مُستقبل لا تُقرره البوارج بل الشعوب
تاريخ النشر: 2nd, August 2025 GMT
منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها اليمن موقفه المبدئي والثابت في نصرة الشعب الفلسطيني، لم يكن ذلك مجرد بيان تضامني عابر، بل انطلاق مسيرة فعلية تعكس ترجمة عملية لوعد قطعه اليمنيون على أنفسهم بأن يكونوا في طليعة المواجهة، ضمن محور المقاومة.
ومع مرور الشهور وتوالي الأحداث، تبيّن أن اليمن لم يدخل هذه المعركة بردّة فعل عاطفية ودوافع دينية وإنسانية وحسب، بل بخطة تصعيدية واعية، بلغت ذروتها مع دخول المرحلة الرابعة من الحصار البحري.
المرحلة الرابعة من الضغط على الكيان الصهيوني ليست مجرد تكتيك عسكري، بل هي خطوة استراتيجية تعكس فهماً عميقاً لطبيعة المعركة مع كيان يقوم اقتصاده على موانئ وشبكات شحن حساسة، ومع أن العدو كان يراهن على قدرة واشنطن وحلفائها في تأمين “ظهره البحري”، إلا أن اليمن استطاع عبر تنكيله النوعي بالبوارج والقطع البحرية الأمريكية واستهداف دقيق للمصالح والشركات المتعاملة مع الكيان، أن يقلب معادلات القوة، ويجعل الملاحة الدولية تعيد حساباتها.
هذا التحول أجبر عشرات الشركات على إعادة النظر في علاقاتها مع “تل أبيب”، وأدى فعلياً إلى شلل كبير في ميناء “أم الرشراش” (إيلات)، الذي كان يمثل شرياناً حيوياً للتجارة الصهيونية، وما يحصل اليوم هو أبعد من استهداف لمرفق أو سفينة، إنه إطباق تدريجي على اقتصاد الاحتلال، كشف هشاشته الداخلية، وأجبر مستوطنيه على الشعور بثقل الحرب وهم بعيدون عن ساحة القتال. لم يعد الصراع محصوراً في غزة أو لبنان، بل أصبح البحر الأحمر جبهة مفتوحة، واليمن رقماً صعباً فيها.
المعادلة الجديدة التي فرضها اليمن أربكت ليس فقط كيان العدو، بل أيضاً الإدارة الأمريكية التي وجدت نفسها أمام مقاومة لا تخضع للابتزاز، ولا تخاف من التهديدات، بل تزداد حضوراً وقوة كلما اشتد الحصار واشتعلت المواجهة.
واشنطن التي استنفدت أوراقها العسكرية في عملية “حارس الازدهار” لم تجد نفعاً، وعادت تبحث عن أدوات قديمة كتحريك الجبهات الداخلية أو اللعب على تناقضات التحالفات، لكنها اصطدمت بخطاب ثوري متوعد يقيم الحجة على الجميع قبل ارتكابهم المزيد من الحماقات، وبواقع سياسي يمني أكثر تماسكاً من أي وقت مضى.
واللافت أن اليمن، رغم ما حققه من إنجازات استراتيجية، لا يزال يتعامل بحكمة وتحفّظ، ولم يستخدم حتى الآن كامل قدراته، فالهجمات النوعية لا تعكس سقف القوة المتاحة، بل ما تسمح به الحاجة والتوقيت، وهذا “الغموض المحسوب” يضع العدو في حالة استنفار دائم، ويجعل من أي مغامرة ضد اليمن مقامرة مكلفة قد تطال خطوط الإمداد الأمريكية في المنطقة.
لكن الأهم من كل ذلك، أن اليمن لا يخوض هذه المعركة لمجده الوطني، بل يحمل راية قضية مركزية اسمها فلسطين، الانتصارات اليمنية لا تُكتب في صنعاء فقط، بل تُسجَّل أيضاً في غزة والقدس وكل أرض عربية تحت أقدام الاحتلال، إنها معركة أمة بأكملها، اختار فيها اليمن أن يكون في طليعتها، لا على هامشها.
لقد أثبتت صنعاء، بحنكة قيادتها الثورية المباركة وبأس رجالها، أنها شريك فاعل في معركة الكرامة، وصانع لتحوّلات حقيقية في توازن الردع، وفي ظل هذا الواقع المتغير، بات السؤال الملحّ لدى العدو قبل الصديق: إلى أين يمكن أن يصل اليمن؟، والجواب الوحيد: إلى حيث يجب أن يصل، من أجل غزة والمقدسات، ومن أجل كسر الهيمنة، ومن أجل مستقبلٍ لا تقرره البوارج، بل الشعوب.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
أوراق أمريكا المتساقطة في خريف ترامب
محمد بن علي البادي
منذ تأسيسها، سعت الرئاسة الأمريكية إلى ترسيخ صورة الدولة القائدة للعالم "الحر"، المتحدثة باسم الديمقراطية، والحارسة لمصالحها عبر تحالفات محسوبة وخطابات مدروسة.
لكن هذه الصورة لطالما بدت مزدوجة، تمارس الضغط وفرض الهيمنة بقدر ما تروّج للقيم. ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بلغ هذا التناقض ذروته، حين تحوّل التعامل الأمريكي مع الشرق الأوسط إلى صفقات مكشوفة، وتراجع دور المؤسسات لصالح نزوات الرئيس ومصالحه الضيقة.
فقد دعم أنظمة قمعية باسم "الاستقرار"، وتخلى عن قضايا عادلة كالقضية الفلسطينية، وروّج لما سُمي بـ"صفقة القرن" دون اعتبار لحقوق الشعوب.
وبدا الشرق الأوسط في نظره ليس أكثر من سوق صفقات، يتعامل معه بمنطق التاجر لا رجل الدولة.
سياسة بلا بوصلة
منذ اللحظة الأولى لتسلّمه الحكم، ظهرت ملامح الارتباك في تعاطي ترامب مع القضايا الدولية.. فقد بدا أقرب إلى رجل أعمال يراوغ ويتفاوَض ويهدد، منه إلى رئيسٍ يدير ملفات عالمية بحسٍّ مسؤول.. وتصريحاته المتقلّبة، قراراته المفاجئة، وانفعالاته المتكررة، كلها جعلت الثقة في منصب الرئاس ة تتآكل، داخليًا وخارجيًا.
كثير من تصريحاته كانت متناقضة أو تفتقر للدقة، ما أضعف مصداقيته وأربك شركاءه.. تعامل بفوقية مع الحلفاء، وبمزاجية مع الخصوم، وانسحب من اتفاقيات دولية كبرى دون تبرير واضح.. كل ذلك ساهم في تقويض صورة أمريكا بوصفها دولة مؤسسات، وأظهرها كدولة تُدار بتغريدة.
ازدواجية فاضحة
من أبرز مظاهر تخبطه، تردده في ملف إيران؛ يتفاوض عبر قنوات سرية، ثم يأمر بضرب منشآت نووية فجأة.. يتحدث عن السلام، ثم يشعل التوترات.
أما في ملف حقوق الإنسان، فقد سقطت كل الأقنعة، حين دعم بشكل سافر الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، متجاهلًا دماء المدنيين وآهات الأطفال.
ينادي بالقيم في العلن، ويدعم من ينتهكها في الخفاء.
اليد الأمريكية في تجويع غزة وتدمير قوى المقاومة
وقف ترامب بقوة إلى جانب إسرائيل في سياستها العدوانية ضد أهالي غزة، متجاهلًا معاناة المدنيين المحاصرين الذين يعانون من الحصار والتجويع المستمر.
لم يقتصر دعمه على الكلمات، بل شمل تقديم دعم سياسي وعسكري لتمكين إسرائيل من تنفيذ حملات التدمير ضد قوى المقاومة، بدءًا من غزة مرورًا بجنوب لبنان وسوريا، وصولًا إلى اليمن وإيران.
هذا الدعم ساهم في تفاقم الأزمات الإنسانية، وتدمير البنى التحتية، وإضعاف قدرات المقاومة، ما عزز من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وأغرق الشعوب في معاناة مستمرة بلا أفق للحل.
رئيس بلا هيبة
تجلّى الارتباك حتى في حضوره الدولي؛ قادة يتجاهلونه، وآخرون يُظهرون عدم احترامه علنًا... كُشف عن صفقات سرّية معه، وأحرج في مؤتمرات صحفية أكثر من مرة. لقد تراجعت هيبة الرئاسة الأمريكية في عهده، وتحوّل الحضور السياسي إلى عرض مرتجل، خالٍ من الحكمة والاتزان.
انهيار الثقة
كيف يمكن لحلفاء أن يثقوا برئيس ينقض الاتفاقيات، ويبدّل المواقف، ويُعلن السياسات في تغريدة ويلغيها في أخرى؟ كيف تُبنى التحالفات مع قيادة لا تفرّق بين الدولة والمصلحة الشخصية، ولا تثبت على موقف أو شراكة؟
لقد زرع ترامب الشك حتى في أروقة الحلفاء، وأدار أمريكا كما تُدار شركة خاصة، حيث مصير الشعوب مرهون بمزاج المدير.
خاتمة
ترك عهد ترامب ندوبًا عميقة في صورة أمريكا، التي كانت رمزًا للثبات والقوة. تحولت الرئاسة إلى حكم متقلب قائم على الأهواء الشخصية، بعيدًا عن الحكمة والاستراتيجية.
أمريكا صارت دولة ضائعة بين تغريدات متناقضة ودعم متحيز على حساب العدالة وحقوق الإنسان.
السؤال: هل يمكن استعادة الثقة والسياسة الرشيدة التي تحترم الشعوب وتحافظ على السلام، أم أن أوراق أمريكا ستظل تتساقط في خريفٍ لا ينتهي؟
فالاستقرار العالمي لا يبنى على مزاج قائد، بل على مسؤولية وطنية وعالمية حقيقية.