تشير المعطيات إلى أن دولة الاحتلال تقف عند مفترق طرق تاريخي، بين محاولة إثبات نفسها كشريك لا غنى عنه للغرب، أو الانجرار إلى عزلة دولية خطيرة. وفي حين تبدي أوروبا حرصا على عدم خسارة مساهمات الاحتلال في الابتكار العلمي والإجراءات الأمنية، وتدرك دولة الاحتلال أنها لا تستطيع تحمل خسارة أوروبا كمرتكز اقتصادي أساسي.



وذكر أفرام جفعوني، المستشار الاستراتيجي لعدد من السفارات الإسرائيلية والمنظمات الدولية والشركات الناشئة، أن التوجه الغالب داخل الاتحاد الأوروبي في الأشهر الأخيرة يتركز على فشل الاحتلال في تحويل إنجازاته العسكرية إلى مكاسب سياسية دوليا.

ويفاقم ذلك من حدة الانتقادات الموجهة لدولة الاحتلال في أوروبا، فمع اتساع التغطية الإعلامية السلبية ضدها، تتراجع مكانتها الدولية، وتتزايد في المقابل تهديدات الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية من مختلف الأطراف.

وأضاف جفعوني في مقال نشره موقع "ويللا" وترجمته "عربي21"، أن الأسابيع الأخيرة شهدت تصاعد الدعوات في أوروبا لبحث فرض عقوبات اقتصادية على الاحتلال في أعقاب حرب غزة وتفاقم الكارثة الإنسانية، كما أعلنت دولا مثل سلوفينيا وألمانيا بالفعل وقف صفقات أسلحة، غير أن هذه لا تعدو كونها خطوات جزئية.

ولا يبدو أن هذه الخطوات قادرة على إحداث تغيير جذري في سياسة الاحتلال حاليا، لكن يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كان الاتحاد الأوروبي مستعدا لاستخدام أقوى أدواته، أي العقوبات الاقتصادية الشاملة، ومدى فعاليتها فعلا.

وأشار جفعوني إلى أن الاتحاد الأوروبي اعتاد على استخدام العقوبات ضد أنظمة ودول تنتهك حقوق الإنسان أو تهدد النظام العالمي، مثل بيلاروسيا وليبيا وروسيا، لكن في حالة الاحتلال الإسرائيلي اقتصرت الإجراءات حتى الآن على خطوات رمزية كفرض قيود على بعض الأفراد والمنظمات، من دون إلحاق أي ضرر فعلي بالاقتصاد الإسرائيلي.

وأوضح جفعوني أن الإجراءات الأوروبية المحدودة تعود لسببين رئيسيين: أولهما بنية الاتحاد الأوروبي وقوانينه التي تشترط الإجماع في القرارات، وهو ما تعرقله حاليا دول مثل ألمانيا والمجر والتشيك التي ترفض أي خطوة قاسية ضد الاحتلال، أما السبب الثاني فيتمثل في المعارضة الأمريكية الشديدة لفرض عقوبات أوروبية على الاحتلال، وهو ما يجعل الأوروبيين يتجنبون الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن.

وأكد جفعوني أن الاتحاد الأوروبي يمثل الشريك التجاري الأكبر لدولة الاحتلال، حيث تنظم العلاقات بين الجانبين اتفاقية شراكة موقعة عام 2000 توفر إطارا للتعاون الاقتصادي والحوار السياسي، إضافة إلى التعاون البحثي عبر برنامج "هورايزون"، واتفاقية الأجواء المفتوحة، وتبادل الطلاب، وصفقات تجارية متبادلة تبلغ قيمتها نحو 50 مليار يورو سنويا، وحذر على أنه إذا قرر الاتحاد الأوروبي المضي في خطوات ضد الاحتلال، فإن التداعيات ستنعكس على مجالات رئيسية عدة.

وأضاف أن "أوروبا تعتبر أكبر مستثمر أجنبي في الاحتلال، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بقوتها المالية، ومع تزايد عجز الموازنة، وتباطؤ النمو، وتزايد الضغوط على سوق العمل، أصبحت أكثر عرضة للتأثير الخارجي من أي وقت مضى، لذلك، قد تُولّد العقوبات الشاملة ضغطًا كبيرًا، لكن ليس من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي سينجح بالتوصل لاتفاق داخلي، أو سيرغب بدفع الثمن السياسي مع الولايات المتحدة، لذلك يتمثل التحدي الاسرائيلي الرئيسي اليوم بالحفاظ على مكانتها كشريك استراتيجي لأوروبا، ومنع أي تدهور قد يُفضي لمقاطعة اقتصادية".

وأوضح أنه "من أجل تحقيق هذه الغاية، يبدو الاحتلال مطالباً بالعمل على عدة مستويات: أولها إظهار مسؤوليته الدولية التي تُساعد في تعزيز التدابير الإنسانية في غزة، وثانيها التعبير عن استعداده للانخراط في حوار سياسي مع أوروبا، وثالثها تقليل الدعم الشعبي في أوروبا لدعوات المقاطعة، ورابعها اتباع دبلوماسية مرنة، ونقل رسائل موحدة وواضحة، وإجراء حوار مفتوح مع القادة الأوروبيين، وبناء ثقة متجددة قائمة على القيم المشتركة لسيادة القانون".

وأضاف أن "المستوى الخامس يتعلق بعمل دولة الاحتلال على منح نفسها صورة مختلفة وسمعة إيجابية تُمكّنها من إبراز مساهمتها في الابتكار العالمي في مجالات الأمن السيبراني والصحة والطاقة الخضراء والأمن، بزعم أنه لا يمكن للاتحاد الأوروبي التخلي عن هذا الدور الاستراتيجي، وسادسها أن يُدرك الاحتلال أن صموده الاقتصادي لا يعتمد فقط على الأسواق والتكنولوجيا، بل أيضًا على القدرة على الحفاظ على علاقات دولية موثوقة، لأن سبيل منع المقاطعة لا يقتصر على حماية المصالح الداخلية فحسب، بل يشمل أيضًا إثبات قيمتها كشريك حيوي لأوروبا".

وحذر أن "الاستمرار الاسرائيلي في تجاهل التطورات الجارية في أوروبا قد يكون خطأً استراتيجيًا فادحًا، فلا يمكن لدولة الاحتلال أن تُصبح دولةً تُعرف بالعزلة والمقاطعة، لأنها إذا فقدت ثقة أهم شركائها في الساحة الدولية، فلن تكفيها القوة التكنولوجية والاقتصادية، وفي نهاية المطاف، لا يقتصر السؤال على ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيفرض عقوبات، بل ما إذا كان الاحتلال سيعرف كيف يقدم بديلاً أذكى، واقع لا تُصوَّر فيه كمشكلة يجب إبعادها، بل كشريك لا يمكن التخلي عنه".

وختم جفعوني بالقول إن القوة في هذا العصر لا تُقاس فقط بالدبابات والطائرات، بل أيضا بالابتكار والعلم والقدرة على تقديم حلول عالمية، مؤكدا أن على دولة الاحتلال أن تختار بين أن تصبح نموذجا للعزلة الدولية أو رمزا للشراكة العالمية، وهو خيار ليس ترفا، بل سيحدد موقعها على الخريطة الاقتصادية والسياسية للعقد المقبل.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة عربية صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية أوروبا الإسرائيلية غزة إسرائيل فلسطين غزة نتنياهو أوروبا صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية صحافة إسرائيلية صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاتحاد الأوروبی دولة الاحتلال الاحتلال فی الاحتلال أن فی أوروبا

إقرأ أيضاً:

المخاوف الأوروبية والهواجس الروسية

قبل فبراير (شباط) 2022، الموعد الذي بدأت فيه روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا، بدا كأن الحلم الأوراسي قاب قوسين أو أدنى، بمعنى المزيد من التلاحم الجغرافي والديموغرافي بين القارة الأوروبية وروسيا الاتحادية.

مثّلت ألمانيا القلب النابض للحلم عينه، ولا سيما بعد أن انسحب الجيش الأحمر من ألمانيا الشرقية. وحتى عام 2023، حافظت ألمانيا على علاقة تجارية وثيقة مع موسكو، وخاصة في قطاع الطاقة، ولا بد هنا من الاعتراف بأن المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب الباردة، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، بُنيت بفضل إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة.

هل حلّت الـ«روسفوبيا» محل الـ«أوروآسيا»؟
ربما الوضع بات أسوأ بكثير إذا أخذنا في الاعتبار الوثيقة التي نشرتها مؤخراً مجلة «نيوزويك» الأميركية، وتحمل عنوان «OPLAN DEU»، أو «أوبلان دوي»، وهي خلاصة عمل بحثيّ استشرافي عسكري ألماني قام به مجموعة من كبار ضباط الجيش، استعداداً للحظات الصدام العسكري المقبلة مع موسكو، من وجهة نظرهم.

الوثيقة/الخطة تقع في نحو 1200 صفحة، ومن أهم ملامحها نشر قرابة مليون جندي من قوات حلف شمال الأطلسي إلى الشرق في حالة الحرب مع روسيا، عطفاً على تفاصيل الطرق عبر المواني والأنهار والسكك الحديدية والطرق السريعة، فضلاً عن نظام لتزويد وحماية القوافل العسكرية.

يؤكد نفر بالغ من مسؤولي ألمانيا، عسكريين ومدنيين، أن روسيا- بوتين، حتماً ستكون مستعدة في وقت مبكر من 2029 لمهاجمة دول حلف الناتو، كما أن سلسلة من حوادث التجسس، والتخريب، وانتهاك المجال الجوي، قد تقوم بدفع موسكو للتحرك في وقت أقرب من ذلك.

المثير في خطة «أوبلان دوي» هو شِقها الآخر، حيث لا تشمل الجيش فحسب، بل تمتد كذلك إلى القطاع الخاص والمستشفيات والشرطة والخدمات المدنية، وهذا يمثل عودة إلى مفهوم «عسكرة المجتمع ككل» بهدف الدفاع، والذي ظل سائراً مهيمناً طوال أربعة عقود تقريباً من مواجهات حلفيْ «وارسو» و«الناتو».

هل يمكن بالفعل لروسيا التي أضعفتها الحرب مع أوكرانيا، أن تخطط لعمليات عسكرية في أوروبا، في المدى الزمني المنظور؟
في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم، وخلال المؤتمر السنوي للجيش الألماني في برلين، قال الفريق ألكسندر سولفرانك، قائد القيادة العملياتية للقوات المسلّحة الألمانية: «إنه رغم الحرب في أوكرانيا، لا تزال روسيا تمتلك إمكانات عسكرية هائلة. هذا يعني أن موسكو قادرة، اليوم، بالفعل على شن هجوم إقليمي محدود على أراضي حلف شمال الأطلسي».

والشاهد أنه ليست ألمانيا فحسب التي تنتابها حالة الـ«روسفوبيا»، ففرنسا وبولندا تؤمنان أيضاً بأن الكرملين يعيد بناء قواته البرية والمدفعية والجوية، ناهيك بجحافل الدرونز، كما يخطط لتوسيع قواته العسكرية النشطة إلى 1.5 مليون جندي، وخاصة في ضوء العروض السخية للعمل في الخطوط الأولى للجبهة، وتعهدات بتخفيف أعباء الديون، وتوفير رعاية للأطفال، ومقاعد في الجامعات للأبناء، وحتى دون النظر للسجلات الجنائية.

يشارك الجنرال المتقدم، دافيد بتريوس، مدير الاستخبارات المركزية الأميركية السابق، الأوروبيين، القلق نفسه، وعنده أنه إذا افترضنا أن بوتين قادر على الاستمرار في تمويل مكافآت التجنيد الضخمة والعثور على القوى العاملة المدعوة حالياً للخدمة، فإن روسيا يمكنها أن تستمر في هذا النوع من الحملة المكثفة والمُرهقة التي ميزت أعمال القتال.

يتكشف لنا، الآن، السبب في التصريحات المثيرة، وربما المخيفة، التي أطلقها سيد الكرملين، أوائل ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وقبل لقائه المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، للتباحث حول الخطة الأميركية لإنهاء الحرب مع أوكرانيا.

وصرح بوتين بالقول: «لا نخطط للحرب مع أوروبا، لكن إذا أرادت أوروبا فنحن مستعدون لها».
لم تكن إذاً تصريحات بوتين عشوائية، فرجل الـ«كي جي بي» لا يضيع، مهما مرّ من الزمن، وهواجس ألمانيا الآرية، في ثوبها القومي الشوفيني المتصاعد، لا تغيب عن أعين صقر المخابرات الروسية السابق ورئيسها الحالي.

لكن على الجانب الآخر، هناك من يرى أن ألمانيا تستفز روسيا، التي لا تزال قواتها في الجانب الشرقي من أوكرانيا وفي القرم، وبعيداً عن أي تهديد فعلي. أضفْ إلى ذلك أنه لو رغب القيصر الروسي في قصف أوروبا جواً وبراً وبحراً، فلن يثنيه شيء.

وبالنظر إلى رؤية الرئيس ترمب لأوروبا، كما وردت في استراتيجية الأمن القومي الجديدة، يمكن القطع بأن واشنطن لا تسعى لأي صدام مع موسكو.
هنا السؤال: هل الخوف من روسيا يمكن أن يُدخلها في خانة غير المتوقع الذي يحدث عادة؟
تبدو ليالي 2026 حُبلى بالمفاجآت.

الشرق الأوسط

مقالات مشابهة

  • المخاوف الأوروبية والهواجس الروسية
  • سياسي: خطة المفوضية الأوروبية تجاه أموال روسيا المجمدة تهدد الاقتصاد الأوروبي
  • 2025.. عام مالي معقد في الاتحاد الأوروبي بسبب اتساع العجز
  • زخم متنامٍ: هل تتمكن المبادرات الأمنية من معالجة قضايا الأمن الجماعي الأوروبي؟
  • صدع يضرب ضفتي الأطلسي| ترامب يهدد بالتصعيد ضد أوروبا.. وقادة القارة العجوز يتعهدون بالاستقلال عن واشنطن
  • ألمانيا تَطعن المحكمة الجنائية الدولية
  • الفائز بـيوروفيجن يعيد الكأس بسبب مشاركة الاحتلال.. دولة إبادة جماعية
  • وثيقة مسرّبة تهدد بتفريق أوروبا: ترامب يسعى لفصل أربع دول عن الاتحاد الأوروبي
  • نائب وزير الخارجية والمفوضة الأوروبية يبحثان تعزيز التعاون
  • اللجوء إلى القارة العجوز.. هل يجبر البرلمان الأوروبي الدول الأعضاء على قبول الهجرة غير النظامية؟