجيا داخل الجامعات، والمؤسسات البحثية، والابتكارية نجحت الجهود الابتكارية في استحداث قنوات أخرى لنقل المعرفة إلى الصناعة، مثل توظيف خريجي الكليات العلمية المشاركين في المشاريع البحثية، أو إيفاد الباحثين من ذوي الخبرة العالية إلى الشركات التكنولوجية، والقطاع الصناعي.

وهنا يأتي دور كشافة التكنولوجيا الذين يمثلون شريحة المبتكرين الشباب، والذين يمكنهم تحقيق فوائد التدفق العكسي للمعرفة الناتجة عن التفاعل بين جانب العرض والطلب، وبذلك تكتسب هذه العملية دوراً معززاً لاستمرار بناء المعرفة، والتقنيات الجديدة. وقد بادرت العديد من الدول ذات التصنيف العالي في مؤشر الابتكار العالمي - مثل ألمانيا وسنغافورة - إلى إدماج كشافة التكنولوجيا ضمن الفاعلين في منظومات الابتكار، وذلك ضمن عملية أطلق عليها اسم «رادار التكنولوجيا». وتمكنت هذه الدول من تحقيق نتائج ملموسة في تعزيز الابتكارات الموجهة لحل تحديات الصناعة. ولا يُشترط أن يضم كشَّافة التكنولوجيا أفراداً قد انتسبوا فعلياً للنشاط الكشفي أثناء فترة التعليم المدرسي، وإنما القصد تأسيس جيل جديد من وسطاء المعرفة بحيث يمتلك المهارات الحياتية المعقدة للكشافة، والتي تتضمن قدرات التواصل، والاعتماد على النفس، واتخاذ القرار المناسب دون الحاجة إلى التوجيه المستمر، والتكيف مع التغييرات، والإصرار الإيجابي في مواصلة المحاولات لتحقيق الأهداف والمهام المتوقعة. وفي المجمل يتحلى كشافة التكنولوجيا بنفس سمات ومهارات الكشافة، ولكن في سياق التحديد المبكر للتقنيات، والاتجاهات التكنولوجية التي تحل التحديات القائمة في القطاع الصناعي، ثم تقدير المخاطر، وتعريف الفرص الاستراتيجية، وإمكانات الاستثمار في مخرجات الابتكارات.

تتطلب الأهمية المتزايدة لتوظيف المعرفة العلمية، والابتكارات التكنولوجية في الإنتاج والاقتصاد استحداث أدوات جديدة لبناء علاقات أوثق بين الأوساط الأكاديمية، والصناعة. وتأتي الاستعانة بكشَّافة التكنولوجيا في مقدمة هذه الأدوات التي تمنح أدواراً مركزية للمبتكرين الناشئين الذين يمتلكون مهارات الكشافة، بالإضافة إلى تفوقهم العلمي والتقني، وهذا بحد ذاته يمنح المرونة للجهات المنتجة للتقنيات في استقطاب هؤلاء الكشَّافة، والاستفادة من مهارات كامنة، ولكن في ذات الوقت مصيرية لإنجاح عملية نقل التكنولوجيا، وتتطلب الاستعانة بكشافة التكنولوجيا إتاحة مجموعة من الحوافز؛ مثل المشاركة في مشروعات تطويرية، أو تقاسم المنافع من المخرجات الابتكارية. كما أن وجود كشافة التكنولوجيا في المشهد الابتكاري سوف يسهم في تأصيل مهارات العمل الكشفي ضمن أدوار الفاعلين في منظومات الابتكار، والتجسير بين منتسبي الأنشطة الكشفية في المراحل التعليمية المبكرة، وبين اختيار التخصصات العلمية والهندسية في المستقبل، وخلق توقعات واقعية لأدوار غير تقليدية في نقل المعرفة، وريادة الأعمال العلمية والتكنولوجية.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: نقل التکنولوجیا الفاعلین فی

إقرأ أيضاً:

منظومات الدفاع الإسرائيلية تقصف نفسها / فيديو

#سواليف

تداولت منصات إعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، اليوم الإثنين، مقاطع فيديو تُظهر فشلًا غير مسبوق في عمل #منظومات_الدفاع_الجوي الإسرائيلية، خلال التصدي للموجة الجديدة من #الهجمات_الصاروخية الإيرانية التي استهدفت مناطق واسعة داخل إسرائيل، فجر اليوم.

وبحسب ما ورد، فقد أظهرت اللقطات لحظة إصابة منصة دفاعية إسرائيلية بصاروخ من نظام “حيتس-3” المضاد للصواريخ، بعد أن فشل في العمل كما هو مخطط، ما أدى إلى #تدمير_المنصة نفسها في صحراء النقب نتيجة خلل فني أو استجابة خاطئة من النظام.

نيفاتيم .. منظومات الدفاع الإسرائيلية تقصف نفسها بعد فشلها في صد صواريخ إيران pic.twitter.com/tM95WjMzPV

مقالات ذات صلة شواغر وظيفية ومدعوون للتعيين 2025/06/16 — fadia miqdadai (@fadiamiqdadi) June 16, 2025

وأشارت التقارير إلى أن الصواريخ الإيرانية من نوع “جو-جو” تمكنت من تجاوز الشبكة الدفاعية الإسرائيلية، ما تسبب في إرباك المنظومة متعددة الطبقات، وأدى إلى اشتباك بعض الأنظمة الدفاعية مع بعضها البعض في لحظة نادرة الحدوث.

جاء ذلك عقب البيان رقم 6 للحرس الثوري الإيراني ضمن عملية “الوعد الصادق 3″، الذي أكد فيه تنفيذ موجة هجومية أشد دمارًا باستخدام تقنيات قتالية ومعلوماتية متقدمة استهدفت مراكز القيادة والسيطرة في إسرائيل.

وأدى الهجوم الإيراني الواسع إلى سقوط 4 قتلى على الأقل، بالإضافة إلى عشرات الإصابات والمفقودين، بينما أظهرت مقاطع أخرى حالة فوضى في تل أبيب وحيفا والقدس الغربية وإيلات جراء الصواريخ الدقيقة، وسط صمت رسمي إسرائيلي ورقابة عسكرية مشددة على التغطية الإعلامية.

اللقطات المنتشرة أثارت موجة من الانتقادات الداخلية والخارجية لأداء القبة الحديدية ومنظومات الدفاع الإسرائيلي الأخرى، ما قد يشير إلى تحولات في التوازن العسكري والاستراتيجي في حال استمرار الهجمات الدقيقة بهذا النطاق.

فشل إطلاق منظومة الدفاع الجوي الصاروخي " حيتس 3" في قاعدة نيفاتيم الجوية الإسرائيلية. pic.twitter.com/B0msceBZyM

— رؤى لدراسات الحرب (@Roaastudies) June 16, 2025

مقالات مشابهة

  • الجامعة الإسلامية تُطلق مبادرة “التعاون الدولي” لتحفيز الابتكار في الأبحاث العلمية
  • اليوم.. إغلاق باب التسجيل في هاكاثون الابتكار البلدي بأمانة الباحة
  • دوي انفجارات في طهران والأهواز ومشهد وقرب نطنز
  • جائزة الإمارات للطاقة.. منصة عالمية لدعم الابتكار
  • إعلان عن فقدان شهادة جامعية
  • منظومات دفاع الكيان تقصف نفسها!
  • منظومات الدفاع الإسرائيلية تقصف نفسها / فيديو
  • ما هي منظومات الدفاع الإسرائيلية التي تواجه صواريخ إيران؟
  • جيش الاحتلال: استهداف مقر "منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية الإيرانية" في طهران