أزمة العلاقات الإنسانية
تاريخ النشر: 21st, October 2025 GMT
د. هبة العطار
لم تعد العلاقات بين الناس كما كانت، لا لأنها انكسرت فجأة، بل لأنها تآكلت ببطء كما يتآكل لون الحائط تحت شمس لا ترحم. لم يعد الدفء عادة بل صار استثناءً نادرًا نحتمي به حين تباغتنا البرودة. نحن نعيش زمنًا تتقاطع فيه الأجساد، لكن الأرواح تمر بجانب بعضها كما تمر الظلال على الأرصفة، لا تلتفت ولا تترك أثرًا.
كنت أراقب صديقين قديمين يجلسان في مقهى، بينهما هواتف مضيئة وضحكات متقطعة تنتمي لشاشات أخرى، لم يكن بينهما صمت دافئ بل غياب متبادل. ذلك المشهد وحده كان اختصارًا لفلسفة العصر، نحن معًا جسديًا لكن أرواحنا تتهامس في أماكن مختلفة، وربما لم تتصدع العلاقات لأن الناس صاروا قساة بل لأنهم منهكون، كلٌّ يحمل داخله أعباءً لا تُرى، فيبني حول نفسه جدارًا شفافًا يقيه من الألم لكنه أيضًا يمنعه من الدفء. صرنا مدنًا محصنة، آمنة من الخذلان مهجورة من الداخل، ووسط هذا الخراب الصامت، نجد أنفسنا نبحث عن بقايا الحقيقة، عن لحظات الصدق التي تُعيدنا إلى إنسانيتنا، عن لمسة روحانية صغيرة تجعلنا نشعر أننا ما زلنا موجودين في قلب الحياة، رغم كل شيء.
في أحد دفاتر الفلاسفة الفرنسيين ورد: "لم يعد الآخر مرآتي؛ بل صار شاشة تُظهرني كما أريد لا كما أنا"، وهي عبارة تختصر مأساة الوجود في زمن الصورة، الوجوه تتكرر والدفء يغيب. العلاقات لم تنهَر لأنها ضعيفة بل لأنها فقدت جذورها، فالعلاقة التي لا تتغذى على الصدق تجف وإن لم تُروَ بالاهتمام تذبل. نعيش اليوم وسط ضجيج هائل من الكلام، لكننا نعاني من عطش شديد إلى الإنصات، نسمع بعضنا ولا نفهم، نرى بعضنا ولا نشعر. جاءت التقنية لتقدّم لنا وهم القرب، رسائل فورية، صور لحظية، ومحادثات بلا ذاكرة، ظننا أننا اقتربنا لكننا في الحقيقة أضفنا طبقة جديدة من العزلة. أصبحنا نقيس عمق علاقتنا بعدد الرموز التعبيرية لا بصدق الكلمات، بينما العلاقة الحقيقية تحتاج زمنًا بطيئًا تنضج فيه الأرواح كما تنضج الثمار، لكنها تعيش اليوم في عصر لا يطيق الانتظار، حيث كل شيء مسموح بلا مسؤولية، وكل تواصل بلا اتصال حقيقي، وكل قرب بلا دفء، وكل ابتسامة مختصرة بأيقونة لا تعادل أحيانًا حكاية حياة كاملة.
الحرية الحديثة جعلت الإنسان يخاف من الالتزام، فيريد أن يقترب دون أن يتورط، يحب دون أن ينكشف، ويتواصل دون أن يتصل حقًا. هكذا تحوّلت العلاقات إلى تجارب مؤقتة، إلى مقاطع عابرة في حياة مزدحمة، دون جذور تمتد أو ظلال تُظلّل. ورغم هذا الخراب يبقى فينا ما يقاوم، ربما في ابتسامة غريب عابر في محطة مزدحمة، أو في رسالة تصل بلا مناسبة من صديق قديم، أو في نظرة أم تفهم دون كلام، تلك اللحظات الصغيرة تشبه ضوءًا يتسلل من شق جدار قديم، يذكّرنا أن الإنسان لا يُمحى بالكامل وأن الندى لا يخون الفجر مهما طال الليل، وأن الأمل، رغم ضآلة حجمه، قادر على أن يعيد للبشرية بعضًا من دفئها الضائع، وأن الحنين إلى الاتصال الحقيقي لا يزال ممكنًا رغم كل الانكسارات.
إن انهيار العلاقات ليس نهاية الإنسانية بل اختبارها الأخير، فكل انهيار يكشف لنا مقدار ما تبقّى فينا من صدق، من استعداد للحب رغم الخذلان، ومن رغبة في اللقاء رغم الخوف، ومن قدرة على المسامحة رغم الخيانة، ومن سعي لإعادة بناء ما تهدم. حين نعيد تعريف العلاقة لا بوصفها تبادلًا للمنافع، بل مغامرة وجودية فيها خطر العُري والصدق والاحتمال، عندها فقط نستعيد وجه الإنسان الذي فقدناه في الزحام. ولأن المعنى لا يموت تمامًا حتى في أحلك العصور، يظل هناك خيط رفيع من نور يربط بين قلب لم ينسَ وقلب لم يتلوث، خيط خفي يشدّنا رغم المسافات لنؤمن أن دفء الإنسان ممكن، وأن الأرواح مهما تباعدت تظل تبحث عن صداها الأول، عن تلك اللمسة الصادقة التي تُعيد إلى العالم صوته الحقيقي، فربما لا نُنقذ العالم بعلاقاتنا، لكننا على الأقل ننقذ بقايا الإنسان فينا من العزلة المطلقة، ونثبت لأنفسنا أن الحياة لا تزال جديرة بالاهتمام، وأن الاتصال الحقيقي، مهما قل، قادر على أن يضيء ظلمات القلب.
وفي هذا المسار الطويل من البحث عن الاتصال الحقيقي، يظهر سؤال أعمق: هل نملك الجرأة لنكون صادقين تمامًا مع أنفسنا والآخرين، أم أننا سنظل نحتمي بالأقنعة ونحيا في الظلال؟ ربما الإنسان الذي يختار مواجهة الخوف، والانفتاح على الآخر رغم احتمالية الخذلان، هو الذي يُعيد للوجود معنى، ويعيد للعلاقات جوهرها المفقود، ويعيد للأمل حضوره في قلب الإنسان، ويثبت أن الحب والدفء ليسا مجرد ذكريات باهتة، بل ممكنان رغم كل الانكسارات والخيانات.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ذكرى رحيل محمود أبو زيد .. مبدع النصوص الإنسانية وعرّاب الشخصيات المُركّبة
ذكرى رحيل الكاتب والسيناريست الكبير محمود أبو زيد، أحد أبرز صناع الدراما والسينما المصرية، وصاحب مجموعة من أهم الأفلام التي تركت بصمتها في وجدان الجمهور، من بينها «العار»، «الكيف»، «جري الوحوش»، و«البيضة والحجر».
ويُعد أبو زيد من المؤلفين الذين أثّروا في مسار السينما العربية بأعمال اجتماعية وإنسانية عالجت ظواهر متعددة برؤية واعية وبأسلوب يجمع بين البساطة والعمق، كما كان أول من تنبأ بانهيار الأغنية ولغة الحوار الفنية، وهو ما تناوله في أعماله وفي عدد من حواراته الصحفية.
ولد محمود أبو زيد في 7 مايو 1941 بالقاهرة، وتخرج في المعهد العالي للسينما قسم الإخراج عام 1966، ثم واصل دراسته بكلية الآداب وحصل على ليسانس علم النفس والفلسفة عام 1970.
بدأ مسيرته مساعدًا للإخراج، ثم عمل رقيبًا على المصنفات الفنية حتى عام 1980، قبل أن يتجه بكامل طاقته إلى الكتابة للسينما، ثم المسرح والدراما التلفزيونية.
قدم أبو زيد في بداياته عددًا من الأفلام التي عرّفت الجمهور بأفكاره وطريقته في بناء الشخصيات، منها «بنات في الجامعة» (1971)، «الأحضان الدافئة» (1974)، «الدموع الساخنة» (1976)، «خدعتني امرأة» (1979)، «لحظة ضعف» (1981)، و«لن أغفر أبدًا» في العام نفسه. وقدّم في تلك الفترة نماذج متعددة لشخصيات المرأة والرجل، وعالج صراعات نفسية واجتماعية متشابكة.
وفي الثمانينيات شكّل ثنائيًا فنيًا بارزًا مع المخرج الراحل علي عبد الخالق، وقدما معًا ثلاثية من أهم علامات السينما المصرية: «العار» (1982)، «الكيف» (1985)، و«جري الوحوش» (1987)، قبل أن يقدما «البيضة والحجر» عام 1990 بطولة أحمد زكي، والذي عُدّ من أبرز الأعمال التي تناولت موضوع الدجل والخرافات.
امتدت تجربة أبو زيد إلى المسرح من خلال مسرحيات «جوز ولوز» (1993) و«حمري جمري» (1995)، ثم إلى الدراما التلفزيونية عبر مسلسلات منها «العمة نور» (2003) بطولة نبيلة عبيد، إضافة إلى عدد من الأعمال الإذاعية، وكانت آخر أعماله السينمائية فيلم «بون سوارية» لغادة عبد الرازق.
وخلال مشواره تعامل مع أبرز نجوم جيله، من بينهم محمود عبد العزيز، حسين فهمي، نور الشريف، وأحمد زكي، وتميّز هذا الجيل – كما أكد في أحد حواراته – بدقة اختيار النص والمضمون قبل النظر إلى المقابل المادي.
نال أبو زيد تقدير المؤسسات الثقافية والسينمائية، من بينها تكريمه في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط عام 2000، وتكريمه من جمعية الفيلم عام 2016، كما أصدرت عنه عدة دراسات من بينها كتاب للناقد نادر عدلي يتناول مسيرته الإبداعية.
رحل محمود أبو زيد في 11 ديسمبر 2016 عن عمر ناهز 75 عامًا بعد صراع مع المرض، تاركًا إرثًا فنيًا ممتدًا وحضورًا راسخًا في الذاكرة السينمائية، فيما أكدت وزارة الثقافة والجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما أن أعماله ستظل علامة بارزة في تاريخ الفن المصري والعربي.