في عالم يموج بالأزمات المناخية والاقتصادية والصراعات الجيوسياسية، لم تعد قضية الاكتفاء الذاتي من القمح مجرد ملف زراعي، بل تحولت إلى قضية أمن قومي ترتبط بشكل مباشر باستقرار الدول واستقلال قرارها. ومصر، التي كانت لعقود طويلة ضمن أكبر مستوردي القمح عالميًا، بدأت الآن تتحرك بثبات نحو تحقيق اكتفاء ذاتي تدريجي، مستندة في ذلك إلى أدوات التكنولوجيا الحديثة، وإعادة هيكلة منظومة الزراعة والتخزين والإنتاج وفق أسس علمية وعملية مستدامة.


لقد شهدت السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا في حجم المساحات المنزرعة بالقمح، حيث بلغ إجمالي ما تمت زراعته في موسم 2024/2025 حوالي 3.6 مليون فدان، بزيادة واضحة عن الأعوام السابقة، وذلك بفضل السياسات التوسعية التي تبنتها الدولة في الأراضي الجديدة، خاصة في مشروع مستقبل مصر والدلتا الجديدة. هذه الجهود أثمرت عن تحقيق توريد محلي بلغ نحو 3.9 مليون طن، وهو ما يمثل أكثر من 55% من حجم الاستهلاك المحلي السنوي، وهي خطوة مهمة على طريق تقليل الاعتماد على الخارج.
لكن هذا التقدم لم يكن ممكنًا لولا توظيف أدوات التكنولوجيا الزراعية بشكل ممنهج. فقد ساعدت التقاوي المحسّنة وراثيًا، المقاومة للأمراض والمتحملة للجفاف، في زيادة الإنتاجية، كما ساهمت تقنيات الزراعة الذكية، مثل الاستشعار عن بعد والطائرات بدون طيار، في مراقبة نمو المحصول والتدخل السريع في حالات الخطر، فضلًا عن التحول إلى نظم الري الحديثة التي حسّنت كفاءة استخدام المياه، وهو ما يمثل عاملًا حاسمًا في نجاح زراعة القمح في بيئات مناخية ومائية صعبة.
ومع نمو الإنتاج، أدركت الدولة أن الحصاد وحده لا يكفي، وأن إدارة ما بعد الحصاد تُعد جزءًا أساسيًا في معادلة الاكتفاء الذاتي. ولهذا، تم تطوير منظومة التخزين بالكامل، حيث تم إنشاء صوامع معدنية حديثة مجهزة بأنظمة تبريد وتحكم في الرطوبة، مما خفّض نسبة الفاقد إلى أقل من 5%، مقارنة بنسب كانت تصل إلى 15% أو أكثر في السابق. كما ساعدت الرقمنة في تتبع عمليات التوريد والتخزين، وضمان الشفافية وتيسير وصول الدعم للمزارعين المستحقين، ما زاد من معدل المشاركة في منظومة التوريد الرسمية.
هذا التكامل بين التوسع الأفقي في الزراعة والتطور الرأسي في الإدارة والتخزين، رافقه دعم سياسي واقتصادي واضح، تمثل في رفع سعر توريد القمح المحلي بما يضمن هامش ربح مشجع للفلاح، وتكثيف الإرشاد الزراعي لنقل نتائج الأبحاث من المعامل إلى الحقول. كما أن الوعي المجتمعي بدور القمح في تحقيق الأمن الغذائي بدأ يتنامى، خاصة في ظل أزمات الغذاء العالمية التي أكدت أن من لا يزرع لا يملك قراره.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن المؤشرات الحالية تبشّر بإمكانية الوصول إلى اكتفاء ذاتي شبه كامل من القمح بحلول عام 2030، إذا ما تم الحفاظ على نفس وتيرة التوسع والإنتاج، حيث من المتوقع أن تتجاوز المساحات المنزرعة 4.5 مليون فدان، وأن يصل إجمالي الإنتاج المحلي إلى أكثر من 7 ملايين طن سنويًا، بما يغطي ما بين 80 إلى 90% من الاحتياج المحلي. ولتحقيق هذه الرؤية الطموحة، يجب أن تستمر الدولة في دعم مسارات الابتكار البحثي، وذلك من خلال تأسيس منصات بحثية تطبيقية تربط بين الجامعات والمراكز البحثية ووزارة الزراعة، وتركز على استنباط أصناف أكثر تحملاً للمناخ المتطرف والملوحة.
كما يُوصى بإطلاق برنامج وطني للتجارب الحقلية الموسعة بمشاركة المزارعين، لاختبار واعتماد أحدث تقنيات الزراعة الذكية، إلى جانب إنشاء بنك معلومات وطني للقمح، يشمل بيانات دقيقة عن الإنتاج والتخزين والأسعار، يُستخدم لدعم القرار الزراعي. ومن المهم أيضًا إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي والنماذج المناخية في التنبؤ بالإنتاج وتوجيه السياسات الزراعية، فضلًا عن تشجيع البحوث الاقتصادية التي تحلل سلوك المزارع وتوجهاته تجاه التوريد والتوسع.
إن طريق الاكتفاء الذاتي من القمح ليس سهلًا، لكنه ليس مستحيلًا. فالمعادلة أصبحت واضحة: الاستثمار في البحث والتقنية والبنية التحتية يقود إلى إنتاج آمن، والإنتاج الآمن يقود إلى سيادة غذائية واقتصاد مستقر. ومصر، بتاريخها الزراعي الطويل وإرادتها السياسية الراهنة، تملك من الإمكانيات ما يؤهلها لقيادة المنطقة في تحقيق هذا النموذج، الذي لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة حتمية في عالم لا يرحم من لا يملك غذاءه.

طباعة شارك الصراعات الجيوسياسية الاكتفاء الذاتي من القمح التكنولوجيا الحديثة

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الصراعات الجيوسياسية الاكتفاء الذاتي من القمح التكنولوجيا الحديثة الاکتفاء الذاتی من القمح

إقرأ أيضاً:

لقاء بين محافظ أسيوط والمزارعين لبحث تطوير الزراعة وتنظيم معرض للآلات الحديثة |صور

عقد اللواء دكتور هشام أبو النصر، محافظ أسيوط، لقاءً موسعًا بقاعة الاجتماعات بديوان عام المحافظة، مع عدد من المزارعين والمنتجين وممثلي الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية – إحدى شركات البنك الزراعي المصري – لبحث فرص الاستثمار الزراعي وسبل دعم المشروعات التنموية بالمحافظة، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، نحو تعزيز التنمية الزراعية وتحقيق أهداف رؤية مصر 2030.

جاء ذلك بحضور المحاسب منتصر الأبجيجي، رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية، والدكتور عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم، وكيل وزارة الزراعة بأسيوط، وإيهاب عبد الحميد، مدير جهاز تنمية المشروعات والصغيرة المتوسطة ومتناهية الصغر، وعدد كبير من المزارعين والمنتجين.

أهم التحديات التي تواجه المزارعين

وخلال اللقاء، استعرض المحافظ أهم التحديات التي تواجه المزارعين، وسبل التعاون مع الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية لتقديم حلول متكاملة تخدم القطاع الزراعي بالمحافظة. كما ناقش آليات توفير ماكينات الري الحديثة "دويتس" ذات التكنولوجيا الألمانية المتطورة، والصوب الزراعية الذكية التي تسهم في رفع الإنتاجية وترشيد استهلاك المياه والأسمدة، بجانب توفير مستلزمات الزراعة من بذور وأسمدة ومعدات بجودة مضمونة وأسعار مناسبة.

وأكد اللواء هشام أبو النصر أن الدولة تولي قطاع الزراعة اهتمامًا خاصًا باعتباره أحد ركائز الأمن الغذائي، مشيرًا إلى أن استراتيجية الدولة تستهدف تعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية.

وقال المحافظ نسعى من خلال هذه اللقاءات إلى خلق شراكات فاعلة بين الحكومة والقطاع الخاص والمزارعين، لتوفير حلول عملية ترفع كفاءة الإنتاج وتدعم الاقتصاد المحلي، بما ينعكس على حياة الفلاحين وتحسين مستوى المعيشة بالمناطق الريفية.

وأشاد محافظ أسيوط بجهود الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية، مؤكدًا أنها تمثل ذراعًا قوية للدولة في دعم المزارعين وتوفير مستلزمات الإنتاج بكفاءة عالية، بما يسهم في تطوير منظومة الزراعة الحديثة بالمحافظة.

محافظ أسيوط يكرم أبطال السباحة في بطولة الصعيد لمراكز الشبابمحافظ أسيوط يطلق مبادرة "تكتلات الأقمشة والمنسوجات"

من جانبه، أوضح المحاسب منتصر الأبجيجي أن الشركة مستمرة في دعم المزارعين من خلال توفير المعدات الزراعية المتطورة وتنفيذ برامج تدريبية لرفع كفاءتهم في استخدام التقنيات الحديثة، تنفيذًا لتوجيهات القيادة السياسية بمساندة الفلاح المصري، مضيفًا أن الشركة تعمل وفق خطة شاملة تستهدف تحديث البنية الزراعية في مختلف المحافظات، مشيرًا إلى أن الشركة ستقيم خلال شهر أكتوبر، وبالتعاون مع محافظة أسيوط، معرضًا زراعيًا شاملًا لعرض أحدث المعدات والآلات الزراعية والمنتجات الحديثة، وتوفير جرارات "بيلاروس" وماكينات ري "دويتس" والحصادات والعزاقات بأسعار تنافسية، مع تقديم تسهيلات في السداد عبر قروض البنك الزراعي المصري.

طباعة شارك أسيوط المزارعين المنتجين الشركة المصرية للتنمية الزراعية والريفية البنك الزراعي المصري فرص الاستثمار

مقالات مشابهة

  • محافظ كفر الشيخ ووزراء زراعة أفارقة يتفقدون أصناف الأرز الحديثة بسخا
  • لقاء بين محافظ أسيوط والمزارعين لبحث تطوير الزراعة وتنظيم معرض للآلات الحديثة |صور
  • صرف مستحقات القمح المحلي
  • “فورين بوليسي”: العزلة الاقتصادية تلاحق نتنياهو.. و”الاكتفاء الذاتي” حلم مستحيل
  • زيمبابوي تحقق أعلى إنتاج للقمح في تاريخها يتجاوز الاكتفاء الذاتي
  • زراعة الشرقية تنفذ ندوة إرشادية للنهوض بمحصول القمح
  • صرف 412 مليون ريال مستحقات الدفعة الثالثة لمزارعي القمح المحلي
  • بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في القارة.. وزير الزراعة يفتتح فعاليات منتدى الأرز الإفريقي
  • مناقشات في "الشورى" حول مقترحات تعزيز الأمن الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي
  • النسخة الثانية لمهرجان خيرات اليمن انعكاس للتوجهات الرسمية والشعبية نحو تشجيع الإنتاج المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي