لم تتوقع الجامعة الأمريكية في القاهرة وهي تُعلِن مطلع أكتوبر الجاري أسماء لجنة تحكيم جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية في دورتها القادمة، أن يُقيم الاسم الأخير في اللجنة الدنيا ولا يقعدها: رفائيل كوهين! نعم. اشتعلت النيران في الوسط الثقافي المصري لمجرد الاسم! فهو يُحيل إلى قائمة من الأعداء التاريخيين للأمة العربية، ابتداء من الجاسوس إيلي كوهين الذي أعدمته سوريا في ستينيات القرن الماضي، وليس انتهاء برئيس جهاز الموساد الأسبق يوسي كوهين.
في ساعاتٍ قليلة، تحوّل المترجم البريطاني المقيم في العاصمة المصرية إلى مادةٍ لبياناتٍ غاضبة، وكتاباتٍ نارية تتّهم الجامعة الأمريكية بمحاولة تمرير التطبيع عبر أبواب الثقافة الخلفية. أكثر من 200 مثقف مصري وعربي وقّعوا على بيانٍ يرفض وجوده في اللجنة، وهم يتساءلون: «هل خلت الساحة الثقافية المصرية والعربية من أدباء جديرين بعضوية اللجنة فلم يبقَ سوى كوهين؟». ومن يقرأ هذا البيان الخالي من أي دليل على «صهيونيةِ» المترجم البريطاني كما يدعي صائغوه، يتذكر على الفور بيت الشاعر صلاح عبد الصبور الشهير: «الناس في بلادي، جارحون كالصقور»!
لكنّ رفائيل كوهين الذي أُدين بسبب اسمه، لم يكن في الحقيقة طارئًا على المشهد الثقافي العربي، رغم ادعاء بعض المثقفين المصريين عدم معرفته أو السماع به من قبل. فمنذ ما يقارب العقدين يعيش في القاهرة، يترجم ويحرّر ويشارك في الحياة الأدبية. ونقل إلى الإنجليزية أعمالًا روائية وشعرية لعددٍ من الكتّاب العرب: «حارس الموتى» لجورج يرق، و«زهور تأكلها النار» لأمير تاج السر، و«قصائد الإسكندرية ونيويورك» لأحمد مرسي، و«إني أحدثك لترى» لمنى برنس، كما ترجم نصوصًا للروائية العُمانية غالية آل سعيد، وأعمالًا فكريةً صدرت عن مؤسساتٍ عربيةٍ ودولية. وترأّس عام 2024 لجنة تحكيم جائزة «بانيبال» للأدب العربي المترجم، التي يشرف عليها أديب عراقي ذاق هو الآخر الأمرّين بسبب اسمه الذي يوحي لهواة التنميط بأنه إسرائيلي هو الآخر: «صموئيل شمعون»!
وأظن أن المثقفين المصريين والعرب استندوا في بيانهم ضد كوهين، على حملة صحفية كاذبة شنتها عليه صحيفة «الأحرار» المصرية في منتصف التسعينيات، حين كان يعمل محررًا في صحيفة «الأهرام ويكلي»، عندما نشرت خبرًا عن «ترحيل المترجم الصهيوني الذي زرعته إسرائيل وسط المثقفين المصريين»!، وسرعان ما تلقَّفت صحيفة الحياة اللندنية هذا الخبر ونشرته عربيا. والحقيقة أن كوهين كان قد غادر القاهرة في ذلك الوقت بمحض إرادته عائدًا إلى لندن لسبب شخصي هو وفاة والده، ولا علاقة للأمر بترحيل ولا اتهامات بالتجسس، وقد رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة أمام المحكمة العليا في لندن، وكسبها. وهي بالمناسبة ليست المرة الوحيدة التي يكسب فيها دعوى ضد صحيفة تُشهِّر به وترشقه باتهامات باطلة، ففي عام 2008، وبعد نحو 5 سنوات من حادثة تفجير حانة في تل أبيب في أبريل من عام 2003، أدت إلى مقتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة 50 آخرين وهي الفترة التي كان فيها كوهين موجودًا في الضفة الغربية، اتهمته صحيفة «جويش كورونيكل» البريطانية، وهي من أشهر الصحف اليهودية الناطقة بالإنجليزية في العالم، بأنه استضاف منفِّذَيْ التفجير هناك (وهما بريطانيان مسلمان) قبل وقوعه بأيام. وقد رفع قضية ضد الصحيفة وكسبها أيضًا، واعترفت «جويش كورونيكل» بأن الاتهام كاذب، ودفعت له تعويضًا قدره ثلاثون ألف جنيه استرليني. وحين تسلّم المبلغ، (وهنا مربط الفرس وبيت القصيد) تبرّع بمعظمه لمؤسساتٍ تُعنى بإغاثة الفلسطينيين.
كان كوهين قد ذهب إلى الضفة الغربية في أكتوبر من عام 2002 للمشاركة في موسم حصاد الزيتون لمدة 4 أسابيع صور خلالها فيلمًا وثائقيًا عن معاناة المزارعين الفلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية، وقد عُرض هذا الفيلم لاحقًا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وانضم بعدها إلى حركة التضامن العالمية من أجل فلسطين (ISM)؛ وتوجه إلى رفح مشاركًا مع المتطوعين الدوليين في حماية الفلسطينيين. وكان شاهدًا على اغتيال قوات الاحتلال مواطنه الناشط البريطاني توم هورندال برصاصة قنّاصٍ إسرائيلي، وهو على مبعدة أمتار قليلة منه، وحين عاد إلى لندن أنشأ دورات تدريبٍ للمتطوعين من أجل فلسطين، التي حاول العودة إليها من جديد لكن سلطات الاحتلال منعته من الدخول واحتجزته أربعة أيامٍ في المطار، لأنه رفض التعاون معها بتقديم معلومات عن زملائه في حركة التضامن. ويروي كوهين لموقع «المنصة» أنه بكى قبل ذهابه إلى الضفة حين حدث نفسه بأنه ذاهب لمواجهة دولة باطشة وجيش محتل، وأنه قد يدفع حياته ثمنًا لذلك، ويضيف: «لم أبكِ مرة أخرى إلا أثناء الإبادة الحالية في غزة».
يخبرنا الروائي النمساوي ستيفن سفايج في روايته «فتاة مكتب البريد» (ترجمة: يوسف نبيل) أن «للأسماء قوة غامضة قادرة على التحويل. كخاتم في الإصبع، يمكن أن يبدو الاسم في البداية أمرًا عرضيًا تمامًا، لا يورطك في شيء، ولكن قبل أن تدرك قوته السحرية يتسلل تحت جلدك، ويصبح جزءًا منك ومن مصيرك». وهكذا كان اسم كوهين في بلادنا العربية، كافيًا لرفض صاحبه، ونكران جميله، حتى من نخبة المثقفين، دون أي نظر لمواقفه المشرفة تجاه قضيتنا الفلسطينية.
سليمان المعمري كاتب وروائي عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
من القاهرة.. الفصائل الفلسطينية تعلن تسليم إدارة قطاع غزة لهذه الجهة “الاسم”
القاهرة|يمانيون|وكالات
أكدت الفصائل الفلسطينية، اليوم الجمعة، على أهمية الوحدة الوطنية ورفض كل أشكال الضم والتهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، معتبرة أن المرحلة الحالية “تتطلب موقفًا وطنيًا موحدًا ورؤية سياسية تقوم على وحدة الكلمة والمصير ورفض أشكال الضم والتهجير كافة في قطاع غزة والضفة والقدس”.
وأكدت الفصائل الفلسطينية في بيان مشترك عقب اجتماعها في العاصمة المصرية القاهرة “دعم ومواصلة تنفيذ إجراءات اتفاق وقف إطلاق النار، بما في ذلك انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، ورفع الحصار المفروض عليه بشكل كامل، وفتح جميع المعابر بما فيها معبر رفح، وإدخال الاحتياجات الإنسانية والصحية كافة، وبدء عملية إعمار شاملة تعيد الحياة الطبيعية للقطاع وتنهي معاناة المواطنين”.
وأبدت حرصها واستعدادها لـ”تسليم إدارة قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من أبناء القطاع تتشكل من المستقلين (التكنوقراط)، تتولى تسيير شؤون الحياة والخدمات الأساسية بالتعاون مع الأشقاء العرب والمؤسسات الدولية”، مشددة على ضرورة الالتزام بـ”قاعدة من الشفافية والمساءلة الوطنية، وإنشاء لجنة دولية تشرف على تمويل وتنفيذ إعادة إعمار القطاع، مع التأكيد على وحدة النظام السياسي الفلسطيني والقرار الوطني المستقل”.
ودعت إلى “اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لحفظ الأمن والاستقرار في كافة أرجاء القطاع، مؤكدين على أهمية استصدار قرار أممي بشأن القوات الأممية المؤقتة المزمع تشكيلها لمراقبة وقف إطلاق النار”.
ودعت إلى “إنهاء كافة أشكال التعذيب والانتهاكات بحق الأسرى في سجون الاحتلال، وضرورة إلزام الاحتلال بالقوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة، مؤكدةً أن قضية الأسرى ستبقى على رأس أولوياتنا حتى نيل حريتهم”.
وأهابت بمواصلة العمل المشترك لتوحيد الرؤى والمواقف لمجابهة التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية، بما في ذلك الدعوة إلى عقد اجتماع عاجل لكافة القوى والفصائل الفلسطينية للاتفاق على استراتيجية وطنية وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل يضم مكونات الشعب الفلسطيني وقواه الحية كافة.
وكانت الفصائل الفلسطينية قد استهلت اجتماعها بتوجيه التحية إلى جماهير الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، خصوصًا في قطاع غزة، وإلى الشهداء والأسرى والجرحى، معتبرة أن استمرار الجهود ضروري “من أجل إنهاء المعاناة وتحقيق مستقبل أفضل لشعبنا وقضيتنا الوطنية”.
وأدانت الفصائل “مصادقة برلمان الاحتلال بالقراءة التمهيدية على قانون تطبيق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية”، معتبرةً ذلك “عدوانًا خطيرًا على الهوية والوجود الفلسطيني”.
وشددت الفصائل على أن “الوحدة الوطنية هي الرد الحاسم على هذه السياسات”، داعية إلى اتخاذ كل الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك.
واختتمت الفصائل اجتماعها بالتأكيد على أن “الوقت من دم، واللحظة الراهنة مصيرية”، مشددة على أن هذا اللقاء “يجب أن يشكل نقطة تحول حقيقية نحو وحدة وطنية دفاعًا عن شعبنا وحقه في الحياة والكرامة والحرية وصون أمانة القضية الفلسطينية وحقوق الأجيال القادمة وحقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وبما يكفل حق العودة للاجئين الفلسطينيين”.