لعلك لا تجد اليوم في الأدبيات العبرية كلمة توازي كلمة "الكابوس" بالنسبة لإسرائيل أكثر من كلمة "انتفاضة". فالانتفاضة كانت على الدوام نقطة مفصلية في حركة الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال؛ ثورة شعبية عارمة تقلب الموازين وتغير الوقائع على الأرض.
لذلك خشيت إسرائيل دوما من احتمال تكرار الانتفاضة بعد أن شهدت أحداثها مرتين خلال عقود الاحتلال الطويلة.
أما الانتفاضة الثانية عام 2000، فقد أدت إلى انقسام فصائلي واضح بين معسكر تخلى عن السلاح لصالح النضال السياسي والدبلوماسي، وآخر تبنى خيار المقاومة المسلحة وتطور إلى بنى منظمة قادرة على إدارة معارك عسكرية وحروب عصابات وشوارع.
في الحالة الأولى واجهت إسرائيل حقيقة أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 لم يستسلموا للاحتلال، ولم تقنعهم "التسهيلات" في الحركة بأن يقبلوا بمصادرة الأرض وتوسيع الاستيطان.
وجاءت شرارة الانتفاضة من غزة إثر دهس مستوطن عمالا فلسطينيين، فاندلع فعل شعبي مفاجئ وعارم؛ تطور من الحجر والمقلاع إلى السكين فالبندقية فالعبوات الناسفة مع نهاية المرحلة. ومع تراكم الكلفة، فُرض واقع سياسي جديد أدى إلى توقيع اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، بما يعنيه ذلك من تخلص إسرائيل من عبء إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين في الضفة وغزة.
ولم يكد العالم يظن أن الفلسطينيين سلموا بفكرة السلطة باعتبارها الطريق العملي لإقامة الدولة المفترضة بحلول سبتمبر/أيلول 1999، حتى فاجؤُوه بانتفاضة الأقصى في أواخر سبتمبر/أيلول 2000.
انطلقت بالسلاح الناري مباشرة، وشهدت منذ بداياتها انخراط الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى جانب فصائل المقاومة. واستخدمت إسرائيل لأول مرة الطيران الحربي والصواريخ الموجهة في قصف المدن الفلسطينية، فارتفعت الخسائر في صفوف الفلسطينيين، لكن الاحتلال تكبد أيضا خسائر بشرية وسياسية موجعة، ليس أقلها اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي على يد مقاومي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001.
إعلانوفي النهاية، اضطرت إسرائيل إلى واحد من أكثر تراجعاتها خطورة في تاريخها المعاصر حين انسحبت من قطاع غزة 2005، وفككت مستوطناته، في مشهد أثبت أن إسرائيل يمكن أن تهزم وتنسحب، وليست قدرا ثابتا.
من هنا ارتبطت كلمة "انتفاضة" في الوعي الإسرائيلي بالتراجع القسري والتغييرات العميقة، فباتت الحكومات اللاحقة تسخر إمكاناتها لمنع انتفاضة ثالثة. ومع ذلك بقي شبحها ماثلا.
ففي 2015 فجر مهند حلبي "هبة القدس" بعملية طعن أعقبتها عمليات متتالية ردا على منع الرباط في المسجد الأقصى، فاندفع وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إلى المنطقة لضبط التدهور. وتكرر المشهد في 2017 خلال "هبة باب الأسباط"، حين أُجبرت حكومة نتنياهو على إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل الأقصى بعد عملية مستوطنة "حلاميش". وكان المعنى واحدا: أي احتكاك قابل لأن يتدحرج إلى انتفاضة ثالثة.
اليوم، ومع تلاقي المشاهد في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، تتشكل ملامح مرحلة لا يمكن أن تستمر طويلا دون انفجار. وتشير المؤشرات إلى أننا أقرب ما نكون إلى انتفاضة ثالثة قد تكون أشد وأوسع وأطول نفَسا؛ ليس لأنها خيار معد سلفا، بل لأنها مسار تفرضه الوقائع التي خلقها الاحتلال نفسه.
أولى هذه الوقائع ما يجري في قطاع غزة من مجازر ودمار غير مسبوقين وصفهما طيف واسع من المنظمات الدولية والحقوقية بالإبادة الجماعية، وأدانتهما أغلب دول العالم باستثناء الولايات المتحدة وعدد قليل من الحكومات المتحالفة مع إسرائيل.
هذا المسار انعكس على بقية الملفات الفلسطينية: الأسرى والسجون والضفة والقدس والمسجد الأقصى. أما صمت الفلسطينيين الظاهر فلا يقرأ إلا باعتباره صدمة ترويع مؤقتة؛ فالتاريخ يقول إن الشعوب في الصراعات الطويلة تحول الصدمة إلى موجة غضب وفعل منظم.
وفي القدس والمسجد الأقصى تتسارع محاولات نقل السيادة الفعلية من يد الأوقاف الإسلامية إلى هيئة استيطانية متطرفة أنشأها المستوطنون باسم "إدارة جبل المعبد"، تتعاطى معها الحكومة بحكم الأمر الواقع وإن لم تعلن اعترافا رسميا بها.
ونحن على أعتاب الموسم السنوي الأخطر على المسجد، يمتد من 22 سبتمبر/أيلول حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول، ويشمل رأس السنة العبرية ويوم الغفران وعيد العرش؛ وهي مناسبات يرتبط جزء كبير منها بالأقصى وتشهد كل عام محاولات فرض وقائع جديدة.
ومع تبدل موازين القوة والمخاوف من الانفجار، تبدو احتمالات تشييد كنيس داخل حدود المسجد لأول مرة مطروحة عمليا على جدول تيار الصهيونية الدينية.
أما الضفة الغربية فتواجه توحشا غير مسبوق لعصابات المستوطنين برعاية حكومية كاملة. فقد تحول هؤلاء إلى ما يشبه جيشا موازيا، يجري تسليحه وتدريبه بصورة منهجية؛ إذ تشير المعطيات المتداولة إلى توزيع أكثر من ربع مليون قطعة سلاح عليهم خلال العامين الأخيرين عبر وزارة الأمن القومي التي يقودها إيتمار بن غفير.
وهذا التسليح المكثف يرافقه خطاب أيديولوجي متشدد يسعى لفرض سيطرة يهودية مطلقة على الأرض والسكان عبر تشديد الحواجز والاعتداء على القرى، وفرض وقائع قسرية هناك، وبهذا تتقاطع إرادة المستوطنين مع سياسات الحكومة التي تدفع باتجاه الضم، وتفكيك إمكانية قيام كيان فلسطيني قابل للحياة.
إعلانتتداخل مع تلك الحقائق مسألة السلطة الفلسطينية، التي مثلت قيادتها الحالية عاملا كابحا لاندلاع انتفاضة عامة عبر التنسيق الأمني وإدارة الشأن الداخلي. غير أن وجودها اليوم يبدو على شفير الانهيار لأسباب مالية وبنيوية وسياسية.
فمشروع ضم الضفة الذي يدفع به تيار الصهيونية الدينية يتناقض جذريا مع بقاء سلطة تمثل الفلسطينيين- ولو رمزيا- داخل الأرض المحتلة.
ويتخيل هذا التيار أن الضم سيفضي عمليا إلى دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين نحو الأردن وفق أفكار "الترانسفير" التي روج لها رحبعام زئيفي، وهو خيار يصعب تطبيقه في ظل وجود سلطة تعد عنوانا سياسيا للفلسطينيين في الداخل. لذا يصبح إسقاطها- عبر خنقها ماليا وتفكيك بنيتها- هدفا منطقيا ضمن هذا التصور.
لكن ما لا يحسب الاحتلال حسابه أن السلطة ليست مجرد وزارات وميزانيات؛ فقد نشأت معها أجهزة أمنية صُرفت عليها ملايين الدولارات في التدريب والتسليح، وأفراد هذه الأجهزة مسلحون ومنتشرون في المدن والقرى والمخيمات. وهم لا يحملون بالإجماع بالضرورة الرؤية السياسية ذاتها التي تتبناها القيادة الرسمية، وقد يجدون أنفسهم- إذا شعروا بتهديد مباشر لهم ولعوائلهم- أقرب إلى الانحياز لمجتمعهم وأحيائهم من الانضباط لأوامر سياسية عاجزة عن حمايتهم من محاولات التهجير القسري التي قد ترافق مشروعات الضم.
وهذا الاحتمال يضيف عنصر عدم يقين خطيرا على أي سيناريو تتطلع إليه القوى الإسرائيلية لدفع الفلسطينيين خارج معادلة الأرض.
وعليه، فإن الضفة الغربية تقف اليوم عند نقطة تجمع ثلاثة عناصر قليلة الاجتماع، هي: كثافة السلاح بين فاعلين أهليين، ضغط يومي متصاعد بفعل الاستيطان والحواجز والاعتقالات، وانسداد أفق سياسي واقتصادي.
هذه وصفة كلاسيكية لانفجار شعبي واسع لا يحتاج إلى قرار مركزي، على عكس الانتفاضتين السابقتين اللتين كانت لهما قيادة سياسية واضحة. وما يرجح هذا السيناريو أن الجمهور- إذا شعر بأن الكلفة موزعة على الجميع- ينتج قياداته الميدانية الخاصة تلقائيا، وتلتحق به الفصائل قسرا، أو يفرز قيادة جديدة برؤية تختلف جذريا عن السلطة وعن الفصائل التقليدية.
قد تتخذ الانتفاضة المقبلة عند اندلاعها أشكالا مركبة: عمليات موضعية متزامنة، تعطيلا لشبكات الطرق الاستيطانية، اشتباكات ليلية حول الحواجز، ومقاومة شعبية واقتصادية تعيد تعريف العلاقة اليومية مع الاحتلال.
ومن المرجح أيضا أن تلعب التكنولوجيا البسيطة ومنصات الاتصال المغلقة دورا مركزيا في التنظيم والتنسيق بعيدا عن أعين الرقابة، وأن يترافق الحراك الميداني مع موجة قانونية وإعلامية دولية أوسع تستثمر تحولات الرأي العام العالمي بعد مشاهد غزة، بما يقلص قدرة إسرائيل على إدارة المواجهة بوصفات أمنية تقليدية.
ولا يعني ذلك أن الطريق ممهد؛ فإسرائيل ستسعى إلى امتصاص الصدمات عبر اعتقالات واسعة وعمليات مركزة ضد البؤر النشطة، ومحاولات شق الصف الفلسطيني سياسيا وميدانيا، كما حاولت في مشروع روابط القرى في الثمانينيات.
لكن خبرة العقود الماضية تقول إن الإجراءات الأمنية مهما بلغت شدتها لا تستطيع وحدها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء إذا تبدلت الشروط على الأرض. ومع كل يوم يظل فيه الأفق السياسي مسدودا، تتزايد احتمالات الانفجار، وتتقلص فرص نجاح البدائل الجزئية، أو الترتيبات المؤقتة.
إلى جانب هذه المحددات الأمنية والسياسية، تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورا مسرعا. فالمشهد المعيشي في المدن والمخيمات يتدهور بفعل الحصار، وارتفاع الأسعار، وتفاقم القيود على الحركة بين القرى والبلدات، وتعطل الحياة الجامعية مرارا بفعل الاقتحامات، ما يعمق شعور الأجيال الشابة بانسداد المستقبل، ويغذي قابلية الانخراط في أنماط مقاومة مرنة لا تتطلب بنى تنظيمية ثقيلة.
إعلانكما أن شبكات العائلة والحي باتت تؤدي وظيفة الإسناد اللوجيستي للنشاطات الميدانية، من توفير الملاذات إلى مراقبة تحركات الجيش والمستوطنين، وهو ما شوهد بوضوح في مدن شمال الضفة وريفها خلال العامين الأخيرين. وفي الوقت نفسه، تتزايد مبادرات المقاطعة الاقتصادية والرفض المدني اليومي للإدارة المدنية للاحتلال وما يتعلق بها.
خلاصة القول: إن العناصر التي جعلت كابوس "الانتفاضة" حاضرا في الوجدان الإسرائيلي، أي الخسائر الكبيرة والتراجعات القسرية وتغير موازين القوة، تعود اليوم بصورة أكثر كثافة واتساعا.
غزة الجريحة، والقدس المهددة بمعادلات سيادة جديدة داخل الأقصى، والضفة التي تتعايش مع جيش مستوطنين موازٍ وسلطة آيلة للانهيار؛ كلها تشكل لوحة يصعب استمرارها دون حدث مفصلي.
ولئن اختلفت السيناريوهات التفصيلية لشكل الانفجار المقبل، فإن الثابت أن ما بعده لن يكون كما قبله؛ وسيَكتب فصلا جديدا في تاريخ القضية الفلسطينية، وإن غدا لناظره قريب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات
إقرأ أيضاً:
“الذكرى الثانية لطوفان الأقصى”.. اليمن بين القيادة الحكيمة والتعبئة الشعبية
يمانيون | تقرير
مع حلول الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى”، تتجدد أمام العالم صورة موقف اليمن الثابت والصارم تجاه العدوان الظالم على غزة، موقف لم يكن مجرد بيانات رمادية أو تصريحات شكلية، بل ترجمة حقيقية لإرادة شعب يمتلك وعياً تاريخيًا واستراتيجية واضحة في الدفاع عن القيم والمقدسات.
هذه الذكرى ليست مجرد تذكير بتاريخ العمليات العسكرية، بل اختبار حي لإدراك العالم العربي والإسلامي أن اليمن يرى في القضية الفلسطينية قضية مركزية، ويمارس التزامه تجاهها بكل أبعاد القوة السياسية والشعبية والعسكرية.
من هذا المنطلق، تتجلى أهمية تحليل الموقف اليمني ليس كحدث عابر، بل كدرس استراتيجي متكامل في صمود الشعوب أمام العدوان وإرادة الهيمنة.
اليمن، منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني على غزة، لم يكتفِ بالإدانة، بل حول الموقف إلى خطة عمل عملية ومباشرة، دمجت بين الخطاب السياسي، التعبئة الشعبية، والرد العسكري المدروس، لتشكل نموذجًا استراتيجيًا فريدًا في المنطقة.
هذه التجربة تكشف أن الوقوف إلى جانب فلسطين ليس خيارًا تزيينيًا، بل واجب أخلاقي واستراتيجي، وأن إرادة شعب متحدة مع قيادته يمكن أن تُحدث أثرًا ملموسًا في موازين القوى، وتثبت للعالم أن الدفاع عن الأرض والمقدسات ليس كلامًا على الورق، بل موقفٌ يُمارس على الأرض، يقرأه العدو قبل الصديق.
الرؤية الاستراتيجية للرئيس المشاط
في الذكرى الثانية لعملية طوفان الأقصى المباركة خرج فخامة رئيس المجلس السياسي الأعلى الرئيس مهدي المشاط، بتصريحات ترسم إطارًا استراتيجيًا متكاملًا لموقف اليمن تجاه العدوان الصهيوني، مؤطرة بمبدأ الحق المشروع في الدفاع عن النفس.
العملية التي وصفها بأنها إعلان تاريخي عن إرادة شعب رفض أن يُدفن حيًا، تتجاوز اللحظة العسكرية لتصبح رسالة سياسية وعسكرية متكاملة، تؤكد أن الرد اليمني ليس مجرد رد فعل، بل استراتيجية مدروسة تهدف إلى الحفاظ على الحقوق والأرض والمقدسات، وتحديد ملامح التوازن بين القوة والحق.
في كلمات الرئيس، تتضح إرادة اليمن في مواجهة الاحتلال بكل أبعادها، من القوة إلى الرمزية، ومن الدفاع عن الأرض إلى حماية الكرامة.
الرئيس المشاط يجعل من “طوفان الأقصى” نقطة تحول في الصراع، ليس على المستوى الفلسطيني فقط، بل على المستوى الإقليمي والدولي، حيث تعكس تصريحاته إدراكًا تامًا للبعد الاستراتيجي للعملية، وتأثيرها على مشاريع التهويد والتطبيع.
في كل عبارة، يربط المشاط بين الإرادة الشعبية الفلسطينية وصمودها على الأرض، وبين القدرة اليمنية على دعم هذا الصمود، مشيرًا إلى أن المقاومة المنظمة والمستدامة هي السبيل الوحيد لمواجهة العدوان، وأن كل خطوة يخطوها الشعب اليمني أو قيادته تحمل أبعادًا تاريخية وسياسية واضحة.
كما أن الرئيس يؤكد الدور الأخلاقي والتاريخي لليمن في حماية القضية الفلسطينية، معتبرًا أن الصمت أو التردد ليس خيارًا.
من خلال إشادته بصبر الفلسطينيين وصمودهم، وبتضحيات الحلفاء والشركاء في المنطقة، يبرز المشاط أن موقف اليمن ليس منفصلًا عن السياق العربي والإسلامي، بل جزء من استراتيجية أوسع للتضامن والمواجهة.
تصريحاته تضع اليمن في موقع قيادي يربط بين القوة العسكرية، والوعي الشعبي، والبعد الرمزي للمعركة، لتشكل رؤية متكاملة للتعامل مع العدوان على فلسطين بشكل يفرض معادلات جديدة على كل الأطراف.
ترجمة الموقف إلى عمل ميداني متكامل
اليمن منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني الظالم على غزة لم يكتفِ اليمنيون بالكلمات، بل حول الموقف إلى واقع ملموس على الأرض، من خلال دمج الخطاب السياسي مع التعبئة الشعبية والقدرات العسكرية.
الضربات الجوية والصاروخية الدقيقة على العمق الصهيوني، وتفعيل الطائرات المسيرة والصواريخ الفرط صوتية، لم تكن مجرد عمليات عابرة، بل أدوات استراتيجية لإعادة رسم موازين القوة وإظهار هشاشة الدفاعات الإسرائيلية.
هذه العمليات شكلت رسالة واضحة أن اليمن قادر على تحويل الإرادة السياسية إلى تأثير ملموس، وأن الدفاع عن فلسطين ليس مجرد موقف أخلاقي، بل أداة استراتيجية لتغيير المشهد الإقليمي.
على مدى عامين، استمرت العمليات اليمنية بشكل متواصل، مع توسع نطاق الحصار البحري ليشمل السفن الإسرائيلية والداعمة لها، وصولًا إلى شركات الملاحة العالمية المتعاملة مع الكيان.
هذه الإجراءات لم تمر بصمت على المستوى الدولي، فقد أدرك العدو والوسطاء أن المعادلة اليمنية ليست مجرد تهديد مؤقت، بل مشروع استراتيجي طويل الأمد قادر على فرض التوازن وإعادة تشكيل حسابات القوى في المنطقة، مما يؤكد أن الموقف اليمني كان أكثر من مجرد رد عسكري، بل خطة متكاملة لفرض إرادة وطنية واستراتيجية واضحة.
التعبئة الشعبية كقوة موازية
التجربة اليمنية أكدت أن القوة الحقيقية للدولة تتجسد فقط عندما ينسجم الشعب مع قيادته. مسيرات مليونية انطلقت في كل المحافظات، من الجامعات إلى القرى والقبائل، لتعلن التضامن الكامل مع فلسطين.
هذه المشاركة لم تكن رمزية، بل تعبير عن وعى تاريخي وأخلاقي يربط بين الدفاع عن المقدسات والالتزام الشعبي المباشر، مؤكدًا أن الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية واجب يخرج عن إطار الاختيارات السياسية ليصبح ممارسة حية وملموسة على الأرض.
الدعم الشعبي امتد إلى أبعاد لوجستية وعسكرية دقيقة، حيث شارك المتطوعون في تدريب المقاتلين، تجهيز المعسكرات، وتنسيق الدعم الميداني مع القوات المسلحة. هذا الدمج بين التعبئة الجماهيرية والقدرات العسكرية الرسمية خلق منظومة صمود متكاملة، تعزز الانتماء الوطني والديني، وتحوّل الالتزام الأخلاقي إلى أفعال ملموسة تؤثر مباشرة في موازين القوى، وتضع اليمن في موقع قوة لا يمكن تجاهله.
علاوة على ذلك، لعبت الحملات الشعبية دورًا استراتيجيًا في التأثير على الرأي العام الدولي، وكشف حجم التضامن اليمني غير المسبوق مع الشعب الفلسطيني. كل تبرع، وكل تدريب، وكل مشاركة في التعبئة الجماهيرية كانت جزءًا من خطة شاملة، تعكس قدرة المجتمع على تحويل دعم القضية الفلسطينية إلى استراتيجية وطنية فعالة، تربط بين القوة العسكرية والشرعية الأخلاقية والسياسية، وتؤكد أن الشعب اليمني أصبح قوة موازية لا تقل تأثيرًا عن الجيش في مواجهة العدوان.
مواجهة الضغوط الدولية والتحديات الاستراتيجية
التصعيد الأمريكي والدولي لم يثنِ اليمن عن موقفه، بل أكد العكس. التدخل الأمريكي المباشر لمحاولة وقف العمليات، وإعلان واشنطن البدء في إجراءات عسكرية محدودة، لم يغير شيئًا على الأرض.
انسحاب القوات الأمريكية من نقاط المواجهة في البحر الأحمر شكل مؤشرًا واضحًا على فشل محاولات تثبيط اليمنيين عن ممارسة موقفهم المشروع.
في هذا السياق، يظهر جوهر الدرس الاستراتيجي: الإرادة الشعبية والقيادة المتماسكة قادرة على مقاومة الضغوط الدولية وتحقيق نتائج ملموسة، وأن القوة لا تعني السيطرة المطلقة، بل القدرة على فرض معادلات جديدة في مواجهة الخصوم، مهما علا صداها على المستوى العالمي.
اليمن أثبت أن الموقف الثابت والقرارات الحازمة تستطيع أن تغيّر موازين القوى الإقليمية، وتجعل من القضية الفلسطينية محورًا حقيقيًا للتأثير الاستراتيجي.
اليمن نموذج متكامل للصمود والدفاع عن القيم
تؤكد تجربة اليمن في مواجهة العدوان الصهيوني على غزة، أن الصمود ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل ممارسة استراتيجية متكاملة، تجمع بين القيادة الحكيمة، التعبئة الشعبية، والقدرات العسكرية.
هذا النموذج يثبت أن الإرادة الشعبية، حين تتحد مع قيادة حازمة ومواقف واضحة، تستطيع إعادة صياغة المشهد الإقليمي، حماية الحقوق والمقدسات، وإعطاء درس للعالم بأن الدفاع عن القيم والمبادئ ليس خيارًا، بل واجب تاريخي وأخلاقي واستراتيجي.
اليمن بهذا الموقف يقدم نموذجًا متكاملًا لأي مجتمع يسعى للحفاظ على هويته ومقدساته في مواجهة العدوان والتحديات الاستراتيجية، ويؤكد أن الإرادة الموحدة بين القيادة والشعب، المدعومة برؤية واضحة واستراتيجية دقيقة، يمكن أن تحقق نتائج ملموسة تعيد صياغة موازين القوى على الأرض، وتثبت أن الحق يمكن أن يقف صامدًا أمام كل التحديات والضغوط.
المصدر : موقع 21 سبتمبر