ثمة مؤشرات عديدة على تآكل النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتقوده الولايات المتحدة ويهيمن الغرب على مؤسساته الفاعلة. وفي الوقت الذي لم يولد فيه العالم الجديد بعد، تتنافس في هذا الفراغ القوى والنماذج لتشكيل مستقبل النظام العالمي، على قاعدة متعددة الأقطاب، متشابكة المصالح، ومفتوحة على آفاق التعددية والتنوع القيمي والسياسي والاقتصادي.

ونشر مركز الجزيرة للدراسات ورقة تحليلية بعنوان "ألبانيزي، المقاومة، وديناميات التغيير في النظام الدولي" لمدير إدارة البحوث بالمركز عز الدين عبد المولى سلطت الضوء على ما اعتبرته أزمة متفاقمة بين أركان النظام الدولي، تُفقده الانسجام وتدفع به نحو تغيير عميق. وتساءلت عن مؤشرات هذا التغيير، ومساراته، وإلى أين يمكن أن تقود في نهاية المطاف؟

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نفق يمتد لقرن ونصف من الطموح.. هل آن أوان الربط القاري بين المغرب وإسبانيا؟list 2 of 2تحولات الصراع الإيراني الإسرائيلي في عدد جديد من “لباب”end of list

في 9 يوليو/تموز 2025، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو فرض عقوبات على المقررة الأممية الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيزي. وكانت إدارة الرئيس دونالد ترامب قد مارست في السابق ضغوطا على المنظمة الأممية لإقالة ألبانيزي على خلفية عملها الحقوقي ودعوتها لمحاسبة قادة إسرائيل على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

جاءت العقوبات الأميركية بعد أيام من نشر تقرير كشفت فيه المقررة الأممية وفريقها عن انخراط أكثر من 60 شركة عالمية كبرى في تمويل المستوطنات ودعم الحرب الإسرائيلية على غزة. وطالب التقرير بمحاسبة المسؤولين التنفيذيين في تلك الشركات أمام القانون الدولي.

هذه العقوبات ليست الأولى التي تفرضها الإدارة الأميركية على شخصيات أممية أو مؤسسات دولية، فقد سبق لها أن فرضت -في فبراير/شباط 2025- عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، شملت المدعي العام كريم خان، وزملاءه بعد أن أصدرت المحكمة -في نوفمبر/تشرين الثاني 2024- مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.

إعلان

هذه العقوبات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكنها تحمل خطورة بالغة لسببين:

أولا: لكونها مفروضة من القوة العظمى التي تتفرد بقيادة النظام الدولي وليس من قوى هامشية. ثانيا: لكونها لم تُفرض على من يخرق قواعد هذا النظام أو قوانينه المنظمة، بل على العكس من ذلك، فُرضت على من يسعى لتطبيق تلك القواعد والقوانين على من ينتهكها ولا يعترف بها.

لذلك، ينبغي النظر إليها باعتبارها انعكاسا لحالة قلق متصاعد إزاء المؤسسات الدولية والأممية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، تتجاوز الأشخاص المعنيين بالعقوبات.

ديناميات التغيير في النظام الدولي

في ظل تسارع التحولات الدولية، تتصاعد مؤشرات على أن العالم يعيش لحظة تاريخية من التحوّل العميق في بنية النظام الدولي، بما يشمل مراكز القوة، وأشكال الصراع، وطبيعة الفاعلين، وحتى القيم والمعايير الحاكمة للعلاقات الدولية.

واليوم، تشهد بنية هذا نظام الدولي تصدعات جدية، فالقيم التي أسّسته تهتز، والمؤسسات الأممية تُظهر عجزا بنيويا، كما تجلّى في حرب غزة، حيث عجزت الأمم المتحدة ووكالاتها عن وقف الإبادة التي تنفذها إسرائيل بدعم غربي، مما يعكس فقدان الثقة في فعالية النظام الحالي، واحتمال انهياره وولادة منظومة بديلة.

والتحول من نظام دولي إلى آخر لا يحدث فجأة، بل يمر عبر فترات انتقالية مضطربة يسودها ما يسميه أنطونيو غرامشي "ظهور الوحوش"، أي انهيار المعايير وتغوّل القوى دون ضوابط.

وتشمل مظاهر التوحش:

ازدراء القوانين الدولية. التدخلات العسكرية. تغيير الحدود بالقوة. شن الحروب، كما يحدث في غزة، حيث يعكس العدوان الإسرائيلي حالة وحشية متجسدة تنتهك كل الأعراف الدولية وسط صمت أو تواطؤ القوى الكبرى. تحولات هيكلية كبرى

تدل المؤشرات الحالية على تغييرات هيكلية وليست جزئية في النظام الدولي، وهي تشمل:

1- من نظام أحادي إلى تعددية قطبية:

منذ نهاية الحرب الباردة، هيمنت الولايات المتحدة على النظام الدولي بصفتها القوة العظمى الوحيدة. إلا أن هذا التفرد بدأ يواجه تحديات جدية مع صعود قوى مثل روسيا والصين، إضافة إلى بروز تكتلات دولية جديدة مثل بريكس.

روسيا -رغم أزمتها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي- استعادت جزءا كبيرا من قوتها ونفوذها، وبرز ذلك في تدخلها العسكري بأوكرانيا.

أما الصين، فقد صعدت بهدوء عبر مسارات اقتصادية وتكنولوجية، وتجاوزت كونها قوة إقليمية لتصبح مرشحة لدور قيادي في نظام متعدد الأقطاب.

2- من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية:

الصراع لم يعد يدور فقط حول النفوذ الجغرافي، بل باتت القوة الاقتصادية المحرّك الأهم. وتعد الصين نموذجا رائدا في ذلك، إذ بنت نفوذها عبر مشاريع ضخمة مثل "الحزام والطريق" (أو طريق الحرير الجديد، وتقوم على إنشاء حزام بري من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا وأوروبا)، في حين تتبلور مشاريع منافسة مثل "الكوريدور" الأميركي الهندي (وهو ممر اقتصادي مقترح يهدف إلى ربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا)، و"طريق التنمية" العراقي التركي الذي يربط الشرق الأوسط بأوروبا.

3- من مركزية الدولة إلى صعود الفاعلين من غير الدول:

رغم استمرار دور الدولة، فإن هناك تراجعا تدريجيا لمركزيتها، يقابله صعود تكتلات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، وفاعلين جدد مثل الشركات العابرة للقارات، وشبكات التواصل، والجماعات المسلحة. هؤلاء أصبحوا قادرين على التأثير في القرارات الدولية، بل والمشاركة في الحرب والسلم.

إعلان

4- من عولمة غربية إلى عولمة مفتوحة:

العولمة الحالية -بطابعها الغربي- فرضت نماذج ثقافية واقتصادية غربية على بقية دول العالم. ومع الاتجاه نحو انبعاث نظام دولي متعدد الأقطاب، سينفسح المجال أمام مشاركة فاعلين جدد في صياغة عولمة مفتوحة على تعدد مراكز القوة والنفوذ، وعلى اختلاف النماذج الاقتصادية والتنموية، وعلى تنوع السبل أمام المجتمعات لتطوير قدراتها وبناء نهضتها الخاصة أو الجماعية.

5- من الحروب التقليدية إلى الصراعات المركبة:

الحروب لم تعد تقليدية فقط، بل أصبحت هجينة ومعقدة، تتضمن أبعادا سيبرانية وإعلامية واقتصادية وحتى نفسية، كما أصبحت الحروب بالوكالة، والعمليات السرية، والصراعات داخل الدول باتت أكثر شيوعا من المواجهات العسكرية المباشرة.

6- تحديات قيمية وأخلاقية:

من أبرز ملامح الأزمة الحالية هو التباين الفاضح بين القيم المؤسسة للنظام الدولي وسلوك القوى الكبرى. السيادة الوطنية، وحق تقرير المصير، واحترام القانون الدولي، كلها مبادئ تُنتهك يوميا، كما يظهر في حرب غزة، حيث تمارس إسرائيل إبادة جماعية مدعومة، وسط صمت أممي ودولي.

بالمقابل، تظهر حركات المقاومة الفلسطينية كمدافع عن القيم الإنسانية العالمية، وتحظى بتعاطف شعبي واسع حول العالم، في مؤشر على تحوّل أخلاقي عالمي يعيد رسم الحدود بين العدل والقوة.

الخلاصة: تحول شامل لا مجرد تبديل أقطاب

التحولات الجارية ليست فقط تغييرا في مركز القيادة العالمية، بل هي تغيير شامل في النموذج الحاكم للنظام الدولي. نحن أمام ولادة نظام جديد، يتجاوز تعدد الأقطاب إلى تعدد الرؤى والمقاربات والمصالح والفاعلين، وقد يستغرق هذا التحول سنوات وربما عقودا، يتخللها اضطراب وتوحش، قبل أن تتبلور قواعد واستقرار عالمي جديد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات دراسات فی النظام الدولی نظام الدولی

إقرأ أيضاً:

لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. إيران تترقّب أول زيارة للوكالة الدولية للطاقة الذرية

أعلنت إيران، الإثنين، أن الضربات الأميركية التي استهدفت منشآت نووية على أراضيها ستكون بندًا رئيسيًا في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة. اعلان

أكد الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي خلال إحاطة إعلامية اليوم الأثنين 4 آب/أغسطس أنه "في أي مفاوضات محتملة، ستكون مسألة محاسبة الولايات المتحدة ومطالبتها بتعويضات على عدوانها العسكري في حق منشآت إيران النووية السلمية على جدول الأعمال".

وردا على سؤال عما إذا كانت إيران ستنخرط في محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة، قال بقائي "لا".

حرب قصيرة أطاحت بالمفاوضات

في 13 حزيران/يونيو الماضي، شنّت إسرائيل ضربات عسكرية استهدفت مواقع إيرانية حساسة، شملت منشآت نووية وعسكرية ومناطق سكنية، مما أشعل مواجهة استمرت 12 يومًا ما أدى إلى توقف محادثات دبلوماسية انطلقت في نيسان/أبريل بين طهران وواشنطن، وكانت الأرفع مستوى منذ انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. وردّت إيران بإطلاق مئات الصواريخ على أهداف داخل إسرائيل.

وفي 22 حزيران/يونيو، انضمت الولايات المتحدة إلى الحرب إلى جانب إسرائيل وضربت مواقع فوردو ونطنز وأصفهان النووية الإيرانية، باستخدام قاذفات بي 2 وصواريخ توماهوك.

وردًا على الضربات الجوية الأمريكية، شنت إيران "عملية بشائر الفتح"، التي شملت إطلاق صواريخ باليستية على قاعد العديد الأميركية في قطر.

ولاحقا، في وقت مبكر من يوم الثلاثاء 24 حزيران/يونيو، أعلن ترامب وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل في تدوينة على منصة تروث سوشيال، حيث كتب ترامب "تهانينا للجميع! تم التوصل إلى اتفاق كامل ونهائي بين إسرائيل وإيران على وقف شامل وكامل لإطلاق النا". وأطلق اسم حرب الاثني عشر يوماً على المواجهة.

ترامب يهدد برد جديد

وفي تصعيد جديد، حذر الرئيس ترامب، يوم الإثنين 28 تموز/يوليو، من أن "أي محاولة من إيران لاستئناف برنامجها النووي ستُسحق على الفور"، ملوّحًا بإمكانية تنفيذ ضربات جديدة ضد المنشآت الإيرانية.

وخلال مؤتمر صحافي عقده في منتجع "تيرنبري" باسكتلندا بعد لقائه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، قال ترامب:"قضينا على قدراتهم النووية، وإذا حاولوا إعادة تشغيلها فسنقضي عليها من جديد، وبأسرع مما يتخيلون".

Related بعد اتهامات غربية بالتحضير لمحاولة قتل واختطاف معارضين.. إيران ترد: اتهامات لا أساس لهامواقف جديدة لإيران بشأن التخصيب النووي: استئناف القتال مع إسرائيل واردفي ظل التوتر المتصاعد مع إسرائيل.. إيران ترفع جاهزيتها العسكرية وتعيد تشكيل مجلس الدفاع خلاف مستمر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية

وفيما يتعلق بالعلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أكدت الخارجية الإيرانية أنها لا تزال ملتزمة بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، لكنها انتقدت أداء الوكالة واصفًة إياه بأنه "مسيس وغير مهني"، كاشفة عن زيارة مرتقبة لنائب مديرها العام إلى طهران خلال أقل من عشرة أيام.

وفي وقت لاحق، شدد رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، إبراهيم عزيزي، على أن زيارة الوفد الأممي "ستقتصر بشكل صارم على محادثات تقنية وعلى مستوى الخبراء"، مؤكدًا أنه "لن يُسمح تحت أي ظرف بدخول الوفد أو أي جهة أجنبية إلى المواقع النووية الإيرانية".

ضغوط أوروبية متواصلة

وعلى الصعيد الأوروبي، التقى دبلوماسيون إيرانيون بنظرائهم من فرنسا وبريطانيا وألمانيا في 25 تموز/يوليو، في أول لقاء من نوعه منذ انتهاء الحرب مع إسرائيل. وتُعد الدول الثلاث من الأطراف الموقعة على الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي انهار بعد انسحاب واشنطن منه.

وحذرت العواصم الأوروبية من أنها ستلجأ إلى فرض عقوبات جديدة على طهران إذا لم تتجاوب مع مطالبها بشأن تخصيب اليورانيوم وتعزيز التعاون مع مفتشي الوكالة الذرية. في المقابل، شددت إيران على أن التخصيب هو حق سيادي مشروع، معتبرة أن أي عقوبات إضافية ستكون "إجراءً غير شرعيًا".

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة

مقالات مشابهة

  • طاقة أبوظبي تطبّق أول نظام خزانات رأسية للغاز البترولي المسال في المنشآت الغذائية بأبوظبي
  • مستشار تعليمي: نظام الفصول الثلاثة تسبب بضغط أكاديمي على الطلاب.. فيديو
  • المقاومة الفلسطينية واختبارات المواجهة الحاسمة
  • اليد الميتة.. لماذا تُعدّ منظومة الردع الروسية أخطر ما خلفته الحرب الباردة؟
  • هل تمنعك الأطعمة المصنعة من خسارة الوزن؟ إليك ما تقوله الدراسات
  • الحكومة تطالب بتفعيل كل أدوات الضغط الدولية لوقف تفشي المجاعة في غزة
  • آلة يوم القيامة النووية الروسية تهدد العالم نظام أوتوماتيكي قاتل ليس بيد البشر
  • هاني هلال: ننقل نظام التعليم الياباني لبناء الشخصية والانضباط
  • لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. إيران تترقّب أول زيارة للوكالة الدولية للطاقة الذرية