عبد السلام فاروق يكتب: المعلم.. من السبورة إلى فضاءات الميتافيرس !
تاريخ النشر: 12th, October 2025 GMT
نحن نعيش، بلا أدنى جدال، في زمن الفضاء الرقمي. وفي خضم هذا التحول، يطفو على سطح الحاضر والمستقبل معاً سؤال مصيري: ألا تزاحم سهولة الوصول إلى المعلومات في العصر الرقمي دور المعلم التقليدي؟ بينما تتدافع البيانات في الفضاء الإلكتروني، وتتنافس المنصات الرقمية على جذب الانتباه، يظل المعلم هو الحارس الأمين للقيم، والناقل المضمون للمعارف التي لا تنتقل عبر الشاشات، بل من خلال التفاعل الإنساني الحي الذي يجمع بين العطاء والتلقي.
حارس البوابة الأخير!
أحدثت الثورة الرقمية تحولاً جذرياً في مفهوم المعرفة ذاتها. فبينما وفرت سهولة الحصول على أدوات تحصيل المعلومات، وما وفرته على الإنسان من مستلزمات كانت ضرورية قبل ظهور التقنية وتطورها، مثل تلك التي تتعلق بالجهد والوقت والمال، فإنها أيضاً ولدت ما يمكن تسميته بمأزق التشتت المعرفي. فالعشوائية وزخم انتشار أنواع المعارف على مختلف التطبيقات والوسائل يؤدي لإنتاج مكتسب ثقافي لدى الإنسان، لكن هذا المكتسب يتميز بالعشوائية والكثرة غير المنظمة.
وهنا يبرز أحد أهم أدوار المعلم في العصر الرقمي: التمييز بين المعرفة والحكمة، بين تجميع المعلومات وفهم المعاني، بين اكتساب البيانات وتشكيل الرؤية. فالمعلم لم يعد ناقلاً للمعلومات فحسب، بل أصبح مرشداً إلى فن التفكير، وميسراً لاكتساب المهارات النقدية التي تمكن المتعلم من تمييز الغث من السمين في هذا الفيض المعلوماتي الهائل.
في خضم هذا التحول الرقمي المتسارع، يبرز دور المعلم كميسر للعملية التعليمية، حيث يركز على تنمية قدرات الطلاب ومهاراتهم. فالتعليم الجيد لا يقف عند حدود نقل المعلومات، بل يتعداه إلى بناء الشخصية المتكاملة، وتنمية المهارات الحياتية، وغرس القيم الإنسانية التي لا تستطيع الآلة تقديمها.
المعلم الحقيقي هو الذي يسعى إلى تنمية مهارات تفكير الطلاب وحصادها، فهو ضرورة ملحة لمواكبة متطلبات العصر، والتكيف مع التحديات وتحفيز الطلبة على الاكتشاف والبحث. وهذا يتطلب بالضرورة معلمين بحاجة إلى الشروط والأجور والموارد والاستقلالية والاحترام الذي يستحقونه حتى يتمكنوا من إحداث التحول المنشود في التعليم.
كورونا كشفت المستور!
تواجه الأنظمة التعليمية حول العالم تحديات جسام في ظل العصر الرقمي، حيث تحتاج أنظمة التعليم إلى التكيف مع المهارات المتغيرة المطلوبة في المجال المهني، مما يجعل التعلم أكثر تركيزاً على الطالب، وأكثر اتصالاً وحيوية وشمولاً وتعاونياً، مما يسمح بازدهار الإبداع. وهذا يتطلب من المعلمين أنفسهم إعادة تأهيل مستمرة، وتطويراً لمهاراتهم الرقمية، مع الحفاظ على الجوهر الإنساني للتعليم.
لقد كشفت جائحة كورونا عن هذه الفجوات بشكل صارخ، حيث توقف تعليم ما يزيد عن 90% من أطفال العالم بسبب فيروس كورونا؛ وهو أكبر اضطراب تشهده أنظمة التعليم في التاريخ. بسبب هذا الاضطراب، برز المعلمون كخط دفاع أول عن استمرارية التعليم، ما يؤكد أن التقنية بدون المعلم مثل الجسد بدون روح.
لا ينفصل دور المعلم عن الرؤية الشاملة للتنمية المستدامة، حيث يلعب التعليم دوراً حاسماً في تعزيز التنمية المستدامة على المدى الطويل. والمعلم في هذا الإطار ليس مجرد ناقل للمعرفة، بل هو منفذ لرؤية مجتمعية أوسع، حيث يتم تزويد الطلاب بالمعرفة والمهارات والقيم اللازمة لبناء مستقبل مستدام.
من هذا المنظور، يصبح المعلم نموذجاً حياً للسلوك المستدام، وموجهاً للأجيال الناشئة نحو تبني ممارسات مستدامة، من خلال تضمين مفاهيم الاستدامة في مناهجهم وأنشطتهم التعليمية، مما يمكنه أن يثري تجربة التعلم ويعزز الوعي البيئي والاجتماعي لدى الطلاب.
جسر القيم الإنسانية !
التحدي الذي يواجهنا اليوم لا يتمثل في الاختيار بين المعلم والتقنية، لكن في بناء شراكة متوازنة بين الإنسان والآلة، حيث يكمل كل منهما الآخر. فكما أن التقنية الرقمية إذا تم تسخير القدرة على الاتصال الإلكتروني وموارد التعليم والتعلم الرقمية – ذات قابلية الوصول المفتوحة - بشكل صحيح، فإنه يمكنها أن تسهم في تحويل التعليم وإضفاء الطابع الديمقراطي عليه، فإن المعلم يظل القلب النابض للعملية التعليمية، والجسر الإنساني الذي يربط بين المعرفة والقيمة، بين التقنية والإنسان.
ونحن نحتفل بيوم المعلم العالمي، ليس المطلوب مجرد تقدير شكلي للمعلمين. المطلوب حقيقة هو إعادة نظر جذرية في مكانتهم ودورهم، وفي كيفية إعدادهم وتأهيلهم لقيادة رحلة التعليم في هذا العصر المتغير. فهم حماة القيم في زمن المتغيرات، وحراس الإنسانية في عصر الآلة، وبناة المستقبل في كل زمان ومكان.
صدمة المستقبل
إن التحول من دور ناقل المعرفة إلى موجه للتعلم ومرشد للمعرفة، بوصفه تحول وجودي، يضع المعلم في قلب عاصفة من المتغيرات. فبينما كان المعلم تقليدياً "المصدر الوحيد للمعرفة" داخل الفصل، أصبح اليوم مطالباً بأن يكون مسهلاً لعملية التعلم من مصادر متعددة لا يسيطر عليها. هذا التحول ليس بريئاً؛ فهو يعكس تحولاً في "الأنساق الثقافية" الأوسع التي تشكلها "الصناعات الثقافية" كما نظرت لها مدرسة فرانكفورت، حيث يتم تنميط الفكر والذوق لصالح قوى السوق. هنا يبرز تحدي جديد: ألا وهو تحول التعليم نفسه إلى "سلعة" تحت شروط العرض والطلب، مما يفقده جوهره الإنساني التحرري الذي كان ينظر إليه على أنه "أداة تحرر وانعتاق" من كل أشكال الهيمنة.
وفي هذا الإطار، يصبح دور المعلم أشبه بدور "الناقد الثقافي" داخل حجرته الصيفية. فمهمته تتجاوز نقل المعلومات إلى "تفكيك أنساق الهيمنة" التي تحملها المضامين الرقمية الجاهزة، وتنمية وعي الطالب الناشئ ليصبح قارئاً ناقداً لا متلق سلبياً. هذه هي "الوظيفة التحريرية" الحقيقية للتربية ، التي تربط دائماً بين التعليم القوي وبين بناء الإنسان المتحرر من الخرافة، المعتمد على العقل في حل مشكلاته. إن المعلم، بهذه الرؤية، هو حجر الزاوية في أي مشروع حقيقي "لتنمية بشرية" كما يعرفها الاقتصادي الهندي "أمارتيا صن"، لا على أنها مجرد نمو اقتصادي، بل كعملية توسع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس.
المعلم الرقمي الجديد!
ومن أجل تحقيق هذه النقلة النوعية من المعلم "المنفذ" إلى المعلم "المحرر"، لا بد من إعادة نظر جذرية في عدة مستويات:
أولاً: من المهم إعادة تأهيل المعلم فكرياً ومنهجياً، بحيث لا يكفي تدريب المعلم على مهارات رقمية تقنية. الأهم هو إعداده إعداداً فلسفياً ونقدياً يمكنه من تحليل الخطابات السائدة و"الخصوصية الجمالية" للنصوص المختلفة، وألا يقع في فخ القراءة الأيديولوجية الضيقة التي تهدر قيمة النص الأدبي وتحوله إلى مجرد وثيقة اجتماعية. هذا يتطلب تبني نموذج "المعلم الباحث" القادر على توظيف مناهج متعددة في التحليل.
ثانياً: ضرورة التركيز على التنمية البشرية الشاملة، إذ من الواجب أن تتحول غاية العملية التعليمية من تخريج حاملين للشهادات إلى بناء "رأس المال البشري" القادر على التفكير النقدي والإبداع. وهذا يتوافق تماماً مع الرؤية العلمية التي تري في "تكامل المعرفة وتنمية رأس المال البشري" أحد مرتكزات بناء الإنسان العربي. التعليم هنا ليس استثماراً اقتصادياً فحسب، بل استثمار في الطاقة الإبداعية الكامنة في كل فرد.
ثالثاً: ضرورة تبني رؤية نقدية للتقنية، بحيث يجب ألا نقع في فخ تبني كل ما هو رقمي بلا تمحيص. على سياسات التعليم أن تستلهم الرؤية النقدية لمدرسة فرانكفورت لـ "ثقافة الوسائط". السؤال الجوهري ليس كيف ندمج التقنية؟، بل كيف نستثمرها لتحرير العقل بدلاً من استعباده، وتعزيز الثقافة بدلاً من تهميشها؟.
رابعاً: الانحياز للعدالة الاجتماعية، والذي يذكرنا بإرث طه حسين، وخاصة رسالته المبكرة عن عدم تكافؤ فرص التعليم في مصر، بأن أي حديث عن التحول الرقمي يجب أن يقترن بالحديث عن العدالة. فالفجوة الرقمية ليست سوى امتداد للفجوات الاجتماعية والاقتصادية القديمة. المعلم في المناطق المهمشة يكون غالباً خط الدفاع الأخير ضد "إقصاء" كامل لهوية الطالب وثقافته المحلية.
منقذون لا منفذون !
أخيرا ، إن التحدي الذي يواجه المعلم اليوم هو تجسيد لدور "المثقف العضوي" في أعلى تجلياته. إنه ليس مجرد موظف ينفذ مناهج، بل هو فاعل رئيسي في مشروع "الاستشراف المستقبلي" للتربية ومعالجة مشكلاتها .
فالنهضة التعليمية المنشودة لا تبدأ بمنح كل طالب " تابلت" فقط، إنما برفع مكانة من يحملون الرسالة، وتمكينهم فكرياً وأدائياً ليقودوا رحلة التحول هذه. بالتالي، يصبح تكريم المعلم في يومه العالمي ليس مجرد عرفان بالجميل، بل إعلاناً عن خيار حضاري" يضع الإنسان – بفكره الناقد وروحه الإبداعية - في صلب عملية التنمية، لتعويض النقص الحضاري الذي تتخبط فيه أمتنا. المعلم هو الجسر الحقيقي بين تراثنا الثقافي الغني ومستقبل نصنعه بعقول حرة.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الفضاء الرقمي العصر الرقمي العصر الرقمی دور المعلم المعلم فی فی هذا
إقرأ أيضاً:
إنجاز جديد لوزارة الزراعة.. اعتماد "بحوث الصحة الحيوانية" كجهة دولية مانحة لاختبارات الكفاءة المعملية
كشفت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، عن إنجاز نوعي جديد يعزز مكانة مصر الدولية في مجال البحث العلمي والرقابة البيطرية، حيث نجح معهد بحوث الصحة الحيوانية، التابع لمركز البحوث الزراعية، في الحصول على شهادة الاعتماد الدولية (ISO/IEC 17043) من المجلس الوطني للاعتماد (EGAC)، ليصبح بذلك جهة معتمدة دولياً لتنظيم ومنح اختبارات الكفاءة المعملية.
وجاء هذا الاعتماد بعد تقييم دقيق وشامل أجراه فريق "إيجاك" على مدار يومين، شمل التحقق من كفاءة المعهد في إدارة وتنفيذ 11 اختباراً معملياً حيوياً، تتصدرها فحوصات الأمراض الوبائية العابرة للحدود مثل (أنفلونزا الطيور، ومرض النيوكاسل)، إلى جانب اختبارات دقيقة لضمان سلامة وجودة الأغذية ذات الأصل الحيواني.
ومن جانبه، أكد علاء فاروق، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، أن هذا الاعتماد الدولي يأتي نتاجاً لجهود الدولة المستمرة في تطوير القطاع الزراعي والحيواني كأحد ركائز الأمن الغذائي القومي، مشيراً إلى أن القيادة السياسية تولي اهتماماً بالغاً بتوطين المعايير الدولية داخل المؤسسات البحثية المصرية، وأوضح أن ذلك يساهم في جعل مصر مركزاً إقليمياً ودولياً للخبرة في مجال الصحة الحيوانية وسلامة الغذاء.
وتابع فاروق إن اعتماد معهد بحوث الصحة الحيوانية كجهة مانحة لاختبارات الكفاءة المعملية هو رسالة طمأنة للعالم بأن المنتجات ذات الأصل الحيواني المصري تخضع لأعلى معايير الرقابة والتدقيق العلمي، مشددا على استمرار الوزارة في دعم كافة المعاهد والمعامل البحثية وتوفير كافة الإمكانيات التقنية والبشرية التي تضمن استدامة هذا التميز، بما يسهم في فتح أسواق تصديرية جديدة ودعم الاقتصاد الوطني من خلال تعزيز الثقة في شهادات الاختبار المصرية دولياً.
ومن جهتها، أكدت الدكتورة سماح عيد، مدير المعهد، أن هذا النجاح هو ثمرة الدعم المباشر من السيد علاء فاروق، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، والدكتور عادل عبد العظيم، رئيس مركز البحوث الزراعية، في إطار خطة الدولة لرفع كفاءة المعامل المرجعية الوطنية وتطبيق أعلى معايير الجودة العالمية، لافتة الى أن الحصول على "الآيزو 17043" يتجاوز كونه إنجازاً فنياً ليحقق أهدافاً استراتيجية واقتصادية ملموسة.
واوضحت ان ذلك يساهم في توفير النفقات الباهظة التي كان يتكبدها المعهد سنوياً لإجراء اختبارات الكفاءة لمعامله الفرعية في جهات خارجية، فضلا عن تعزيز ثقة المنظمات الدولية والإقليمية في المعهد كمرجعية علمية موثوقة بصحة الحيوان وسلامة الغذاء، إضافة إلى فتح آفاق استثمارية جديدة عبر تقديم خدمات اختبارات الكفاءة للمعامل الحكومية والخاصة داخل وخارج قطاع الزراعة.
ووجهت مدير المعهد، الشكر لفريق الجودة بالمعهد، مشيدةً بتفانيهم في تطبيق المتطلبات الفنية للمواصفة الدولية لأول مرة في تاريخ المعهد، مما يؤكد كفاءة الكوادر المصرية وقدرتها على المنافسة عالمياً كركيزة أساسية لحماية الثروة الحيوانية والأمن الغذائي للمواطنين.