يخوض رئيس الوزراء الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، الثلاثاء، واحدة من أكثر الجولات السياسية حساسية في مسيرته القصيرة على رأس الحكومة، إذ يطرح أمام الجمعية الوطنية بيان سياسته العامة، في محاولة لإنقاذ حكومته الثانية من السقوط المبكر، وسط برلمان بات يوصف بـ"المشرذم"، وغليان اجتماعي، وتحديات مالية غير مسبوقة.



فبعد أقل من أسبوع على إعادة تكليفه من الرئيس، إيمانويل ماكرون، يعود لوكورنو إلى المنصة التشريعية مدجّجا بوعود "الاستقرار المالي" و"إعادة الثقة بالمؤسسات"، بينما تتأهب كتل المعارضة من اليسار واليمين لتقديم مذكرة حجب الثقة فور انتهاء خطابه، ما يجعل الساعات المقبلة حاسمة لمستقبل الحكومة، وربما للنظام السياسي الفرنسي برمته.

شكّل لوكورنو، مساء الأحد الماضي، حكومة ثانية جديدة، تضم مزيجا من السياسيين والتكنوقراط وشخصيات من المجتمع المدني، وذلك في محاولة لتجنب المزيد من التأزم السياسي الذي يعيشه قصر ماتينيون منذ أكثر من عام.

وقال خلال منشور عبر موقع التواصل الاجتماعي "إكس": "شكلت حكومة تركز على مهمة توفير ميزانية لفرنسا قبل نهاية العام"، في إشارة إلى الأزمة التي أطاحت بسلفه وأدخلت البلاد في دوامة من الفراغ الحكومي.

Un gouvernement de mission est nommé pour donner un budget à la France avant la fin de l’année.

Je remercie les femmes et les hommes qui s'engagent dans ce gouvernement en toute liberté au-delà des intérêts personnels et partisans.

Une seule chose compte : l’intérêt du pays. — Sébastien Lecornu (@SebLecornu) October 12, 2025
وكان لوكورنو قد استقال في 6 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بعد 14 ساعة فقط من تشكيل حكومته الأولى، مبررا قراره بـ"عدم توافر الظروف السياسية المناسبة للاستمرار"، قبل أن يعيده ماكرون إلى المنصب بعد ثلاثة أيام، في خطوة فسّرت على نطاق واسع بأنها محاولة يائسة لتفادي أزمة دستورية.

إلى ذلك، جاءت استقالته بعد فشل الحكومة السابقة في نيل الثقة في تصويت 8 أيلول/ سبتمبر الماضي، لتصبح رابع حكومة تسقط منذ حل ماكرون الجمعية الوطنية في حزيران/ يونيو 2024، وهو القرار الذي أفرز برلمانا بلا أغلبية واضحة، تتقاسمه ثلاث كتل رئيسية: اليسار، واليمين، واليمين المتطرف.

"موازنة إنقاذ".. ومحاولة أخيرة لكسب الوقت
بحسب الدستور الفرنسي، فإنّّه: على الحكومة تقديم مشروع الموازنة العامة قبل نهاية العام، مع مهلة لا تقل عن 70 يوماً للبرلمان للنظر فيها قبل 31 كانون الأول/ ديسمبر القادم. لكن الحكومة الحالية تواجه مأزقا مزدوجا وهما الوقت الذي يداهمها، والمعارضة التي ترفض التعاون معها.

ويقول لوكورنو إنّ: "حكومته مكلفة بمنح البلاد موازنة قبل نهاية العام"، وهو هدف وصفه عدد من المحللين السياسيين بأنه "أكثر طموحا من الممكن"، في ظل عجز يتجاوز 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي ودين عام بلغ 3300 مليار يورو (أكثر من 115٪ من الناتج المحلي).

وعين رئيس الوزراء وزير المالية، رولان ليسكور، أحد المقربين من ماكرون، للإشراف على إعداد مشروع موازنة 2026، متعهدا بخفض النفقات دون المساس بالإنفاق العسكري الذي اعتبره "ضرورة استراتيجية" لمواجهة التهديد الروسي.

وأكد لوكورنو في رسالة وجهها إلى القوات المسلحة، الاثنين الماضي: "احترام الزيادة المقررة في موازنة الجيش أمر لا غنى عنه.. وسأتأكد من التزام الحكومة بهذا التعهد".

وكان ماكرون قد أعلن عن زيادة إضافية قدرها 3.5 مليارات يورو لموازنة 2026، لتصل إلى 57.2 مليار يورو، بزيادة 13% عن العام السابق، على أن تبلغ 63.4 مليار يورو في 2027.


تشكيلة وزارية متوازنة.. بملامح تكنوقراطية
في الحكومة الجديدة، أسند لوكورنو حقيبة الداخلية إلى قائد شرطة باريس السابق لوران نونيز خلفاً لزعيم حزب الجمهوريين، برونو روتايو، فيما تولى جان بيار فاراندو، الرئيس السابق لشركة السكك الحديدية الوطنية، وزارة العمل.

وأُعيد جان نويل بارو إلى وزارة الخارجية، بينما تولت كاترين فوتران حقيبة الدفاع بعد أن شغلت سابقا وزارة العمل. وشملت التشكيلة أيضا مونيك باربو، الموفدة الرئاسية الخاصة إلى مؤتمر "قمة الكوكب الواحد"، التي تسلمت وزارة التحول البيئي، وإدوار جوفريه الذي عين وزيرا للتربية الوطنية خلفا لإليزابيت بورن.

وقال لوكورنو في منشور على "إكس": "المهم هو مصلحة البلاد، لا المصالح الشخصية أو الحزبية"، شاكراً الوزراء الذين قبلوا المشاركة "بكامل حريتهم".

ينظر إلى الجلسة المرتقبة في الجمعية الوطنية الثلاثاء على أنها معركة وجود للحكومة الجديدة.
فباستثناء الحزب الاشتراكي، الذي يمتلك 69 مقعدا، أعلنت جميع الكتل الأخرى من أقصى اليسار إلى اليمين المتطرف نيتها التصويت لصالح حجب الثقة.

الاشتراكيون الذين يمثلون "بيضة القبان" في المشهد السياسي، وضعوا شروطاً صعبة لدعم الحكومة، أبرزها التعليق الفوري لإصلاح نظام التقاعد الذي رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً في 2023، وهو القرار الذي فجر احتجاجات عارمة استمرت أشهرا.

وقال أوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، في مقابلة مع صحيفة "لا تريبون ديمانش": "تعليق إصلاح التقاعد لن ينهي النقاش حول الميزانية ومستقبل فرنسا، لكنه سيكون ضمانة لحسن نية الحكومة ورغبتها في فتح صفحة جديدة".

أما حزب "الجمهوريون" الذي ينتمي إلى (يمين الوسط)، فقد أعلن أنه سيمنح الحكومة دعما "مشروعا بمشروع" وذلك دون الالتزام بالتصويت ضدها، بينما أكد لوكورنو أنه "لا صفقة خفيّة بينه وبين أي حزب"، قائلا: "إما أن تحجبوا الثقة فتنتهي الحكومة، أو تمنحوها فرصة العمل".


ماكرون بين مطرقة اليمين المتطرف وسندان البرلمان
يراقب ماكرون الموقف بما يوصف بـ"حذر شديد"، إذ أنّ سقوط الحكومة الجديدة قد يدفعه إلى حل الجمعية الوطنية مجددا وهو خيار لا يستبعده رغم تحذيرات من أن المستفيد الأكبر سيكون حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان، الذي يتصدر استطلاعات الرأي بفارق مريح عن الأحزاب التقليدية.

ومنذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي، شهدت فرنسا سقوط حكومة يمين الوسط برئاسة ميشيل بارنييه، بعد اقتراح حجب الثقة بسبب خلافات حول موازنة 2025، ثم تعيين فرانسوا بايرو رئيسا للوزراء في 13 كانون الأول/ ديسمبر، لكنه فشل بدوره في تمرير خطة مالية تقشفية تستهدف خفض الإنفاق بمقدار 43 مليار يورو.

ويرى محللون سياسيون أنّ: "ماكرون يدير الوقت أكثر مما يدير السياسة"، معتبرين أنّ: "تكليف لوكورنو مجددا هو رهان أخير على البقاء"، وسط تصاعد السخط الشعبي وتراجع الثقة في النخبة السياسية.

أزمة سياسية مفتوحة
منذ حل البرلمان قبل أكثر من عام، لم تعرف فرنسا استقرارا سياسيا حقيقيا. فقد جاء أربعة رؤساء وزراء في أقل من 16 شهراً، بينما تتعثّر الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، وتتزايد مخاطر العجز المالي.

ويرى مراقبون أنّ حكومة لوكورنو الثانية قد "ولدت ضعيفة"، وأنّ فشلها في نيل الثقة هو "مسألة وقت"، خصوصاً في ظل الاصطفافات الحزبية الحادّة وغياب أي تحالف مستقر.

وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن 64٪ من الفرنسيين لا يثقون بالحكومة الجديدة، وأن غالبية الناخبين يرون أنّ: "ماكرون فقد السيطرة على المشهد السياسي"، بينما يتوقع ثلثهم انتخابات تشريعية مبكرة خلال الأشهر الستة المقبلة.


ما بعد التصويت.. سيناريوهات مفتوحة
بحسب عدد من التقارير الإعلامية، المُتفرّقة، فإنّه: "إذا فشل لوكورنو في كسب ثقة البرلمان، فسيكون على ماكرون إما حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات جديدة، أو تعيين رئيس وزراء تكنوقراطي مؤقت لتصريف الأعمال حتى تمرير الموازنة، وهي خيارات محفوفة بالمخاطر في بلد يواجه أزمة تضخم مرتفعة وديون متراكمة".

"لكن إذا نجا لوكورنو من التصويت، ولو بهامش ضئيل، فسيعتبر ذلك إنجازا شخصيا وسياسيا لماكرون، يؤجل المواجهة المقبلة فقط إلى حين تقديم مشروع الموازنة نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر القادم" وفقا للمصادر نفسها.

إلى ذلك، بينما يستعد النواب للتصويت، تبدو باريس، اليوم الثلاثاء، في حالة ترقّب مشوبة بالقلق. فالحكومة الجديدة، التي وُلدت من رحم الانقسام، قد لا تملك ترف الفشل مرة أخرى حيث أنّ سقوطها هذه المرة قد يفتح الباب أمام أزمة دستورية غير مسبوقة في الجمهورية الخامسة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية لوكورنو الحكومة الجمعية الوطنية ماكرون فرنسا فرنسا حكومة الجمعية الوطنية ماكرون لوكورنو المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجمعیة الوطنیة الحکومة الجدیدة ملیار یورو

إقرأ أيضاً:

لتفادي حجب الثقة.. الحكومة الفرنسية تعلق إصلاح نظام التقاعد

في خضم أزمة سياسية تشهدها فرنسا منذ أسابيع، أعلن رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو، الثلاثاء، تعليق إصلاح نظام التقاعد الصادر عام 2023 والذي يثير سخط فئات واسعة في البلاد، وهو شرط أساسي يطالب به الاشتراكيون لتجنب إسقاط الحكومة.

وفي خطابه حول السياسة العامة، أعلن لوكورنو أنه سيقترح على البرلمان تعليق إصلاح نظام التقاعد "حتى الانتخابات الرئاسية" المقبلة المقررة في العام 2027.

ويشكل تعليق العمل بهذا القانون المحوري في ولاية ماكرون الثانية والذي مرره من دون تصويت في البرلمان في العام 2023 وينص على رفع سن التقاعد إلى 64 عاما، محور تجاذب سياسي في فرنسا منذ أسابيع.

ويطالب الحزب الاشتراكي منذ زمن بهذا الإجراء، وتُعدّ أصواته حاسمة لتجنب إسقاط الحكومة وإبعاد احتمال إجراء انتخابات تشريعية مبكرة جديدة.

نظرا لما تكتسيه هذه القضية من أهمية لحسن سير الديمقراطية الفرنسية، دعا الإثنين الفرنسي فيليب أغيون بعد ساعات قليلة على نيله جائزة نوبل في الاقتصاد، إلى "وقف" كل ما يتّصل بإصلاح نظام التقاعد حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027.

تمر فرنسا بفترة غير مسبوقة من عدم الاستقرار السياسي منذ حل الجمعية الوطنية في يونيو 2024، وهو ما أسفر عن برلمان من دون أكثرية منقسم بين اليسار ويمين الوسط واليمين المتطرف.

وقال لوكورنو الثلاثاء "يتمنى البعض أن تتحول هذه الأزمة البرلمانية إلى أزمة نظام. هذا الأمر لن يحدث".

وحذّر رئيس الوزراء أمام الجمعية الوطنية من أن تعليق إصلاح نظام التقاعد سيكبّد البلاد "400 مليون يورو عام 2026 و1,8 مليار يورو عام 2027"، وبالتالي سيتعين "تعويض ذلك بتحقيق وفورات" في الميزانية.

في خطاب استمر نصف ساعة، أكد لوكورنو أيضا التخلي عن استخدام المادة 49.3 من الدستور، وهو إجراء يسمح باعتماد نص من دون تصويت. وكان هذا مطلبا آخر للاشتراكيين الذين حذّروا من أنهم سيقدمون اقتراحا بحجب الثقة مساء الثلاثاء في حال عدم تقديم الحكومة ردا واضحا على مطالبهم.

مقالات مشابهة

  • لتفادي حجب الثقة.. الحكومة الفرنسية تعلق إصلاح نظام التقاعد
  • الحكومة الفرنسية الجديدة أمام اختبار حجب الثقة وماكرون يتهم المعارضة
  • ماكرون يحمّل الأحزاب مسؤولية أزمة تشكيل الحكومة
  • ماكرون يرفض الاستقالة رغم تهديدات بحجب الثقة عن حكومته الجديدة
  • ماكرون يرفض الاستقالة رغم التهديدات بحجب الثقة عن حكومته الجديدة
  • فرنسا.. «قصر الإليزيه» يعلن تشكيل الحكومة الجديدة
  • بعد إعادة تعيينه: لوكورنو يشكل حكومة فرنسية جديدة وسط ضغوط الميزانية
  • فرنسا تعلن تشكيل حكومة جديدة بقيادة لوكورنو
  • انقسامات داخل الجمهوريين تربك جهود لوكورنو لتشكيل الحكومة الفرنسية