لجريدة عمان:
2025-07-06@11:19:26 GMT

العالَم ليس أخلاقيا

تاريخ النشر: 5th, July 2025 GMT

حين علَّقَ أفلاطونُ في كتابه «الجمهورية» على انهيار أخلاقيات مدينته شبَّهَ المجتمعَ بسفينة غيَّبَ عنها البحَّارةُ خريطتَها، فاختلط الأفقُ عليهم بين اليمين واليسار. وإذ نُزْحِلُ هذا التشبيهَ إلى القرن الحادي والعشرين نجدُ أنفسَنا على سفينة تُبحر بمحركات نووية، وشرائح سيليكونيّة مذهلة، ولكنها ما انفكَّت تُطوّح بنا في لُجّة رمادية بلا بُوصلة أخلاقية، فتربك عالَمنا، وتفكك ضوابطه المجتمعية.

وفي هذا الصدد أسترجع عنوانَ مقالٍ لي نشرته قبل ما يقرب من 3 أعوام بعنوان «الذكاء الاصطناعي ليس عقلا» مستلهمًا صرخةَ عبدالله القصيمي في كتابه «العالم ليس عقلا»؛ لأجدني اليوم أستعيرُ هيكلةَ ذلك التمرُّد لأقول بملء الفم والوجدان: العالَم ليس أخلاقيًا.

لعلّ المطلعَ على تاريخِ البشرية يدرك أن الصراع بين المبدأ والمصلحة موغلٌ في القِدم؛ فمن مذابحِ أثينا بين الأثينيّين والإسبرطيين إلى حروب القرون الوسطى حيث علَّقَ الصليبيون لافتةَ «بالصليبِ ننتصر»، وأطلقوا شعار «إنها إرادة الرب»؛ لتبرير زحفهم الصليبي إلى القدس، وإفسادهم في الأرض باسم الدين؛ لتستكمل البشريةُ صراعها في عصرنا الرقمي، فأضافت لهذا الإرث المظلم طبقةً تستعصي على الإدراك الحسي، فكانت «الأتمتة الأخلاقية» التي تجعل القتلَ، والتحيُّزَ عمليةَ ضغطِ زرٍّ، أو تلقين الخوارزمية بسطرٍ برمجي، وبيانات كبيرة. فحين يطلق الكيانُ الصهيوني طائرةً مُسيّرةً فوق أرض يسكنها مدنيون عزّل؛ كان بتوجيهه للمسيّرة القاتلة وخوارزمياتها منطلقات غير أخلاقية؛ ليخترقَ بمسيّرته زرقةَ السماء، ويسوّي البيوت الآمنة بالأرض، فتُبرز هذه المفارقةُ ما وصفه عالِمُ الاجتماع البولندي «زيغمونت باومان» بـ«الحداثة السائلة»؛ حيثُ يتحوّل العنفُ إلى نبضاتٍ إلكترونية تُغشّي البصيرةَ عن فداحة الأثر.

أضحى الإنسانُ في زمن «أمازون» و«علي بابا» مُصنَّفًا في جداول «تحليل سلوك الزبائن» بحسب الحداثة، وتكرارِ الشراءِ، وقيمتهِ RFM (Recency Frequency, Monetary) ؛ فلم تعدِ الحريةُ في قاموس السوق إلا «حق الاختيار» بين ألفِ سلعة متشابهة في حين تُساق الرغبةُ ببرمجياتِ تنبّؤٍ نفسي تفكّك عقلنا غير الواعي إلى مخزونٍ من البيانات. وكما حوَّل عالِمُ السلوك الأمريكي «جون كالهون» فئرانَ تجربته الشهيرة (Universe 25) إلى كائنات استهلاكية كسولة قبل أن تنهار بيئتها؛ فكذلك يحوّل اقتصادُ المنصّات البشرَ إلى مستهلكين بلا جذور، ولا أفق قيميّ، ونستحضر ما قاله «جورج أورويل» في روايته «1984»: «من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي»؛ فكان يلمح لحذف الحقيقة، وإبدالها بسردية رسمية. ويذهب عالَمُنا اليوم إلى أبعد من ذلك؛ فلم تعد الحقيقةُ ذاتُها شيئًا ينبغي حذفه، وإنما شيء يُتلاعب به حتى التلاشي. راقب فريق من معهد «MIT» فجوةَ نشرِ الأخبارِ المزيفة مقابل الأخبار الحقيقية على منصة «أكس» في الفترة 2006-2017 عبر تحليل نحو 126000 منشور بواسطة 3 ملايين مستخدم، فوجدوا أن الأخبار الكاذبة يعاد نشرها بنسبة أعلى بـ 70٪ مقارنة بالحقيقية، وتصل الأخبار الزائفة إلى 1500 مستخدم أسرع بـ 6 مرات من وصول الأخبار الحقيقية إلى نفس العدد. ولكون الدماغ البشري فُطرَ على البحث عن الاتساق؛ سيقبل الجمهورُ نظريةَ المؤامرة إن كانت أكثرَ اتساقًا مع مخاوفهم، ولو هُدمت براهينُها مرارًا.

قدّم «ستيف جوبز» هاتفا ذكيا، فكان -عند كثيرين- بمنزلة «أداة الحياة»، فإذا بالأداة تتحوّل إلى غرفة مرايا يحدّق فيها الفردُ فلا يرى غير ذاته مُعَدَّلة بـ «فلاتر» منصات وسائل التواصل. وبشّرت «دونا هاراوي» في «بيان السايبورغ» عام 1985 بولادة كائن هجين يتخطّى الثنائيات، فوصفت «السايبورغ» بأنه كائن ما بعد حداثي، وما بعد إنساني، لا ينتمي إلى نموذج الهُوية الثابتة، وإنما يتقاطع مع الواقع التقني البيولوجي السياسي. ولكن الهجين اليوم يُخشى أن يتخطّى جوهرَ إنسانيته، ويكفي أن ننظر إلى تقارير منظمة العفو الدولية الخاصة بخوارزميات الشرطة التنبؤية التي تستهدف أحياء الأقليات، أو إلى فضيحة «كامبريدج أناليتيكا» التي كشفت كيف يُصاغ الرأيُ العام؛ للتأثير على العقل الجمعي وتوجهاته. وبالتالي؛ فإن الأتمتة بدل أن تحرّرنا من العمل الشاق يمكن أن تقودنا إلى عبودية معرفية جديدة تُدار بلغة «البايثون Python» لا بالسلاسل والسياط.

استشرف «إيمانويل كانط» في كتابه «نقد العقل العملي» أنّ الأخلاقَ لا تأتي من الخارج، ولكن من صوت داخلي سماه «الضمير»، وهذا ما نفهمه من مقولته الشهيرة: « شيئان يملآن العقل بالدهشة: السماء المرصّعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي». فمهمةُ عصرنا تفريغ الضجيج الرقمي حولنا حتى نسمعَ ذلك الصوتَ مجددًا، ثم نسأل: ما قيمة النصر إذا فقدنا ذواتنا؟ وما قيمة الذكاء إذا غاب التعاطف؟ وما قيمة الحقيقة إذا صارت أداةً لتسويق الوهم؟ وعلى مشارف عام 2026 تأخذ البشريةُ صورةَ عملاق تقني بقدمين من طين قيميّ، فتُخطط لرحلات سياحية إلى المريخ، ولكنها تعجز عن حقن الأمل في مخيمات النزوح على الأرض، وتُنفق تريليوناتها على التجارة الكربونية؛ لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وتقليلها، وفي حين تسهو عن أطفالٍ يموتون عطشًا وجوعا وقتلا في غزة. ومع كل تحديث لنظام تشغيل هواتفنا يُحدَّثُ نظامُ تشغيلِ عقولنا ببرمجيات تسطيح جديدة.

ورغم ما نجده من تفكك أخلاقي في عالمنا المعاصر لسنا -نحن المسلمين- بمنأى عن هذا الانهيار الأخلاقي العالمي؛ فلعلّنا أضحينا في قلبه الأكثر انكشافًا لا لأن ديننا يفتقد منظومةً أخلاقيةً، ولكن لأننا -في مفارقة موجعة- هجرنا جوهر تلك المنظومة، وبقينا أسرى قشورها. جاءت آيات القرآن مفصلةً لبوصلة الأخلاق الكبرى، فأسّست بذلك مبادئ أخلاقية تحفظ للإنسان حقوقه وكرامته، وتُنزل الإنسان منزلته بوصفه إنسانًا قبل أن يُوصف بانتمائه، ولكن ما نراه اليوم في كثير من ساحاتنا الدينية لا يعكس هذه المبادئ إلا في لافتاته؛ فانقلب الخطابُ من نداءِ رحمةٍ إلى أدوات تعبئة، ومن دعوة إلى الوحدة إلى أدوات فرز واستقطاب، فصار الدين في بعض وجوهه شعارات جافة تُجزئ الأخلاق، وتُسعر الكراهية، وتمنح القتل أحيانا صبغة دينية مشروعة؛ ولهذا نرى الفجوة بين الوحي والسلوك، وبين القيم المعلَنة والممارسة الواقعة، لنكشف عن هزيمة داخلية مزدوجة تتمثّل في هزيمة في الوعي، وهزيمة في الضمير؛ فبدلًا من أن تكون الدعوة بابًا للخير تحوّلت -عبر بعض منصّاتها الرقمية- إلى منابر للشحن الطائفي، والتضليل الأخلاقي، ولسنا بحاجة إلا إلى إلقاء نظرة فاحصة على واقع المنصّات المعاصرة؛ لندرك هذا المنزلق.

فهل نجرؤ على الاعتراف -كما اعترف سقراطُ أمام محكمة أثينا- بجهلنا الأخلاقي؟ وهل نملك الشجاعةَ لنعيد بناء العالم على أساس «إنسانية الإنسان»، لا على أرباحِ المجمعات الصناعية-الرقمية؟ إن السؤال لا ينتظر جوابًا نظريًا، ولكنه فعلا يتجلّى في سياسات تُعيد توزيعَ الرعاية، وتعليمٍ يُنمّي الحكمة، وخوارزميات تُربّى على الشفقة كما تُربّى على الكفاءة، فإلى أن يحدث ذلك سيظلّ العالمُ بكل أضوائه الباهرة عالَمًا ليس أخلاقيا، وسيظلّ القلمُ الحرّ ينتفض ليقولها -مرة بعد مرة-؛ لعلّ الاعترافَ أولُ الطريق إلى الخلاص.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یسیطر على

إقرأ أيضاً:

عُمان أولًا.. دور الفرد في مواجهة زخم الأخبار

 

قصي بن موسى البلوشي

في زمنٍ تتسابق فيه الشاشات لتملأ عقولنا قبل أن تملأ أعيننا، تتزايد الأخبار وتتدفق التحليلات السياسية والاقتصادية من كل حدب وصوب، حتى يُخيّل للمرء أن معركة الوعي أصبحت أكثر شراسة من أي وقت مضى. وفي قلب هذا العالم المتشابك، يقف الفرد العُماني كعنصر محوري في ترسيخ الاستقرار والحكمة، لا كمجرد متلقٍ سلبي، بل كحارس واعٍ لأولوياته الوطنية.

كثيرٌ من الأخبار التي تصلنا من دول أخرى تحمل طابعًا مثيرًا: صراعات، تحليلات متضاربة، وأحيانا شائعات مقنّعة بهيئة "سبق صحفي". والواقع أن الانشغال المفرط بقضايا لا تخص الوطن قد يُربك البوصلة الفكرية، ويخلق رأيًا عامًا هشًا قائمًا على تشظّي الاهتمام، بدلًا من تعزيزه بقضايا الوطن الكبرى.

وهنا، يكون السؤال الأهم: لماذا ينشغل البعض بساحات الآخرين، بينما ساحة وطنه أولى بالتفكّر؟

ليس مطلوبًا من الفرد العُماني الانعزال عن العالم، بل العكس، أن يكون على وعي ناضج يميّز بين الخبر الذي يُثريه والخبر الذي يُربكه. وهنا، يكون دوره كفلتر يعبر من خلاله الخبر لا العكس. وأن يُسهم بصوته، لا أن يُساق برأي غيره. أن يسأل: "كيف يخدم هذا وطني؟" قبل أن يضغط "مشاركة" على منشور من حسابٍ مجهول.

 

وفي ظل هذا الوضع، يكون السؤال: كيف يمكن إعادة توجيه البوصلة الإعلامية للفرد؟ وتتلخص الإجابة في التالي: "دعم الإعلام الوطني والموثوق به والتفاعل الواعي مع محتواه، وبناء ثقافة رقمية تُغلب النقد على التهويل والتحليل على التلقين، وتذكير النفس دائمًا بأن الولاء للوطن يبدأ من الوعي لا من الانفعال".

إن مواجهة سيل الأخبار ليس في حجبها بل في مواجهتها بفكرٍ ناقد وعقلٍ متزن. فـالفرد الواعي هو اللبنة الأولى في جدار السيادة والاستقرار. وفي السلطنة التي بنيت على الحكمة لا مكان للانجراف، بل كل المساحات مفتوحة للتأمل، للتمييز، وللكلمة التي تُكتب بحبر الوفاء.

مقالات مشابهة

  • طلاب الثانوية العامة لـ«الفجر»: امتحان الرياضيات البحتة 2025 سهل ولكن (استطلاع)
  • وسط تحديات أخلاقية.. باحثون: إنتاج الحيوانات المنوية والبويضات في المختبر بات وشيكًا
  • عُمان أولًا.. دور الفرد في مواجهة زخم الأخبار
  • باربوسا: تحقق العدل ولكن يبقى الجرح!
  • الثاني خلال اليوم.. مقتل جندي إسرائيلي وإصابة 2 آخرين في معارك قطاع غزة
  • نجم آرسنال يواجه 5 تهم أخلاقية
  • حزب التجمع يعلن أسماء مرشحيه في انتخابات مجلس الشيوخ غدا
  • مدرب دورتموند: نحن الطرف الأضعف أمام ريال مدريد ولكن سنحاول
  • رضا عبد العال لمجلس الزمالك: بطلت شيكابالا.. متمسك بعبدالله السعيد ليه؟