بدت وكأنها مشهدٌ مقتطَعٌ من مسرحية "الزعيم" لعادل إمام، حَيثُ تتداخل المجاملات الزائفة مع المواقف الهزلية في إطار يُفترض أنه جادٌّ ورسمي.

الأغرب هو وقوفُ ترامب بمفرده، بينما يتوالى القادةُ للسلام عليه واحدًا تلو الآخر، مع أنه ضيفٌ مثلُ سائر الحضور.

في المقابل، بدا المضيف الرسمي في حالةٍ من التواضع المفرط حَــدَّ الارتباك، تاركًا الحضور الأمريكي ليطغى على المشهد.

ظهر المجرم ترامب يوزّع الابتسامات والمديح على الحاضرين، ويتلو أسماءهم من ورقة، ويسخر من بعض الزعماء بأُسلُـوب يجمع بين المزاح والتعالي.

أُسلُـوب ترامب الاستعراضي والشخصي كسر القواعد المتعارف عليها؛ مما أربك الحضور وفرض إسهابه وثرثرته على الحدث.

أما مديحُه المتكرّر لعائلته ووزرائه في كلماته فيعكسُ طبيعتَه التي تميل إلى الاستعراض الذاتي، وكأنه يعيشُ في حملةٍ انتخابيةٍ دائمة حتى وهو في مؤتمرات القمم.

لكن ما هو أخطرُ من المظهر البروتوكولي هو ما غاب عن القمة من مضمونٍ مهمٍّ للغاية.

فقد غاب الحديث الجاد عن إعمار غزة وضرورة التعجيل به، باستثناء كلماتٍ مقتضبة من الرئيس المصري.

كما غاب النقاش حول المأساة الإنسانية الكبرى التي عاشها أبناء غزة، وهي مأساة لن تزول آثارها في عشرات السنين.

لم يُطرح أَيْـضًا مِلفُّ الأسرى الفلسطينيين المتبقين في سجون العدوّ، والذين كانوا أحد أبرز أسباب انفجار السابع من أُكتوبر، ولم يُناقش موقعُهم في أية تسويةٍ قادمة رغم أهميته المحورية.

والأسوأ من ذلك هو عودة الحديث عن (اتّفاقيات أبراهام) وتنميق تجربة التطبيع والتسويق لها، وكأن ما جرى في غزة لم يكن جريمةَ إبادة جماعيةٍ لم تجفّ دماءُ شهدائها بعد، ولم يُنتشلوا من تحت الأنقاض.

فإعادةُ تفعيل تلك الاتّفاقيات بعد كُـلّ ما حدث لا تعني سوى طمس جرائم العدوّ الإسرائيلي وشرعنتها، وتبييض الجريمة، وتجميل الفعل الوحشي، وتحويل صفحة الدم إلى وثيقة "سلام" يُكافأ فيها المجرم بدل أن يُحاسَب.

بهذا الشكل، خرجت القمة -في نظر كثيرين- عن طابعها الرسمي، لتبدو أقرب إلى استعراض سياسيٍّ منها إلى لقاءٍ دوليٍّ جاد.

غير أن ما وراء هذا المشهد أعمق من مُجَـرّد خللٍ في البروتوكول؛ إنه اختلال ميزان العلاقات الدولية في المنطقة، حَيثُ باتت دول منطقتنا تتعامل مع أمريكا من موقع التبعية لا الندية.

أما الحضور العربي في مثل هذه المحافل فقد تحوّل إلى دورٍ رمزيٍّ لا فاعل، بينما تُدار خيوط اللعبة من (إسرائيل)، في تداخلٍ بين النفوذ السياسي والاستعراض الإعلامي.

وفي النهاية، لم يكن مشهد شرم الشيخ مُجَـرّد لقطةٍ عابرة، بل صورةٌ مكثّـفة لواقع السياسة في عالمٍ يميل فيه الضوء نحو الأقوى لا نحو الأجدر، ويُكرَّم فيه المعتدي بينما يُترك الضحية وحيدًا في العراء.

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

إقرأ أيضاً:

د. عصام محمد عبد القادر يكتب: وجدان العطاء

دلالة العطاء دون مقابل تكمن في صفاء الوجدان، الذي تتعالى لديه المنزلة المعنوية عن المادية بفارق شاسع؛ حيث يتوقف شعور صاحب القيمة النبيلة على سعادة الآخرين، التي تبدو مظاهرها في ابتسامة، أو رضا، أو امتنان، أو مقدرة على استكمال مسيرة الحياة، وهذه المكرمة يتحلى بها الإنسان صاحب السريرة النقية، الذي يدرك أن ما يملكه أو يحوزه يستطيع أن يحدث به أثرًا إيجابيًا في نفوس الآخرين، كما يمكنه أن يعزز أطر التواصل الإيجابي، بما يؤدي إلى ترابط النسيج المجتمعي بصورة تلقائية.
وجدان العطاء يشعر صاحبه بالسعادة الغامرة، جراء ما يقوم به من ضروب خير متنوعة؛ لذا لا يفارقه الإحساس بماهية الرضا؛ حيث اليقين بأداء رسالة تقع على كاهل الإنسانية قاطبة؛ فالاجتماعية تقوم فلسفتها على مدّ يد العون، والشراكة، ومساقات المساعدة لأصحاب الحاجة، وهنا نود أن نشير إلى أن العوز لا يتوقف عند حدود المادية في إطارها المتعارف عليه؛ فهناك عطاء يكمن في إبداء مشاعر جياشة، أو محبة، يترجمها لطف التعامل والمعاملة؛ ومن ثم يقع مقصد هذه القيمة النبيلة في مساحة إضفاء البهجة والسعادة لدى قلوب الآخرين.
منْ يمتلك وجدان العطاء يحوز المعرفة الصحيحة لمفاهيم الحياة ومضامينها السوية؛ لذا لا نغالي عندما نقول إن الفؤاد يتقد، عندما تمتد اليد للآخرين، مقدمة كل ما يدخل السرور، وهنا يوقن الإنسان صاحب البذل أن الرحلة لا تخلو من اشتياق يحفزه دومًا تجاه إسعاد من يترقب الأمر، وهذا يجعل الروح مع العقل في حالة من الاتزان والانسجام المستدام؛ ومن ثم يصل صاحب الفضيلة إلى مرحلة السمو، وتلك درجة نتطلع إليها، ونأمل بلوغها بمزيد من الممارسات، التي تعمل على تأصيلها؛ لنصبح متمسكين بالتراحم والمحبة فيما بيننا على الدوام.
ثمة اتفاق على أن وجدان العطاء في مجتمعاتنا لا يقابله نظير في مجتمعات أخرى، وهذا دون مواربة سر التماسك والاندماج الاجتماعي، وقاعدة الترابط التي تجعل الجميع لديه شعور موحد، تجاه ماهية الوطن، والحفاظ على ترابه، والعمل على نهضته، وإعمار ربوعه، كما أن هناك ممارسات فريدة في حد ذاتها، نرصدها بين أهلنا الأكارم؛ حيث التعاون الذي يحض على دروب البر، وأعمال الخير، ليس فقط من قبيل صلاح السريرة، وحسن الخلق؛ لكن هنالك إحساس قوي بالمسؤولية تجاه المجتمع، وتعزيز استقراره، وبقائه، ونموه.
دعونا نفرق بين عطاء خالص، وممارسة تقوم على التفضل أو المنة؛ فشتان بينهما؛ فالأولى ترفع منزلة صاحبها في القلوب، ويصل من بوابتها للرضا الذاتي، بل، يحرص على أن تزيد معدلات السخاء من قبله، ولا يتقبل بحال من الأحوال اللجوء لمحاولات جني المكاسب، أو الحصول على امتنان وشكر من الآخرين؛ لأن كرم القلب واليد تقوم على سماحة في سياقها المطلق، وتلك صفة عظيمة المعنى؛ إذ تؤكد على رحابة الصدر وسعته، ويسر وسهولة التعامل؛ ومن ثم لا يعكر صفو صاحب وجدان العطاء المواقف العابرة التي قد تؤذي مشاعره، وأما عن الثانية فيزول الأثر في النفوس بعد لحظة المفارقة.
تعالوا بنا إلى نهضة تستلهمها نفوسنا؛ فتصير في طريق العطاء اللامحدود، وتعلى من قدر التعاون فيما بين أطياف هذا المجتمع، صاحب التاريخ والمواقف النبيلة، وهيا إلى تعزيز صور الممارسات، التي تعضد فلسفة العطاء في وجدان الأبناء؛ لتصبح حالات العوز في أدنى مستوياتها، وتزداد دروب الخير، التي يتدافع إليها الجميع دون استثناء؛ فالأمر ليس قاصرًا على عطاء مادي، بل، يتجاوز كل الأفعال والممارسات، المفرحة للآخرين، والمبهجة لقلوبهم، والسارة لنفوسهم؛ ومن ثم ترتوي أرواحهم سعادة تغمر وجدانهم النقي.
تراث المجتمعات التي تفقه فلسفة وجدان العطاء، تشاهد في عيون منتسبيها وممارساتهم المتباينة ملامح للولاء والانتماء والمسؤولية تجاه الوطن، وتلاحظ بعدهم عن مظاهر الأنانية، وحب الذات، والانطواء من أجل التفرد؛ لذا يتعاظم في النفوس فكرة الواجب الاجتماعي، الذي يزيد من تمسكنا بالقيم النبيلة، ويحثنا على الالتزام بالتشريعات التي توافقنا عليها؛ فيعم الأمن، والأمان، والطمأنينة، والاستقرار.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

طباعة شارك صفاء الوجدان مسيرة الحياة السريرة النقية

مقالات مشابهة

  • العنف يتصاعد والأرقام تكشف المأساة: مقتل وإصابة أكثر من 2200 امرأة في اليمن
  • عمرو أديب: مصر لم تبع القضية الفلسطينية.. وأهدافنا إنهاء المأساة الإنسانية في غزة
  • أول قرار من ليفربول تجاه صلاح بعد تصريحاته ضدّ الإدارة وسلوت
  • الاحتلال يدفع بتعزيزات عسكرية تجاه مخيم بلاطة في نابلس
  • د. عصام محمد عبد القادر يكتب: وجدان العطاء
  • غدا أولى جلسة المحاكمة.. تفاصيل الجريمة اللآخلاقية ضد أطفــ.ال مدرسة الإسكندرية
  • تفاصيل صادمة في وفاة السباح يوسف محمد.. النيابة العامة تكشف في بيان رسمي 3 دقائق حسمت المأساة
  • أحمد موسى عن الحديث عن اتفاق شرم الشيخ للسلام بقرعة المونديال: إذا ذكر السلام ذكرت مصر
  • نيوزويك: ترامب يبدو مترددا في تحديد سياساته تجاه فنزويلا
  • شهادات موجعة من قلب المأساة| أقارب ومعارف ضحايا حريق مول المنصورة يروون اللحظات الأخيرة