مؤيد الزعبي

عندما يصبح الذكاء الاصطناعي هو المهيمن والمحرك الأساسي للاقتصاد، ومع تحوّل اقتصادنا تدريجيًا إلى اقتصاد بلا بشر، سنصل في نهاية المطاف إلى عصر من الفراغ، فراغ لا يشبه البطالة التي عرفناها سابقًا، بل هو فراغ وجودي، حيث لا دور نؤديه ولا حاجة لنا في عجلة الإنتاج بعد أن كنا منهمكين في اللهاث اليومي بين العمل والمسؤوليات، سيصبح الوقت متاحًا بشكل ممل، أكثر مما يُحتمل، وفي خضم هذا التغيّر العميق تُطرح أسئلة جوهرية: ما الذي يعطي حياتنا المعنى إذا لم نعد ننتج؟ ماذا سيحدث للعلاقات الاجتماعية عندما تُنتزع الحاجة للعمل الجماعي؟ وما هو مصير الطبيعة البشرية التي تشكّلت عبر آلاف السنين في بيئة من التحدي والبقاء والكدّ والتعب؟

عزيزي القارئ بعد هذه المقدمة يبرز الآن السؤال الأهم هل الفراغ الوجودي: نعمة أم لعنة؟ لطالما حلمنا نحن البشر بزمن لا نضطر فيه للعمل لنكسب قوت يومنا، لكن لم نكن نتصور أن ذلك قد يتحقق على يد "عقل" غير بشري وأقصد هنا الذكاء الاصطناعي أو حتى الروبوتات، ومع تحقق هذا الحلم يتضح أنه أقرب إلى كابوس وجودي، صحيح أنه في عصر الذكاء الاصطناعي سنتحرر نحن البشر من عبء الوظيفة، لكن هذا سيفقدنا الإحساس بالقيمة الذاتية المرتبطة بالعطاء والإنجاز.

في هذا السيناريو سيصبح الفراغ قاتلًا ليس لأنه مجرد وقت زائد، بل لأنه وقت بلا معنى، وبلا غاية، فالفراغ ليس فقط غياب العمل، بل غياب الحاجة إلينا وحين يشعر الإنسان بأنه غير "مطلوب"، يبدأ بالانحدار في شعور باللاجدوى، وقد يتحول هذا الشعور إلى قلق أو اكتئاب أو حتى إلى موجات من العنف الذاتي أو الاجتماعي، هل أنت متخيل كيف سيكون الفراغ قاتلًا ومرعبًا.

إذا أردنا أن نفهم الأمر بشكل أدق فعلينا أن نتفق بأن العمل بالنسبة لنا سواء وظيفة أو ريادة أعمال أو حتى حرفة لم يكن فقط مصدر دخل، بل كان أيضًا نسيجًا اجتماعيًا يربط بين الناس، علاقات وصداقات تنشأ في مواقع العمل وتصبح أنت جزءا من عائلة أو مجتمع أكبر تتشارك معهم تقريبًا نفس الظروف، وتتعاون معهم وتبني ثقة، وحتى تحديات العمل ومشقته تُشعرك بأن هناك تحديا وإنجازا، وفي غياب ذلك تتعرض العلاقات الاجتماعية للتآكل، وسنصبح نعاني الوحدة والفراغ القاتل.

الأمر أوسع وأعقد من بيئة العمل، فعندما يعتمد كل فرد على آلاته الذكية لتلبية حاجاته، سيقل الاحتكاك البشري، تخيّل مجتمعًا غارقًا أفراده في عزلة افتراضية، يتحدثون إلى مساعدات رقمية أكثر مما يتحدثون إلى بعضهم البعض، يشكون همومهم ومشاكلهم لبرمجيات لا تحس ولا تعقل، وبالنسبة لي لا أستبعد أن يصبح "الذكاء الاجتماعي" مهارة نادرة قد تكون فريدة في مجتمع يعاني ويعيش العزل كعادة جماعية لا مهرب منها.

الطبيعة البشرية مبنية على التطور من خلال التحدي، فمنذ أن كنا صيادين وجامعي ثمار في عصورنا الحجرية والجليدية شكلت الحاجة دافعًا للنمو والتطور، وحتى في العصور الحديثة فالمنافسة والمعاناة كانتا وقودًا للإبداع والاختراع، وبالتالي في عصر يزال فيه التحدي، ويقل فيه الضغط تتآكل هذه الطبيعة، ويصبح الإنسان لا دافع له لا للتطور ولا للتطوير وبالتالي الفراغ الذي نحلم فيه سيكون كابوسًا لا يمكن التعايش معه.

ربما تساءلت في سطور سابقة عن سؤال مهم، ولكن الآن أتساءل تساؤلًا فلسفيًا، هل نستطيع نحن البشر التكيّف مع عالم بلا حاجة وبلا ألم وبلا نقص، أم أننا سنعيد خلق المعاناة لأننا لا نستطيع العيش دونها؟ وما أخاف منه حقيقة أن تظهر أنماط جديدة من "التحديات المصطنعة" مثل الألعاب الافتراضية أو الرحلات الفضائية أو حتى خلق معاناة بوسائل تقنية خداعة، وتبقى ما هي إلا محاولات للهرب من الواقع الجديد: واقع بلا ضرورة حقيقة محفزة، صحيح أن المعاناة صعبة وأن العمل فيه مشقة، ولكن الفراغ أصعب من كل هذا، ومهما حاولنا خداع أنفسنا إلا أن طبيعتنا البشرية ستعاني وستجعلنا نعاني حال غيابها.

 

قد يقول قائل بأنه لن يكون أمامنا إلا خيار واحد؛ إعادة تعريف الإنسان، فالبعض يرى أنه لم يعد الإنسان ذلك الكائن المنتج، بل عليه أن يصبح كائنًا مُتأملًا، مبدعًا، ولكن أنا شخصيًا ضد هذا التوجه، فذلك سيتطلب تحولات ثقافية وفلسفية عميقة لا يمكن المراهنة عليها خصوصًا وأن الذكاء الاصطناعي سيتوفق علينا في الإبداع والتأمل، وبالتالي لن يكون لنا مكان في ذلك حتى، ولذلك نحن فعلًا أمام معضلة أنصاف الحلول بها كارثة.

 

الحديث عن عصر ما بعد العمل ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة واقعية علينا الاستعداد لها، فالذكاء الاصطناعي لن يسلبنا فقط وظائفنا، بل سيفرض علينا مراجعة تعريفنا لذواتنا، فهل نكون حين لا نعمل، وهل نستطيع أن نحب، ونتفاعل، وننتمي في غياب الحاجة؟ أشك في ذلك، عزيزي القارئ، ما يبدو في الظاهر تحررًا، قد يكون أعظم اختبار لإنسانيتنا عندما يصبح الفراغ سمًّا قاتلا يهدد وجودنا، ولا تسألني عن الحل فالحل قد يكون صعبًا، ولكن ما هو مهم أن نبني ذكاء اصطناعيا هدفه الأساسي دمج البشر لا إقصاؤهم حينها ربما يكون الفراغ مساحة إضافية لحياتنا نشكل من خلالها توازنًا لعلاقاتنا ولإبداعاتنا، بدلًا من جعل الفراغ قاتلًا لإنسانيتنا وهادمًا لبشريتنا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی أو حتى

إقرأ أيضاً:

ورقة بحثية: الذكاء الاصطناعي قد يدمر البشرية بحلول 2027

أثارت ورقة بحثية موجة جدل واسعة في الأوساط العلمية والتقنية، بعدما توقعت أن الذكاء الاصطناعي قد يخرج عن السيطرة بحلول عام 2027، مما قد يؤدي إلى انقراض البشرية خلال عشر سنوات فقط

السيناريو المثير للقلق نشر تحت عنوان "إيه آي 2027" من قبل مجموعة من خبراء الذكاء الاصطناعي البارزين، ولاقى صدى واسعا بين خبراء في المجال.

وتتخيل الورقة أن شركة أمريكية خيالية تدعى "أوبن براين" تطوّر في عام 2027 نظاما يصل إلى مستوى "الذكاء العام الاصطناعي"، أي أنه يتمتع بقدرات عقلية تضاهي أو تتفوق على البشر. ووفقا للتصور، يلاحظ فريق السلامة الداخلي مؤشرات مقلقة على ابتعاد النظام عن الأخلاقيات التي برمج عليها، لكن الشركة تتجاهل التحذيرات

في المقابل، تتأخر شركة "دييب سينت" الصينية عن الركب بفارق بسيط، مما يشعل سباقا دوليا محموما بين الولايات المتحدة والصين. وتدفع المنافسة الشركات والحكومات إلى تسريع التطوير دون وضع قيود كافية، متجاهلين مخاطر ما يسمى بـ"عدم التوافق"، أي أن تصبح أهداف الذكاء الاصطناعي غير منسجمة مع مصلحة البشر

بحلول عام 2029، تتصاعد التوترات بين البلدين، مع تسخير أنظمة الذكاء الاصطناعي لتطوير أسلحة متقدمة. وعلى الرغم من توقيع اتفاق سلام بمساعدة الذكاء الاصطناعي نفسه، يتوقع السيناريو أن يتحول هذا الذكاء لاحقا إلى تهديد وجودي للبشر، ويقضي عليهم عبر أسلحة بيولوجية غير مرئية خلال ثلاثينيات القرن الحالي.

السيناريو الذي اعتبره البعض ضربا من الخيال العلمي، نسب إلى مجموعة تحظى بالاحترام، من بينها دانيال كوكوتاجلو، المعروف بتوقعاته الدقيقة في تطور الذكاء الاصطناعي. إلا أن نقادا بارزين مثل غاري ماركوس حذروا من أخذ التنبؤات على محمل الجد الكامل، مؤكدا أن التحديات الحقيقية حاليا تتعلق بالوظائف والرقابة، وليس بنهاية العالم.

وفي الصين، لم تحظَ الورقة باهتمام واسع. وذكرت الباحثة يوندان غونغ من كلية كينغز كوليدج أن النقاش حولها بقي محصورا في المنتديات والمدونات، دون إثارة جدل سياسي أو إعلامي كما هو الحال في الغرب

وفي حين تواصل شركات التكنولوجيا الكبرى تجاهل السيناريو أو التقليل من جديته، يواصل رواد القطاع سباقهم المحموم نحو تطوير نماذج أكثر تقدما.

وصرّح سام ألتمان، رئيس شركة "أوبن إيه آي"، أن العالم على أعتاب "ثورة هادئة" تقودها عقول رقمية خارقة، معترفا في الوقت نفسه بوجود مشكلة "توافق" لا بد من حلّها لضمان بقاء هذه الأنظمة في خدمة الإنسان

وبينما لا يزال سيناريو "إيه آي 2027" في خانة التوقعات النظرية، إلا أنه يكشف عن قلق متزايد في الأوساط العلمية من سرعة تطور الذكاء الاصطناعي، والهوة المتنامية بين قدراته المتسارعة وآليات السيطرة عليه

مقالات مشابهة

  • هل سيبقى دور الأطباء محورياً في عصر الذكاء الاصطناعي؟
  • خبراء يتوقعون انقراض البشرية بسبب الذكاء الاصطناعي
  • ابتكار عطر بمساعدة الذكاء الاصطناعي
  • الذكاء الاصطناعي الحواري.. طفرة في منظومات العمل الرقمية المجتمعية
  • الذكاء الاصطناعي يكشف خطر الإصابة بالسكري قبل الأعراض
  • الذكاء الاصطناعي الحواري .. طفرة في منظومات العمل الرقمية
  • أبل تلمح إلى استثمار كبير في الذكاء الاصطناعي
  • دراسة تحذر: هل يكون عام 2027 بداية نهاية البشرية بسبب الذكاء الاصطناعي؟
  • ورقة بحثية: الذكاء الاصطناعي قد يدمر البشرية بحلول 2027