لا تسير الهويات في خطوط مستقيمة في مدونة التاريخ الإسلامي، ولا تحدد الانتماءات بحدود الجغرافيا أو مواضع الميلاد كما هي الحال في أنظمة الجنسيات الحديثة. فقد نجد عالما كبيرا ينسب إلى مدينة لم يولد فيها، أو يشتهر باسم موطن لم يدفن فيه، أو يعرف ببلد لم يعش فيه إلا يسيرا من عمره. وذلك لأن العلاقة بين الإنسان والمكان في الحضارة الإسلامية لم تكن مجرد علاقة نشأة أو إقامة، بل كانت علاقة علم وسند ومدرسة، ومنزلة في التصنيف والانتساب.

لقد شكل نظام النسبة في الإسلام أحد أبرز ملامح التكوين العلمي والثقافي، حيث لم تكن الأنساب مقتصرة على الدماء، ولا كانت الانتماءات قاصرة على التراب، وإنما كانت المدن والحواضر رموزا للمدارس والمناهج، وأسماء البلاد شواهد على البيئة العلمية التي ينتمي إليها صاحبها. فالعالم قد ينسب إلى بلده الأصلي، أو إلى موطن آبائه، أو إلى المكان الذي طلب فيه العلم، أو حيث اشتهر وتفرد في حلقاته، أو حيث نقل عنه الحديث وروي علمه.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2طهران تحت النار: كيف تحولت المساحات الرقمية إلى ملاجئ لشباب إيرانlist 2 of 2اكتشاف ساعة شمسية نادرة في بوابة القوقاز والأناضولend of list

ومن هذا الباب، تأتي دراسة علمية بعنوان "صنعانيون، ولكن من دمشق" للأستاذ الدكتور عبد العزيز الصغير دخان، المنشورة في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1431هـ/2010م، لتفتح نافذة نادرة على ظاهرة ثقافية وعلمية مدهشة ومغفلة في آن معا: علماء حديث نسبوا إلى صنعاء، وهم في الواقع عاشوا في دمشق، أو ولدوا بها، أو قضوا عمرهم في مجالسها، وأفادوا منها وأفادوها.

هذه النسبة لا تعني خطأ في كتب التراجم، ولا تعكس وهما في التوثيق، وإنما تمثل امتدادا حيا لنظام النسبة في الثقافة الإسلامية، حيث لا ينظر إلى المكان بوصفه مجرد موقع ميلاد، ولكن باعتباره رمزا لهوية علمية، أو انتسابا إلى مدرسة، أو ارتباطا بسلسلة إسناد ومرجعية فكرية.

حي البرامكة في دمشق شهد وفود علماء من صنعاء قديما (غيتي) "صنعاء دمشق" هجرة الأسماء وإقامة الذاكرة

تكشف الدراسة عن مفارقة تاريخية نادرة قلما التفت إليها الباحثون، وهي وجود موضعين يحملان الاسم نفسه "صنعاء"، لكن أحدهما في قلب اليمن والآخر في غوطة دمشق. ليست المفارقة في التشابه الاسمي فحسب، بل فيما ترتب عليه من التباس علمي وثقافي في كتب التراجم والأنساب، حيث اختلطت النسبة بين صنعاء اليمن وصنعاء الشام، وأدى ذلك إلى إسناد بعض العلماء إلى صنعاء اليمن بينما هم في الأصل من بلاد الشام، وبالتحديد من قرية "صنعاء دمشق" التي اندثرت لاحقا.

إعلان

صنعاء اليمن كانت ولا تزال العاصمة التاريخية للبلاد، ومركزا من مراكز العلم والفقه والحديث، ارتبط اسمها بكبار العلماء، وعلى رأسهم الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ)، أحد كبار المحدثين في القرن الثاني الهجري، وصاحب "المصنف"، أحد أشهر كتب الحديث. وقد رسخ عبد الرزاق ومن جاء بعده من علماء اليمن النسبة إلى صنعاء كعلم على مرجعية علمية سنية متينة، أسهمت في تدوين الحديث ونقله إلى أصقاع العالم الإسلامي.

أما صنعاء دمشق فهي قرية صغيرة في غوطة دمشق، استوطنها قوم من اليمانيين القدماء الذين انتقلوا إلى الشام في فترات مختلفة، وسموها تيمنا ببلدتهم الأصلية، في تعبير واضح عن الحنين والاعتزاز بالانتماء. وصفها العلامة محمد كرد علي بأنها من القرى التي نزلها اليمنيون في دمشق، وكانت تقع بين "المزة" و"رتل الثعالب"، وقد أقيم فيها مسجد يعرف بمسجد "خاتون".

وكتب عنها الصحفي عيسى فتوح في مجلة الإكليل (1983) مؤكدا أنها عرفت بعناية خاصة بعلم الحديث، وكان لها شأن علمي قبل أن يندثر اسمها مع الزمن. أما المحقق محمد أحمد دهمان فأشار إلى أن القرية تحولت في القرن السادس الهجري إلى مزرعة، ولم يبق من آثارها إلا بساتين تروى من نبع المنيبيع، من دون معالم سكانية بارزة.

ويذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أن غوطة دمشق كانت تضم عشرات القرى التي اندثرت أسماؤها، ومنها قرية "صنعاء" التي لم يحدد موقعها بدقة، لكنها كانت مأهولة في بعض القرون ثم انقرضت.

وقد سجل الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي الشافعي (ت 841هـ) في كتابه نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس ما يؤكد وجود هذه النسبة الشامية، إذ قال: "صنعاء هي ممدودة، قاعدة اليمن. ولهم صنعاء أخرى بدمشق، وهي المنيبيع أو بقربها، والنسبة إليها صنعاني بالنون".

وهذا النص يوضح أن النسبة إلى "صنعاء" لم تكن حكرا على اليمن، ولكنها كانت تطلق أيضا على من سكن القرية الشامية، وهو ما يفتح بابا لتأمل عميق في معنى الانتماء المكاني في الثقافة الإسلامية، وكيف أن الأسماء قد تعبر الحدود وتنتقل مع ساكنيها إلى بلاد جديدة، وتعيد تشكيل الذاكرة في المكان الجديد.

وعند التخوم الغربية لدمشق، خارج أسوارها القديمة، تقف منطقة حي البرامكة اليوم حيا نابضا بالجامعات والمؤسسات والطرقات المتشابكة، لكنها تخفي تحت إسفلتها اسما غابرا يكاد ينسى: "صنعاء دمشق" في كتب الجغرافيين ورواة المدن، تذكر هذه الأرض بأنها كانت قرية صغيرة في العهد الأموي، استوطنها قوم من اليمانيين الذين ارتحلوا من صنعاء اليمن، فاستعادوا في المنفى الجغرافي اسم الموطن، وأطلقوا على مستقرهم الجديد اسم مدينتهم الأولى: صنعاء. كان ذلك تثبيتا للهوية في وجه المسافة، ومحاولة لزرع الذاكرة في تربة غريبة.

لكن الاسم لم يبق، فعبر قرون من التحول، أعيدت تسمية المكان إلى "تل الثعالب"، ثم إلى "البرامكة"، نسبة إلى مقبرة آل برمك التي كانت قائمة هناك، لتتحول لاحقا إلى حي عمراني حيوي يضم مرافق تعليمية وإدارية بارزة.

وتوضح موسوعة ويكيبيديا والموسوعة الدمشقية أن حي البرامكة الواقع غرب دمشق كان يعرف في العهد الأموي باسم "صنعاء دمشق" أو "صنعاء الشام"، وسكنه قوم من اليمنيين الذين أطلقوا على موضعهم الجديد اسم موطنهم الأصلي. ومع الوقت تغير الاسم، كما تغيرت معالم المكان، فاختفى الاسم القديم تحت طبقات الذاكرة، لكن ظلاله لا تزال حاضرة في خرائط البحث التاريخي والمعرفي. وخلاصة ذلك:

إعلان

من الناحية الجغرافية تعرف هذه المنطقة الغربية حتى اليوم باسم حي البرامكة، ومن الناحية التاريخية كانت تعرف بـ"صنعاء دمشق"، نتيجة استيطان اليمانيين في غوطة دمشق. أما من الناحية الثقافية فقد ظل الاسم القديم محفوظا في كتب التراجم والمصادر الجغرافية، شاهدا على انتقال الاسم والهوية مع الإنسان.

لم تنتقل صنعاء إلى دمشق بوصفها مجرد اسم منسي، بل كانت قرية حقيقية زرعها القادمون من اليمن على أطراف المدينة. ومع مرور الزمن، تغير الاسم وذابت معالمها في زحام الأحياء، لكن من يبحث في تاريخ المكان سيجد فيها شاهدا حيا على تشكيل الهجرة للجغرافيا، وكيف تترك الأقدام الراحلة أسماء تعيش بعد اختفاء أصحابها.

دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" تكشف حالة "صنعاء الدمشقية"، حيث تعبر الأسماء الحدود وتعيد تشكيل الذاكرة (غيتي) علماء "صنعانيون" في الشام.. شواهد من التاريخ

تشير الدراسة إلى عدد من العلماء الذين حملوا النسبة إلى "صنعاء" رغم أن نشاطهم العلمي وإقامتهم الدائمة كانت في بلاد الشام، وتحديدا في دمشق. وهذا ما يؤكد فكرة "النسبة العابرة للجغرافيا" التي تجعل من الموطن العلمي أو الأصل القبلي أو الانتساب الروحي إلى مدينة أو بيئة معينة مرجعية لنسبة العالم، ولو لم يعش فيها فعليا.

ومن أبرز هؤلاء العلماء:

حفص بن عمر بن ميمون العدني ويقال له الصنعاني: كان يلقب بالفرخ، وأصله من عدن، لكنه استقر في دمشق، وبرز فيها راويًا ومحدثا، وأخذ عنه جمع من العلماء. وقد أكسبه ارتباطه بمدينة صنعاء (أو بمسقطه في الجنوب اليمني عموما) نسبته هذه، رغم إقامته ووفاته في الشام، حيث عدّ من أهلها رواية ومقاما. أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الصنعاني الدمشقي: وصف بأنه من أهل دمشق، وتلقى عنه الإمام الدارقطني، أحد كبار المحدثين في القرن الرابع الهجري. وتبرز هذه الرواية قيمة الرجل العلمية في بيئة شامية خالصة، رغم حمله للنسبة "الصنعانية". أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الصنعاني: من المحدثين المعروفين بالشام، اشتهر بعلوم الرواية، ويحتمل أن تكون نسبته إلى صنعاء بسبب انحداره من أسرة يمنية الأصل، أو سكنه في قرية "صنعاء" الدمشقية. أبو العباس أحمد بن عبد الله الصنعاني: أحد مشايخ دمشق المعروفين في مجال الحديث، عرف بحضوره في حلقات العلم والرواية، مما يؤكد تشكله العلمي في الشام. أبو بكر محمد بن إسماعيل الصنعاني: ورد اسمه في طبقات الشافعية للسبكي، دلالة على حضوره في الفقه، وهو دليل إضافي على عمق الامتزاج العلمي بين الهوية اليمنية الأصلية والبيئة الشامية المقيمة.

كذلك أوردت الدراسة مجموعة من الرواة ممن حملوا النسبة إلى "صنعاء"، وتدل الشواهد التاريخية على أن معظمهم من "صنعاء دمشق"، ومنهم:

إبراهيم بن عمرو الصنعاني. حجاج بن شداد الصنعاني. حفص بن ميسرة الصنعاني. حنش بن عبد الله الصنعاني. راشد بن داود الصنعاني. سعيد بن يوسف الرحبي الصنعاني. شراحيل بن مرثد الصنعاني. عبد الملك بن محمد الصنعاني. يحيى بن مبارك الصنعاني. يزيد بن يوسف الرحبي الصنعاني.

وجميع هؤلاء من رواة الحديث الذين وردت أسماؤهم في مصادر أهل السنة، بعضهم رواه أئمة كبار كابن ماجه والنسائي وابن حبان. وقد تفاوتت درجات التوثيق لهم؛ فمنهم من كان حديثه صحيحا، ومنهم من تكلم في روايته، لكن المشترك بينهم هو ثبوت أسمائهم ونسبهم في كتب الحديث والتراجم، وهو ما يدل على حضورهم العلمي في البيئة الشامية، رغم النسبة "الصنعانية".

وتكمن أهمية هذه الشواهد في أنها تبرهن على أن النسبة في التاريخ الإسلامي ليست مجرد علامة على مسقط الرأس، بل هي مؤشر دلالي عميق يتصل بالسند والمذهب والمقام العلمي، ويعكس في الوقت ذاته حركة انتقال العلم والأعلام بين الأقاليم الإسلامية في تناغم حضاري نادر.

أن ينسب عالم إلى صنعاء وهو يروي في دمشق، أو يلقب بالبغدادي وهو يتصدر حلقات الأندلس، لم يكن خللا في التراجم، بل علامة على ديناميكية الهوية الإسلامية (غيتي) دلالات النماذج.. ما الذي تكشفه؟

تكشف النماذج التي رصدتها دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" عن أبعاد عميقة تتجاوز مجرد التوثيق الترجمي لأسماء العلماء، لتصل إلى ملامسة جوهر العلاقة بين المكان والعلم في الحضارة الإسلامية. ويمكن تلخيص هذه الدلالات في 3 محاور متداخلة:

إعلان

لم تكن النسبة في الثقافة الإسلامية التقليدية مقيدة بمفهوم "الهوية الجغرافية" أو "الجنسية" بالمعنى المعاصر. فالنسبة إلى مدينة معينة لم تكن تعني بالضرورة الولادة فيها، وإنما قد تدل على الانتساب الروحي أو الانتماء العلمي أو الأصل القبلي أو حتى مرحلة من مراحل التكوين العلمي. لذلك لا يستغرب المرء أن يجد عالما شاميا ينسب إلى الكوفة، أو مغربيا يعرف بالمدني، أو عراقيا يلقب بالدمشقي، بحسب مراحل رحلته العلمية أو محل إقامته الطويلة أو انتمائه المدرسي.

أظهرت النماذج كيف كانت دمشق، لا سيما في القرون الثلاثة الهجرية الأولى، مركزا علميا مهما تتقاطع فيه طرق الرحلة ودوائر السند. قصدها طلاب الحديث من الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وفيها اجتمعوا بشيوخها وأخذوا عنهم، وبدورهم نشروا علومها في بلادهم. كانت دمشق مدينة ذات إشعاع علمي يعكس مركزية الشام في الشبكة العلمية الإسلامية، حتى غدت النسبة إليها، أو الإقامة فيها، موطنا آخر للعلماء.

صنعاء ودمشق وتداخل الحواضر العلمية

أسهم نظام الإسناد والرحلة في تشكيل هويات علمية لا تعترف بحدود سياسية أو جغرافية صارمة. فالمساجد الكبرى والمدارس والمجالس كانت ملتقى للأسانيد والعقول، وما يحدد الهوية العلمية للعالم هو "سلسلة الرواية" التي يحملها، لا خارطة الميلاد. وهكذا، فقد حملت دمشق صنعاء، كما حملت بغداد القيروان، والمدينة غرناطة، في شبكة علمية تتجاوز المكان وتتوحد بالعلم.

تبرز دراسة "صنعانيون، ولكن من دمشق" مفارقة تاريخية دقيقة، وهي أن جميع العلماء الذين نسبوا إلى "صنعاء" رغم إقامتهم أو وفاتهم في دمشق، كانوا قد توفوا قبل دخول الإمام يحيى بن حسين بن القاسم، المعروف بـ"الهادي إلى الحق" إلى اليمن عام 284هـ، حيث توفي آخرهم تقريبا سنة 280هـ. وهذا التوقيت يحمل دلالة جوهرية، إذ يكشف عن أن النسبة إلى "صنعاء" في تلك المرحلة كانت خالية من أي دلالات طائفية أو ارتباطات مذهبية خاصة. كانت تشير في جوهرها إلى بيئة علمية سنية، يغلب عليها الطابع الحديثي والمنهج الروائي، بعيدا عن أي رمزية هادوية أو زيدية.

ففي تلك الفترة كانت صنعاء عاصمة العلم في اليمن، تستقطب طلاب الحديث والفقه من مختلف الأمصار، ويزدهر فيها النشاط العلمي، خاصة في مجال الرواية والسند. ولعل أبرز من يجسد هذا المناخ هو الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني، أحد أئمة الحديث الكبار، وصاحب كتاب "المصنف" الذي يعد من أمهات كتب الحديث. وقد مثل عبد الرزاق ذروة المدرسة الحديثية في صنعاء، التي اتسمت بالسنية الصافية في الفكر والممارسة.

أما التحول المذهبي الذي عرفت به صنعاء لاحقا فقد بدأ مع قدوم الإمام المعروف بـ"الهادي إلى الحق" في أواخر القرن الثالث الهجري. دخل صنعاء نحو سنة 288هـ بدعوة من بعض القبائل، لكنه لم يستقر فيها طويلا، وفضل اتخاذ صعدة مركزا لحركته العلمية والسياسية. ومن هناك، بدأ المشروع الزيدي الهادوي بالانتشار والتوسع، حتى غلب لاحقا على عدد من مناطق شمال اليمن، بما في ذلك صنعاء التي أصبحت مركزا إداريا للمذهب بفعل الهيمنة السياسية لا بسبب السياق العلمي الطبيعي.

وبذلك، فإن نسبة أولئك العلماء إلى "صنعاء" لا علاقة لها بالمذهب الزيدي لاحقا، بل تعبر عن مرحلة سابقة لها طابع علمي سني خالص.

حي البرامكة نسبة إلى الأسرة السياسية البارزة في العصر العباسي  (غيتي) شامنا ويمننا… توأمة الذاكرة والهوية

في عمق دمشق عاش "صنعانيون"، وفي قلب صنعاء ظلت الشام حاضرة؛ إذ لم تكن الهوية الإسلامية يوما حبيسة الجغرافيا أو مقيدة بالحدود السياسية. كانت هوية ممتدة، تنسج وشائجها عبر طرق العلم والسند والمجالسة، وتبني جسورا من الانتماء تتجاوز الحواجز الأرضية نحو وحدة حضارية شاملة. لم يكن العالم المسلم يعرف فقط من خلال موقع ميلاده، بل من خلال رحلته في طلب العلم، ومنبر تدريسه، وامتداد سنده، وتأثيره في الحواضر التي حل بها.

أن ينسب عالم إلى صنعاء وهو يروي في دمشق، أو يلقب بالبغدادي وهو يتصدر حلقات الأندلس، لم يكن خللا في التراجم، بل علامة على ديناميكية الهوية الإسلامية التي كانت ترى في "العلم" موطنا، وفي "السند" جغرافيا. لقد كانت العواصم الإسلامية تتقاطع في أدوارها؛ فدمشق ليست مجرد مدينة شامية، ولكن هي حاضرة حديث ورواية، وملتقى طرق المحدثين من الحجاز واليمن والعراق. وصنعاء لم تكن فقط عاصمة يمنية، وإنما مشتل إسناد، ومركز تراكم علمي ترحل إليه الأسانيد من الشام والعراق والحرمين.

إعلان

كل سند نسب إلى "الصنعاني" في كتب الحديث، وكل رواية انتقلت من مجلس علم في الشام، كانت تجسد هذا التلاحم. إن علماء "صنعاء دمشق" الذين تناولتهم الدراسة لا يمثلون فقط حالة فردية، بل يكشفون عن نمط أوسع من الانصهار الثقافي بين الشام واليمن، ذلك الانصهار الذي يمكن تسميته "توأمة الذاكرة والهوية". في هذه التوأمة، تتداخل الأنساب، وتتقاطع المدارس، وتزدهر الهويات المعرفية، من دون أن تقف أمامها الحواجز أو تشتتها الأطر السياسية.

ولم يكن عبثا أن يجمع النبي ﷺ في دعائه بين الشام واليمن: "اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا"؛ فهو دعاء ليس جغرافيا في دلالته، ولا مجرد تمنيا بالبركة لمكانين على خارطة، وإنما هو نداء حضاري جامع، يختصر روح الأمة الواحدة في صيغتها العلمية والإنسانية، ويؤسس لوحدة شعورية ومعرفية ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي.

لقد بارك النبي ﷺ في الشام واليمن لأنهما لم يكونا فقط موطنين، ولكنهما رئتان يتنفس منهما جسد الحضارة الإسلامية، وعينان تبصران بها أنوار العلم، ومحرابان يتعاقب فيهما الدرس والدعاء والرواية.

ففي الشام وضعت لبنات كبرى لعلوم الحديث والفقه والتفسير، وفي اليمن ازدهرت حلقات الإسناد وروح الزهد والتلقي. وحين نسب علماء إلى صنعاء وهم في دمشق، أو إلى الشام وهم من اليمن، لم يكن ذلك التباسا، بل تعبيرا صادقا عن وحدة معرفية كانت أعمق من الانتماءات السياسية وأسبق من الهويات القطرية.

هذا التداخل بين الشام واليمن ليس حدثا عابرا في كتب التراجم، بل نموذج حي لامتداد العقل المسلم الذي لا يتوقف عند تخوم الأرض، بل يعبرها بوسائط العلم، ويتجاوزها بسلاسل الإسناد والرحلة في طلب الحكمة.

إن دعاء النبي ﷺ يختزل مشروعا حضاريا لا يزال ممكنا، حين نستعيد تلك الروح الواحدة، وننبذ ضيق الانغلاق المذهبي، وننظر إلى المشرق والمغرب باعتبارهما أطرافا في جسد واحد، لا مناطق نفوذ متخاصمة.

فمتى ندرك أن الأمة التي وحّدها الحديث والسند والمصنفات لا يفرقها اختلاف اللهجات أو تغير الخرائط؟

ومتى نعيد لهذا السند الممتد بين الشام واليمن قدره، فنحيي بذلك ذاكرة الأمة الحية؟

—————————————————————————————————-

مدير مكتب الجزيرة في اليمن

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات اجتماعي صنعاء الیمن عبد الرزاق صنعاء دمشق کتب الحدیث النسبة إلى إلى صنعاء النسبة فی غوطة دمشق فی الشام فی دمشق لم تکن لم یکن

إقرأ أيضاً:

عبور غير آمن.. وعشوائية مرورية أمام المدارس الواقعة في الأحياء السكنية

عندما يتعلق الأمر بسلامة الطلبة، لا مجال للتهاون؛ فكل صباح وعند انتهاء اليوم الدراسي تتكرر مشاهد مقلقة للطلبة عند عبورهم للطرق المحاذية للمدارس الواقعة في الأحياء السكنية، وسط حركة مرور مزدحمة وغياب لوسائل الحماية الأساسية مثل خطوط المشاة والإشارات التحذيرية. الكثير من هؤلاء الطلبة يذهبون سيرًا على الأقدام من منازلهم القريبة، في مواجهة خطر يومي يزداد مع ازدحام المركبات في أوقات الذروة.

ومن هذا الواقع، كان لا بدّ من الاقتراب من الميدان وسماع المشهد من أطرافه المختلفة، من خلال آراء إدارات المدارس ومجالس أولياء الأمور، للحديث عن واقع السلامة المرورية أمام المدارس الواقعة في الأحياء السكنية، والبحث عن الحلول التي تضمن عبورًا آمنًا لأبنائنا الطلبة.

أوضح سالم بن سليم العبري، مدير مدرسة الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري أن الموقع الحالي لكثير من المدارس يشكّل خطرًا على الطلبة، إذ تقع معظمها في مخططات سكنية مزدحمة أو بالقرب من طرق رئيسية تفتقر إلى معايير السلامة لعابري الطريق مثل خطوط المشاة والأرصفة، ولفت إلى أن مرور السيارات بسرعة في أوقات الذهاب أو العودة من وإلى العمل يزيد من احتمالات الخطر اليومي على الطلبة، في ظل غياب التنظيم الكافي أمام المدارس.

وبيّن أن إدارات المدارس تواجه يوميًّا ازدحامًا شديدًا وقت الصباح والظهيرة، مع توقف السيارات بطريقة غير مرتبة بالقرب من المدارس، ما يضطر بعض الطلبة إلى قطع الشارع من بين المركبات، وهو ما يزيد من احتمالية وقوع حوادث دهس.

دور المدارس

وأشار العبري إلى أن إدارات المدارس يمكن أن تسهم بشكل كبير في حماية الطلبة عبر توعيتهم بقواعد السلامة المرورية، وتحديد نقاط آمنة لعبورهم أمام المدرسة، إلى جانب تنظيم دخول وخروج الطلبة من بوابات أقل ازدحامًا، والتنسيق مع أولياء الأمور لتحقيق انسيابية أكبر للحركة.

كما دعا إلى دراسة تعديل توقيت اليوم الدراسي بحيث يبدأ عند الساعة الثامنة صباحًا وينتهي في الواحدة ظهرًا، حتى لا يتزامن مع ذهاب الموظفين إلى أعمالهم أو عودتهم منها، مما قد يقلل من الازدحام والمخاطر المرورية.

وأوضح أن في كل مدرسة مناوبين من المعلمين يشرفون يوميًّا على دخول وخروج الطلبة، مضيفًا أن هذا النظام يساهم في ضبط الحركة أمام المدارس ويحدّ من الحوادث.

وأكد على أهمية التنسيق بين إدارات المدارس وأعضاء المجلس البلدي ومجالس الآباء والمعلمين وممثلي مجلس الشورى لاقتراح الحلول المناسبة ومخاطبة الجهات المعنية لتنفيذها.

مساهمة المجتمع

وقال مدير المدرسة إن الأسرة والمجتمع المحلي يقع على عاتقهما دور كبير في نشر ثقافة العبور الآمن، من خلال توعية الأبناء بعدم التهور أثناء عبور الطريق وتنظيم مبادرات مجتمعية لتنظيم حركة المرور أمام المدارس. وأوضح أن مبادرات مثل "المرافقة الجماعية للطلاب" أو "حارس عبور" يمكن تنفيذها بالتعاون مع مجالس الآباء والمعلمين أو الفرق التطوعية في كل ولاية.

وأضاف أن من الوسائل الفعّالة في التوعية استخدام نشرات وفيديوهات ومحاضرات توعوية تُنفذ بالتنسيق مع الجهات المختصة، بما يعزز الثقافة المرورية لدى الأهالي والطلاب على حد سواء.

حلول جذرية

واقترح سالم العبري تنفيذ حلول عملية عاجلة مثل إقامة مطبات أمام المدارس ووضع لوائح تحذيرية مرورية بالقرب منها، مع توثيق المخاطر اليومية التي يواجهها الطلبة عند عبورهم الشوارع ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لرفع الوعي المجتمعي ودفع الجهات المختصة إلى التحرك السريع.

وأشار إلى أن الحملات الإعلامية يمكن أن تؤدي دورًا مهمًّا في تحريك الرأي العام وإيصال أصوات الأهالي والطلبة للجهات المسؤولة، خصوصًا إذا ما تم توثيق تلك المخاطر بالصور والفيديوهات التي تُبرز المعاناة اليومية للطلبة.

وفي السياق ذاته، ذكرت ميمونة بنت مبارك الهنائية، مديرة مدرسة رؤى المستقبل للتعليم الأساسي (1-4) أن مشكلة عبور الطلبة بين المركبات لا تزال قائمة وتشكل خطرًا حقيقيًّا في الأحياء السكنية القريبة من المدارس، حيث يُلاحظ يوميًّا عبور بعض الطلبة للشوارع بشكل عشوائي دون وعي كافٍ بقواعد السلامة المرورية.

وأشارت إلى أن قرب المنازل من المدارس يدفع بعض الطلبة إلى الذهاب بمفردهم دون مرافقة أسرهم، ما يجعلهم عرضة للحوادث خصوصًا عند استعجالهم في الوصول إلى المدرسة. وأكدت الهنائية على أهمية تكاتف الجهود التوعوية بين المدرسة والأسرة والجهات المعنية، من خلال غرس الوعي المروري لدى الطلبة وتفعيل دور أولياء الأمور في متابعة أبنائهم والتأكد من وصولهم الآمن إلى المدرسة يوميًّا.

ممرات آمنة

من جانبه ذكر الدكتور ناصر بن عبدالله العبري رئيس مجلس الآباء والمعلمين بمدرسة الشيخ أبي سعيد الكدمي أنه من الضروري توفير ممرات آمنة مخصصة لعبور الطلاب، خصوصًا في المدارس الواقعة على الطرق الرئيسية، مع الاهتمام بإنشاء مداخل ومخارج مخصصة تسهم في حماية الطلبة من الحوادث المرورية.

وأشار إلى أن الوعي المروري يختلف بين الطلاب باختلاف أعمارهم ومرحلتهم الدراسية، وكذلك باختلاف متابعة الأسرة وحرص المدرسة، مؤكدًا أن الطلاب الذين يستخدمون الدراجات النارية للحضور والعودة من المدرسة يمثلون الفئة الأكثر عرضة للمخاطر بسبب عدم التزام بعضهم بوسائل السلامة مثل ارتداء الخوذة أو القيادة بسرعة، لذلك منعت المدارس استخدام وإدخال الدراجات النارية إلى الحرم المدرسي.

دور المدرسة والأسرة

وبيّن الدكتور ناصر أن المدرسة والأسرة تمثلان أهم مؤسستين اجتماعيتين في حياة الطالب، فدورهما لا يقتصر على التعليم، بل يمتد إلى غرس السلوك السليم وتربية الوعي المروري منذ الصغر. وأضاف أن المدرسة تسعى إلى تحويل الوعي النظري إلى سلوك عملي يومي، بحيث يلتزم الطالب بالقوانين ويتجنب المخالفات أثناء الذهاب والعودة من المدرسة. وأشار إلى أن مدرسة الشيخ أبي سعيد الكدمي أدرجت ضمن خطتها للعام الدراسي الحالي حملة توعية لسائقي الحافلات وأولياء الأمور حول سلامة نقل الطلاب، بهدف دعم بيئة تعلم آمنة في المواصلات المدرسية، مؤكدًا أن تعزيز الوعي المروري بين الطلاب أنفسهم يمثل أحد أهم عوامل الوقاية من الحوادث.

إشراك أولياء الأمور

وفي السياق ذاته، قال عاصم بن محمد الحديدي، عضو مجلس أولياء الأمور بمدرسة حفص بن راشد إن حماية الطلاب من أخطار الطريق تتطلب تعاونًا حقيقيًّا بين المدرسة والأسر والمجتمع المحلي من خلال مبادرات ميدانية، وتنظيم أوقات الذهاب والعودة، وتفعيل الرقابة المجتمعية أمام المدارس. وأشار إلى أن سلامة الطلبة مسؤولية جماعية تتكامل فيها أدوار الجهات الحكومية

والمدارس وأولياء الأمور، داعيًا إلى تسريع تنفيذ مشاريع خطوط المشاة والإشارات الضوئية في الأحياء السكنية القريبة من المدارس.

مقالات مشابهة

  • اجتماع لمناقشة مهام إدارة صحة البيئة بمحافظة صنعاء والصعوبات التي تواجهها
  • جنيه الذهب يخترق حاجز الـ 500 الف في اليمن
  • عبور غير آمن.. وعشوائية مرورية أمام المدارس الواقعة في الأحياء السكنية
  • اليمن.. بين حديث النبي وواقع ميادين المواجهة
  • الإعلام البريطاني: اليمن فرض إرادته على “إسرائيل” وأجبرها على وقف العدوان على غزة
  • موقع بريطاني: اليمن لاعب مؤثر اشترط وقف عملياته لالتزام الكيان الصهيوني بوقف النار
  • ارتفاع جديد لأسعار الذهب اليوم الاثنين في اليمن مع تباين الأسعار بين صنعاء وعدن
  • تقارير إسرائيلية: اليمن يشكل التهديد الأكبر بعد انتهاء حرب غزة
  • عبور 400 شاحنة مساعدات من «كرم أبوسالم» و«العوجة»
  • كتاب الحياة يُخالف الجغرافيا والتاريخ!