جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-21@18:53:13 GMT

أزمة العلاقات الإنسانية

تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT

أزمة العلاقات الإنسانية

 

 

د. هبة العطار

لم تعد العلاقات بين الناس كما كانت، لا لأنها انكسرت فجأة، بل لأنها تآكلت ببطء كما يتآكل لون الحائط تحت شمس لا ترحم. لم يعد الدفء عادة بل صار استثناءً نادرًا نحتمي به حين تباغتنا البرودة. نحن نعيش زمنًا تتقاطع فيه الأجساد، لكن الأرواح تمر بجانب بعضها كما تمر الظلال على الأرصفة، لا تلتفت ولا تترك أثرًا.

الإنسان بطبيعته لا يكتمل إلا بالآخر، وجوده مرآة تعكسه عيون المحيطين به، لكن حين تتشوه المرايا أو تغلق، يضيع التعريف. كأننا نعيش اليوم في عالم اكتفى بانعكاس رقمي خادع، لا يرى فيه أحدنا الآخر إلا كما يُريد أن يُرى لا كما هو حقًا، ووسط هذه المرايا الزائفة، تضيع اللحظات الصغيرة التي كانت تصنع دفء القلب، كأننا نسافر في صحراء بلا ماء، نتعطش إلى نظرة صادقة، إلى كلمة صادقة، إلى لحظة شعور حقيقية، ونكتشف أنَّ أكثر ما نفتقده ليس الوقت بل الصدق في التواصل، وأن الحنين إلى البساطة الإنسانية أصبح شعورًا نادرًا في زمن التعقيد الرقمي.

كنت أراقب صديقين قديمين يجلسان في مقهى، بينهما هواتف مضيئة وضحكات متقطعة تنتمي لشاشات أخرى، لم يكن بينهما صمت دافئ بل غياب متبادل. ذلك المشهد وحده كان اختصارًا لفلسفة العصر، نحن معًا جسديًا لكن أرواحنا تتهامس في أماكن مختلفة، وربما لم تتصدع العلاقات لأن الناس صاروا قساة بل لأنهم منهكون، كلٌّ يحمل داخله أعباءً لا تُرى، فيبني حول نفسه جدارًا شفافًا يقيه من الألم لكنه أيضًا يمنعه من الدفء. صرنا مدنًا محصنة، آمنة من الخذلان مهجورة من الداخل، ووسط هذا الخراب الصامت، نجد أنفسنا نبحث عن بقايا الحقيقة، عن لحظات الصدق التي تُعيدنا إلى إنسانيتنا، عن لمسة روحانية صغيرة تجعلنا نشعر أننا ما زلنا موجودين في قلب الحياة، رغم كل شيء.

في أحد دفاتر الفلاسفة الفرنسيين ورد: "لم يعد الآخر مرآتي؛ بل صار شاشة تُظهرني كما أريد لا كما أنا"، وهي عبارة تختصر مأساة الوجود في زمن الصورة، الوجوه تتكرر والدفء يغيب. العلاقات لم تنهَر لأنها ضعيفة بل لأنها فقدت جذورها، فالعلاقة التي لا تتغذى على الصدق تجف وإن لم تُروَ بالاهتمام تذبل. نعيش اليوم وسط ضجيج هائل من الكلام، لكننا نعاني من عطش شديد إلى الإنصات، نسمع بعضنا ولا نفهم، نرى بعضنا ولا نشعر. جاءت التقنية لتقدّم لنا وهم القرب، رسائل فورية، صور لحظية، ومحادثات بلا ذاكرة، ظننا أننا اقتربنا لكننا في الحقيقة أضفنا طبقة جديدة من العزلة. أصبحنا نقيس عمق علاقتنا بعدد الرموز التعبيرية لا بصدق الكلمات، بينما العلاقة الحقيقية تحتاج زمنًا بطيئًا تنضج فيه الأرواح كما تنضج الثمار، لكنها تعيش اليوم في عصر لا يطيق الانتظار، حيث كل شيء مسموح بلا مسؤولية، وكل تواصل بلا اتصال حقيقي، وكل قرب بلا دفء، وكل ابتسامة مختصرة بأيقونة لا تعادل أحيانًا حكاية حياة كاملة.

الحرية الحديثة جعلت الإنسان يخاف من الالتزام، فيريد أن يقترب دون أن يتورط، يحب دون أن ينكشف، ويتواصل دون أن يتصل حقًا. هكذا تحوّلت العلاقات إلى تجارب مؤقتة، إلى مقاطع عابرة في حياة مزدحمة، دون جذور تمتد أو ظلال تُظلّل. ورغم هذا الخراب يبقى فينا ما يقاوم، ربما في ابتسامة غريب عابر في محطة مزدحمة، أو في رسالة تصل بلا مناسبة من صديق قديم، أو في نظرة أم تفهم دون كلام، تلك اللحظات الصغيرة تشبه ضوءًا يتسلل من شق جدار قديم، يذكّرنا أن الإنسان لا يُمحى بالكامل وأن الندى لا يخون الفجر مهما طال الليل، وأن الأمل، رغم ضآلة حجمه، قادر على أن يعيد للبشرية بعضًا من دفئها الضائع، وأن الحنين إلى الاتصال الحقيقي لا يزال ممكنًا رغم كل الانكسارات.

 

إن انهيار العلاقات ليس نهاية الإنسانية بل اختبارها الأخير، فكل انهيار يكشف لنا مقدار ما تبقّى فينا من صدق، من استعداد للحب رغم الخذلان، ومن رغبة في اللقاء رغم الخوف، ومن قدرة على المسامحة رغم الخيانة، ومن سعي لإعادة بناء ما تهدم. حين نعيد تعريف العلاقة لا بوصفها تبادلًا للمنافع، بل مغامرة وجودية فيها خطر العُري والصدق والاحتمال، عندها فقط نستعيد وجه الإنسان الذي فقدناه في الزحام. ولأن المعنى لا يموت تمامًا حتى في أحلك العصور، يظل هناك خيط رفيع من نور يربط بين قلب لم ينسَ وقلب لم يتلوث، خيط خفي يشدّنا رغم المسافات لنؤمن أن دفء الإنسان ممكن، وأن الأرواح مهما تباعدت تظل تبحث عن صداها الأول، عن تلك اللمسة الصادقة التي تُعيد إلى العالم صوته الحقيقي، فربما لا نُنقذ العالم بعلاقاتنا، لكننا على الأقل ننقذ بقايا الإنسان فينا من العزلة المطلقة، ونثبت لأنفسنا أن الحياة لا تزال جديرة بالاهتمام، وأن الاتصال الحقيقي، مهما قل، قادر على أن يضيء ظلمات القلب.

 

وفي هذا المسار الطويل من البحث عن الاتصال الحقيقي، يظهر سؤال أعمق: هل نملك الجرأة لنكون صادقين تمامًا مع أنفسنا والآخرين، أم أننا سنظل نحتمي بالأقنعة ونحيا في الظلال؟ ربما الإنسان الذي يختار مواجهة الخوف، والانفتاح على الآخر رغم احتمالية الخذلان، هو الذي يُعيد للوجود معنى، ويعيد للعلاقات جوهرها المفقود، ويعيد للأمل حضوره في قلب الإنسان، ويثبت أن الحب والدفء ليسا مجرد ذكريات باهتة، بل ممكنان رغم كل الانكسارات والخيانات.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بدء تحرك شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر إلى غزة

عرضت قناة القاهرة الإخبارية خبرا عاجلا يفيد ببدء تحرك شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر إلى معبري العوجة وكرم أبو سالم تمهيدا لدخولها لقطاع غزة.

وفي وقت سابق أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، العودة إلى تطبيق وقف إطلاق النار بغزة بعد الرد على الهجمات في رفح أقصى جنوب قطاع غزة.


وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إنه وبناء على توجيهات المستوى السياسي وبعد شن سلسلة غارات ملموسة، بدأ الجيش إعادة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار بعد ان تم خرقه من قبل حماس.

وشدد أدرعي على أن الجيش سيواصل تطبيق اتفاق وقف النار وسيرد بقوة شديدة على كل خرق الاتفاق.

وفي السياق، ذكرت صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية أنه وبعد تقييم للوضع تقرر استئناف إدخال المساعدات لغزة يوم الاثنين 20 أكتوبر.

وتعليقا على قرار العودة إلى تطبيق وقف إطلاق النار، قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، إنه "تراجع مخز لمكتب رئيس الوزراء الذي أعلن إيقاف المساعدات حتى إشعار آخر وعاد عن قراره بعد ساعتين فقط".

وأضاف بن غفير: "يجب وقف سياسة التراجع والعودة إلى قتال مكثف في أقرب وقت من خلال المناورات والاحتلال وتشجيع الهجرة".

 

طباعة شارك غزة قطاع غزة القاهرة الإخبارية المساعدات الإنسانية

مقالات مشابهة

  • أزمة خانقة تضرب مؤسسة غزة الإنسانية.. نقص التمويل يهدد بوقف عملها
  • أرض الصومال وإثيوبيا تعيدان بناء العلاقات بعد أزمة ميناء بربرة
  • مجموعة (ميد 9): لا مبرر لمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة
  • الغماري.. شهيد الإنسانية
  • العلاقات الإنسانية كشرط للتحرر السياسي
  • وزير الداخلية الفرنسي يدعو إلى تحريك العلاقات مع الجزائر وسط أزمة دبلوماسية
  • رغم قطع العلاقات.. إسرائيل تهنئ الرئيس الجديد لبوليفيا
  • بدء تحرك شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر إلى غزة
  • «الصحة النفسية درعك ضد الإدمان» ندوة توعوية بمطروح الأزهرية ضمن مبادرة «بناء الإنسان»