بعد عاميـْن من الحرب اختفى كل شيء في غزّة
تاريخ النشر: 7th, October 2025 GMT
أُورْلي نُـوْي
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
بعد نحو أسبوعين من السابع من أكتوبر تلقيت رسالة عبر تطبيق «واتساب» من أحد المعارف في غزة. طلب مني أن أطمئن على والدته التي كانت ترقد حينها في أحد مستشفيات القدس الشرقية بعد أن انقطع تواصله معها لعدة أيام. وعندما سألته عن تفاصيلها صمت ولم يرد.
قبل شهر تقريبًا وصلتني رسالة منه فجأة: «مرحبًا أورلي» كتبها بالعربية.
من الصعب حقًا وصف الجحيم غير المسبوق الذي مررنا به خلال العامين الماضيين، لكن ربما الكلمة التي تختصر هذا المشهد المروّع بأكمله هي: الاختفاء، فقد تلاشى كل شيء تقريبًا. لم تختفِ عشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة فقط الذين مُسحوا من الوجود بلا قبور ولا سجلات كأنهم لم يخلقوا يومًا، بل تلاشت أيضًا مفاهيم أساسية كانت تشكّل جوهر إنسانيتنا. تلاشت الأخلاق والرحمة والحياء والأمل وكذلك المستقبل.
انهار المنطق الذي كان ينظّم الحياة اليومية. لم يعد هناك ما يُفهَم أو ما يُنتظر أن يكون مفهومًا. حربٌ كان يُفترض أن هدفها استعادة الأسرى، وتفكيك حركة «حماس» تحوّلت تحت غطاء شعارٍ غامض عن «النصر الكامل» إلى إبادة جماعية شاملة. والمجتمع الإسرائيلي احتضنها في حالة من الذعر والانبهار في آن واحد أمام كسرٍ لمحظور قديم، وإغراء الحلم المعلن بزوال الفلسطينيين تمامًا.
قبل عامين بعد أيام من هجوم السابع من أكتوبر حذّرتُ من أن الانتقام لن يجلب سوى المزيد من العنف والمعاناة. كنت أدرك أن الرد الإسرائيلي سيكون منفلتًا، لكن حتى في أسوأ كوابيسي لم أتخيّل أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ من الإبادة المنهجيّة المحسوبة. لم أظن أن إسرائيل ستجوع الناس حتى الموت. ولم أتخيّل أنها ستمحو في المتوسط صفًّا دراسيًا كاملًا من الأطفال كل يوم على مدى عامين كاملين. ولم أظن أن العالم سيسمح لها بذلك؛ ذلك الشكل الغريب من معاداة السامية المقلوبة (أي منح إسرائيل حصانة أخلاقية بدعوى خصوصيتها اليهودية) التي تعني فعليًا إن القوانين الإنسانية لا تنطبق على هذا الكيان اليهودي الجماعي.
لقد طبعت خلال العامين الماضيين أمور شاذّة للغاية. صارت النقاشات تدور حول ما إذا كان أطفال غزة المنتفخة بطونهم قد ماتوا جوعًا حقًا أم بسبب أمراضٍ سابقة؛ وبالتالي فإن إسرائيل ليست مسؤولة عن موتهم. تحوّلت تلةٌ في مدينة سديروت الإسرائيلية إلى نقطة جذب سياحي يأتي الناس إليها ليشاهدوا بمتعةٍ خفية أعمدة الدخان المتصاعدة فوق غزة.
سادت حالة من الانفصام الجماعي في الوعي الإسرائيلي. فحتى بعد أن صار واضحًا أن تدمير غزة وسكانها لن يعيد الأسرى، بل يعرّض حياتهم للخطر -كما أكد جميع من أُفرج عنهم-، وحتى بعد أن ثبت أن السبيل الوحيد لإعادتهم أحياء هو وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق؛ استغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن تضم المظاهرات المطالبة بإطلاق الأسرى دعواتٍ لإنهاء الحرب. وحتى حين حدث ذلك نادرًا ما تجرّأ أحد على وصف ما يجري بأنه جرائم ضد الإنسانية، ولم يظهر أي حراك واسع للجنود الرافضين المشاركة في تلك الجرائم.
منذ السابع من أكتوبر اختفى الإعلام الإسرائيلي بمعناه الحقيقي. باستثناء بعض الأصوات الهامشية أخفى الإعلام عمداً فظائع غزة حتى صار المواطن العادي في أي دولة أخرى يعرف عن الحرب أكثر مما يعرفه الإسرائيلي نفسه. وحتى حين انتشرت الصور على وسائل التواصل الاجتماعي كان الناس يفتقرون إلى أبسط الأدوات لفهم ما يشاهدونه. وبينما كان العالم يستنكر تجويع إسرائيل لغزة وقتل المدنيين بلا تمييز كان الإسرائيليون يصفقون لحكومتهم «الرحيمة»؛ لأنها سمحت -كما قالوا- بدخول بعض شاحنات المساعدات إلى «العدو» أثناء الحرب!
كما اختفت المعارضة اليهودية كذلك؛ فقد اصطفّ سياسيون بنوا مسيرتهم على معارضة بنيامين نتنياهو خلفه في دعمه لإبادة الفلسطينيين في غزة، ولأي ضربة إسرائيلية متهوّرة ضد دولٍ أخرى في الشرق الأوسط. بلغت هذه الحالة ذروتها عندما أيّدت المعارضة بحماسة قصف وفدٍ من حركة حماس في الدوحة، وهو وفد جاء للتفاوض حول مصير الأسرى الإسرائيليين أنفسهم بينما كان هؤلاء الساسة يضعون على صدورهم شاراتٍ كتب عليها «مع الأسرى» منذ عامين!
ومنذ اليوم الأول للحرب سُحقت أي معارضة حقيقية لها بعنفٍ على يد الشرطة تحت قيادة الوزير المتطرف إيتمار بن غفير. اعتُقل قادة فلسطينيون؛ لمجرّد نيتهم تنظيم مظاهرات ضد الحرب، واحتُجز مئات المواطنين العرب أو فُصلوا من أعمالهم؛ بسبب تضامنهم مع سكان غزة.
أما اليهود الذين عارضوا الحرب فقد تعرّضوا للتشهير والاتهام بالخيانة و«كره الذات اليهودية» حتى من شركائهم السابقين في معسكر السلام. شاهدت بمرارة أولئك الرفاق القدامى «يستفيقون» بعد السابع من أكتوبر ليغرقوا في خطابٍ مليء بالكراهية والعنف ضد الفلسطينيين والإسلام. في غضون عامين فقط اختفت أيضًا روابط إنسانية كثيرة: صداقاتٌ، وعلاقات عائلية، وصلات كانت يومًا متينة.
قبل أسابيع زرت متحف هيروشيما التذكاري للسلام في اليابان، وفوجئت بمدى التشابه بين الصور هناك وما أراه في غزة اليوم، بل إن الدمار في غزة يفوق ما حلّ بهيروشيما بعد القنبلة النووية التي لم تسحق الكيلومترات الواسعة من المباني كما فعل القصف الإسرائيلي. ففي هيروشيما قُتل ما بين 90 و140 ألف شخص. أما في غزة فقد تجاوزت التقديرات 100 ألف قتيل، ولا أحد يعرف ما سيكون عليه الرقم النهائي حين ينجلي الغبار.
لفتت نظري صورة واحدة في المتحف: «ظل إنساني منقوش على الحجر». ظلّ شخصٍ كان جالسًا على درج مصرف لحظة سقوط القنبلة، ولم يبقَ منه سوى بصمة ظله على الأرض. ربما هذا ما تؤول إليه كل المآسي الكبرى في النهاية إلى الغياب الذي تخلّفه وراءها. وهكذا في غزة -وإن بطريقة مختلفة تمامًا-، وفي إسرائيل أيضًا.
لا أعرف ما الذي يمكن أن يولد من هذا الفراغ الذي خلّفته سنتان من الدمار والموت الذي لم ينتهِ بعد.
لا أحد يستطيع أن يجزم، لكن يمكن القول شيئًا واحدًا على الأقل: لن يكون هناك أي أمل في نموٍّ جديد ما لم ننظر في هذا الفراغ، ونبحث في هذا الغياب، وندرس هذه الهوة، ونُدرك أبعادها بالكامل، ونتوقف عن هذا الجنون.
أُورْلي نُـوْي هي صحفية ومحررة في مجلة «لوكال كول» الناطقة باللغة العِبـْرية.
عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السابع من أکتوبر فی غزة
إقرأ أيضاً:
ما الذي يحسم مصير خطة نزع سلاح العمال الكردستاني؟
أنقرة- تمضي تركيا في تنفيذ خريطة طريق طموحة تستهدف نزع سلاح حزب العمال الكردستاني ووضع حد نهائي لصراعه المسلح المستمر منذ ما يقارب 4 عقود.
وبينما تثمن الحكومة التركية الخطوات الجارية ميدانيا في هذا الإطار وتراقبها، تعاطت الأوساط الكردية معها بمزيج من الترحيب المشروط والحذر، معتبرة أنها ثمرة تطور داخلي تقوده "مرجعية إمرالي"، ومؤكدة في المقابل أن نجاح العملية مرهون بضمانات سياسية وقانونية تركية.
ويُقصد بـ"مرجعية إمرالي" الزعيم الكردي المعتقل في سجن بجزيرة إمرالي التركية عبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستاني، الذي دعا الحزب إلى إلقاء سلاحه.
تنقل وسائل إعلام تركية مقرّبة من الحكومة عن مصادر أمنية تركية أن خريطة الطريق الموضوعة لتفكيك القوة العسكرية لحزب العمال الكردستاني تتكون من 4 مراحل متراتبة، جرى حتى الآن إنجاز الجزء الأكبر منها.
وتمثلت المرحلة الأولى في الانسحاب الكامل لمقاتلي الحزب من الداخل التركي إلى شمال العراق، وهو ما أعلن عنه رسميا يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليكون أول انسحاب شامل من نوعه منذ انطلاق "التمرد المسلح" في ثمانينيات القرن الماضي، وقد اعتُبر محطة فارقة في مسار الصراع، لكونه أزال آخر تمركزات الحزب داخل الحدود التركية.
في المرحلة الثانية، ركزت الجهود على تفكيك الجيوب المتبقية للحزب في شمال العراق، لا سيما في منطقتي "زاب" و"متينا" الواقعتين ضمن نطاق العمليات التركية العسكرية المعروفة باسم "المخلب القفل".
ووفق ما نقلته صحيفة صباح التركية، فإن مقاتلي الحزب انسحبوا من 4 مغارات رئيسية في "زاب"، تاركين خلفهم كميات من الأسلحة والذخائر، جرت إزالتها وتدميرها لاحقا من قبل وحدات تركية خاصة، ويجري حاليا استكمال الانسحاب من المغارات المتبقية في "متينا"، تمهيدا لإعلان إخلاء كامل نطاق عمليات الجيش التركي من وجود الحزب.
إعلانأما المرحلة الثالثة، فتغطي معاقل الحزب التقليدية في مناطق "قنديل" و"غارا"، إضافة إلى "حفتانين" و"هاكورك"، حيث ينتظر انسحاب تدريجي منها خلال الأشهر المقبلة.
وتُختتم الخريطة في مرحلتها الرابعة بإخلاء مناطق "سنجار" و"مخمور"، التي تُعد ذات طابع رمزي وإستراتيجي خاص، لكونها شكلت على مدى سنوات خط دعم وإسناد لوجستي لفرع الحزب في سوريا.
وتشير المصادر إلى أن الاستخبارات والجيش التركي يتابعان تنفيذ الخطة ميدانيا في كل مرحلة، حيث جرت عمليات تفتيش دقيقة للمواقع المفرغة، لا سيما في "زاب"، للتأكد من خلوها من العناصر، ولتسجيل الأسلحة التي تركها الحزب، تمهيدا للتعامل معها.
ووفق تسريبات من إعلام مقرب من الحكومة، لم تُعثر القوات التركية على أسلحة ثقيلة في تلك المواقع، مما اعتبر مؤشرا على تراجع الدعم الخارجي للحزب أو نقله ترسانته الثقيلة إلى خارج نطاق العمليات.
ولا يزال مصير قادة الصف الأول في حزب العمال الكردستاني، المتحصنين منذ عقود في جبال قنديل، يشكل أحد أكثر ملفات التفاوض حساسية وتعقيدا، ووفقا لما نقلته تسريبات متطابقة من دوائر تركية وكردية، فإن التسوية المرتقبة لن تتضمن بقاء هؤلاء القادة في أي من دول المنطقة، سواء تركيا أو العراق أو سوريا.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن من بين السيناريوهات المطروحة على الطاولة، إبعاد نحو ألف عنصر من كوادر الحزب إلى دول أوروبية مستعدة لاستضافتهم ضمن اتفاقات خاصة، في إطار تسوية "منضبطة وخالية من التصعيد".
بالتوازي مع ذلك، أعدت أنقرة وبغداد قوائم أمنية مشتركة تضم أسماء عشرات القياديين والعناصر المطلوبين للعدالة في البلدين، تمهيدا لإحالة بعضهم إلى المحاكمة، في حين يرجح منح عفو محدود لمن لم يثبت تورطه في أعمال عنف أو انتهاكات جسيمة.
تهديداتويرى المحلل السياسي التركي علي أسمر أن أكبر تهديد يواجه خطة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني لا يكمن فقط في البعد العسكري، بل في هشاشة التوازنات السياسية والأمنية المحيطة بالملف.
ويضع أسمر سيناريو "تصفية عبد الله أوجلان" في صدارة المخاوف، معتبرا أن غيابه سيحدث فراغا قياديا خطيرا داخل الحزب، ويفتح الباب أمام صراعات داخلية وتفلّت مجموعات ميدانية متشددة، مما سيفشل أي مسار نحو التسوية.
ويحذر أسمر -في حديث للجزيرة نت- من أن الانقسام داخل الحزب، رغم ما قد يبدو عليه من فائدة لأنقرة، فإنه قد يؤدي إلى ولادة فصائل مستقلة تتصرف خارج السيطرة، وربما ترتبط بجهات خارجية تسعى لإعادة إشعال الصراع. ويضيف أن ظهور قيادات ميدانية غير منضبطة قد يطيح بعملية السلام من خلال حادث واحد في توقيت حرج.
وفي السياق الإقليمي، ينبّه أسمر إلى دور القوى الدولية التي ترى في الحزب الكردستاني ورقة ضغط إستراتيجية، وقد تعمد إلى تعطيل العملية عبر تمويل مجموعات منشقة أو تسريب السلاح إليها.
كما يشير إلى أن بقاء معاقل الحزب في سوريا وسنجار وقنديل يبقي السلاح حاضرا خارج حدود تركيا، مما يضعف أي اتفاق لا يشمل إغلاق هذه الجبهات بالكامل.
وبينما تروج أنقرة لعملية نزع السلاح بوصفها إنهاء قاطعا لتنظيم "إرهابي"، تقدم المنصات الإعلامية الكردية سردا مغايرا، يصور الخطوة باعتبارها تحولا داخليا إستراتيجيا تقوده مرجعية عبد الله أوجلان.
إعلانفحسب ما نقلته وكالة "ميزوبوتاميا"، فإن أوجلان هو من صاغ الموقف الراهن ووجه قيادة الحزب إلى اتخاذ قرار إنهاء الكفاح المسلح، مشددا على أن "زمن البندقية قد انتهى، وحان وقت السياسة".
وتؤكد بيرفين بولدان، نائبة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، أن انسحاب مقاتلي الحزب من الداخل التركي جاء بتعليمات مباشرة من أوجلان لقطع الطريق على أي محاولة استفزاز أو تفجير داخلي للعملية. ونقلت عنه قوله إن "المنظمة التي أنشأها قبل 50 عاما يجب أن تحل الآن بيده".
لكن في مقابل هذه الإشارات الإيجابية، وضعت قيادة حزب العمال الكردستاني سقفا سياسيا عاليا للمضي قدما في تنفيذ ما خرج به المؤتمر الاستثنائي، ففي تصريح لوكالة الفرات، أعلن دوران كالكان، أحد أبرز أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب العمال الكردستاني، أنه "لا خطوات إضافية ممكنة دون حرية القائد أوجلان"، معتبرا أن استمرار عزله ينسف جوهر التهدئة الجارية.
وأضاف أن المؤتمر الذي أعلن فيه حل الحزب لن يكون ملزما ما لم تقم الدولة التركية بتقديم خطوات ملموسة على مستوى الإصلاحات القانونية والدستورية.
ومن بين أبرز مطالب الحزب، بحسب كالكان، صدور قوانين عفو تسمح بإعادة دمج المقاتلين السابقين ضمن المجتمع دون ملاحقات، إضافة إلى رفع القبضة الإدارية المفروضة على البلديات الكردية، التي لا يزال كثير منها يخضع لوصاية حكومية بعد عزل رؤسائها المنتخبين.
وفي هذا السياق، تداولت وسائل إعلام كردية أنباء عن نية الحكومة إعادة بعض رؤساء البلديات ضمن إجراءات بناء الثقة، رغم غياب تأكيد رسمي حتى اللحظة.