دروس الحرب التي لم نتعلمها
تاريخ النشر: 11th, September 2025 GMT
صفاء الزين
من يتأمل المزاج السوداني في خضم الحرب الراهنة يلحظ مفارقة مؤلمة: الناس يئنون تحت وطأة الجوع والنزوح وانهيار الحياة اليومية، ومع ذلك يتهلل بعضهم كلما أحرز طرف من أطراف الصراع تقدمًا عسكريًا. كيف لإنسان يكتوي بنار الحرب أن يفرح باستمرارها؟ هذا التناقض لا يُفهم إلا إذا أدركنا أن الحرب لم تعد حدثًا عابرًا، بل غدت بيئة كاملة تعيد تشكيل الوعي وتعيد تعريف معنى الفرح ذاته.
صوت من الواقع: في مدينة الخرطوم، تحكي أم أحمد، وهي نازحة فقدت منزلها، عن ابنها الذي يتابع أخبار المعارك بحماس وكأنها مباراة رياضية، بينما هي تتساءل: “كيف نفرح بالنصر ونحن ننام على الرصيف؟” هذا الانقسام بين أمل الشباب ويأس الواقع يعكس كيف تُشكّل الحرب العقول.
الانتصارات العسكرية زائلة ومتقلبة. اليوم يسيطر طرف على مدينة، وغدًا يخسرها. لكن الإعلام الدعائي يحوّل هذه اللحظات العابرة إلى مشهد يشبه مباراة كرة قدم: من فاز؟ من خسر؟ فينخرط الناس في لعبة النتائج اللحظية، بينما يغيب السؤال الأهم: متى تنتهي الحرب؟
التاريخ يقدم دروسًا مشابهة. في الحرب الأهلية الإسبانية، فرحت شعوب منهكة بانتصارات ميدانية لم تغيّر مصيرها، بل أجلت الانهيار. الفلاسفة، مثل هانا آرنت، حذروا من تحويل الانتصار إلى “تسجيل نقاط” يفرّغ المعنى الإنساني ويجعل الناس أسرى منطق العنف.
هكذا، تعسكر الحرب المدن والعقول معًا. يذوب الفرح المدني المرتبط بالسلام والتعليم والتنمية، ويُستبدل بفرح عسكري قصير الأمد: سيطرة على موقع، رفع علم، تراجع خصم. مع الوقت، يتجذر هذا التحول في المخيلة الشعبية، ليصبح أخطر من المدفع نفسه، إذ يواصل التدمير حتى بعد توقف إطلاق النار.
الفرح الحقيقي للإنسان لا يكون بالرصاص، بل بوقفه. لا يكون بالسيطرة على المدن، بل بعودة الحياة إليها. هو فرح السلام حين تمتلئ الأسواق بالخيرات لا بالذخائر، وحين تُفتح المدارس بدل المتاريس، وحين يُحتفل بإنجازات تبني الحياة لا بمعارك تحصدها. لاستعادة هذا الفرح، يحتاج السودانيون إلى مبادرات مجتمعية تُعيد بناء الثقة، مثل حوارات السلام المحلية ودعم المبادرات التعليمية في مخيمات النزوح، ليبدأ الناس بتخيل مستقبل يتجاوز الحرب.
التاريخ يعلمنا أن الانتصار العسكري، مهما بدا عظيمًا، لا يساوي شيئًا إن لم يُترجم إلى سلام. والفلسفة تذكّرنا أن الفرح الحقيقي هو ما يمنح الوجود الإنساني معنى أبقى. أما كل فرح بغير ذلك، فهو فرح زائف لن يخلّف سوى إطالة أمد الخراب. الوسومصفاء الزين
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: صفاء الزين
إقرأ أيضاً:
من أزمة السيولة وتأخر الرواتب إلى خطر طباعة العملة.. هل يكون الدفع الإلكتروني هو الحل؟
د. أحمد بن إسحاق
تأخر صرف رواتب موظفي القطاع العام لعدة أشهر في المحافظات المحررة، كشف عمق أزمة السيولة النقدية التي تعانيها البلاد، في ظل تراجع الإيرادات وتباطؤ حركة التداول المالي. ومع استنفاذ أغلب الوسائل التقليدية لمعالجة العجز النقدي، لم تعد طباعة عملة جديدة خيارًا آمنًا، لما تحمله من مخاطر تضخمية واهتزاز في قيمة العملة الوطنية.
في المقابل، يمكن للحكومة أن تتجه نحو إصلاح نقدي ذكي يقوم على التحول إلى نظام الدفع الإلكتروني، بحيث تُصرف المرتبات عبر بطاقات مصرفية أو محافظ رقمية، تُستخدم في عمليات الشراء داخل الأسواق والمتاجر في المدن والأرياف على حد سواء.
هذا التحول لا يعالج فقط نقص السيولة الورقية، بل يحقق جملة من الفوائد الاقتصادية والإدارية، أبرزها:
تقليل تكاليف طباعة العملة وما يصاحبها من نفقات النقل والحراسة والتوزيع.
الحد من تلف العملة الوطنية وتسريع تداولها بشكل رقمي آمن.
تسهيل تنقل الأموال بين المحافظات دون الحاجة إلى نقل نقد فعلي.
تعزيز الشفافية والرقابة على الإنفاق العام والرواتب.
إعادة الثقة بالجهاز المصرفي وتشجيع المواطنين على التعامل البنكي المنتظم.
فتح الباب أمام خدمات مالية حديثة، مثل القروض الصغيرة، وسداد الفواتير إلكترونيًا، والمساعدات الرقمية المنظمة.
ومن الناحية الاقتصادية، يُعد إنشاء منظومة الدفع الإلكتروني استثمارًا منخفض التكلفة وعالي العائد، إذ إن تجهيز البنية التحتية من أجهزة نقاط البيع (POS) والأنظمة البنكية الحديثة أقل كلفة بكثير من إصدار نقد جديد، بينما يدفع المواطن رسومًا رمزية لا تتجاوز ما ينفقه حاليًا على التحويلات النقدية التقليدية. كما أن البنوك وشركات الاتصالات ستحقق عوائد تشغيلية مستدامة من الخدمة، مما يجعل النظام قادرًا على تمويل ذاته دون عبء على ميزانية الدولة.
ولضمان نجاح هذه المنظومة، يمكن للحكومة إصدار قرارات تنظيمية ذات طابع إلزامي — وهي بمثابة قوانين تنفيذية في المرحلة الراهنة — تُلزم المؤسسات الحكومية بصرف المرتبات عبر البنوك أو المحافظ الإلكترونية، وتشجع البنوك والمحلات التجارية على اعتماد نقاط البيع الإلكترونية من خلال حوافز ضريبية وتشجيعية مؤقتة.
كما يُستحسن أن يتولى البنك المركزي إنشاء وحدة متخصصة للتحول الرقمي المالي، تنسق بين البنوك وشركات الاتصالات وتشرف على مراحل التطبيق تدريجيًا، بدءًا من المحافظات المحررة كميدان تجريبي. ويواكب ذلك برنامج توعية مجتمعية لتبسيط فكرة الدفع الإلكتروني وطمأنة المواطنين إلى أمانه وسهولة استخدامه.
إن تجاوز أزمة السيولة في اليمن لا يتطلب طباعة المزيد من النقود، بل تبنّي فكر مالي حديث يوجّه التعاملات نحو الشفافية والكفاءة، ويعيد الثقة بالعملة الوطنية والقطاع المصرفي، ويضع الاقتصاد اليمني على طريق التحول الرقمي المستدام.