أثير- عبدالرزّاق الربيعي

في آخر زيارة للشاعر الكبير الراحل كريم العراقي لمسقط، حضرت معه دعوة أقامتها نخبة من الأطباء العراقيين المقيميين في سلطنة عمان، وبينما كان الجميع منشرحا، ومنطلقا مع الشعر والموسيقى والغناء وكلمات الثناء والترحيب، والمحبّة، تعكّر مزاج الشاعر الضيف فجأة، وأطرق برأسه، لاحظتُ هذا التحوّل المفاجئ في المزاج، وكنت أجلس إلى جواره، فقلت له:
-أبا ضفاف، ما بك؟ هل حدث شيء أزعجك؟
أجابني بانفعال” شلون قهر! بعد خمسين سنة، نصير تحت التراب، ويجي ناس غيرنا يجلسون بهذا المكان؟ ”
كان سؤالا صادما، جاء في غير أوانه، فقد كنّا في قمّة المرح، والسعادة، فما الذي جعل شبح الموت، ومآل البشرية، والمصير المحتوم، تقف أمام عينيه فجأة؟ أهو إحساس الشاعر المرهف بالحقائق الحتمية الكبرى التي لا يستطيع تجاهلها حتى وهو في أقصى لحظات الفرح؟
وبالطبع، كان عليّ واجب إخراجه من هذه الدوامة من الأفكار السوداوية التي تداهم الشعراء والمفكرين في الأوقات غير المناسبة، فقلت له” والله أنت متفائل، خمسون سنة؟ هذا إذا كنا محظوظين، ربما أقلّ من ذلك بكثير”
فقال بروحه المرحة ” خويه أبو دجلة على كيفك وياي، اشبيك عليّه؟ يعني لازم تطيّنهه؟”، واستغرقنا بضحكة طويلة أعادتنا إلى الأجواء اللطيفة، هكذا كان كريم العراقي، مجبولا من ألم دفين، يبحث عن منطقة رخوة، ليطلّ برأسه، ربّما يعود ،هذا الألم، بالإضافة إلى آلام الشاعر الكونية، وأسئلة الوجود، إلى سنوات النشأة البائسة التي تطرّق إليها في روايته (الشاكريّة) وهي أقرب ما تكون إلى رواية سيرة ذاتيّة، والظروف التي مرّ بها في حياته، من دخوله في نفق السياسة المظلم، بعد أن استثمرت جهة معيّنة نجاحه المبكّر، فجرفه التيّار وكانت النتيجة تعرّضه للاعتقال:
دم شعبي فوك الجسر
باني لي غرفة عرس
يالله شبقه؟ هلهلو
درب الجسر للشمس
صافح جسرنا السما
وتلاكه باجر بامس
في ذلك المعتقل كتب قصيدته “يا أمي يا أم الوفه” التي غنّاها المطرب سعدون جابر، وليس في ملعب الشعب الدولي، كما يروي المطرب، وأكثر ما كان يؤلمه اكتشافه في المعتقل أنّ مسؤولين في الجهة التي انتمى إليها وشوا به، وكانت النتيجة الحكم عليه ورفاقه بالإعدام:
خدّي بحلاة الخبز
والدم شتل حنطه
يا وجهي ردّ اللهب
دخان للشرطة
زيدولي نار وحطب
خل اصعد ويا الريح
دم والهتاف انجمع
تسبيح اجه تسبيح
يابويه جن الشعب
طاح السما وما يطيح
لكن لطف الله أنقذه من موت محقّق، فيما نفّذ الحكم برفاقه، وهذه حكاية لا مجال لذكرها في هذا المقال التأبيني، وبعد خروجه من المعتقل تخلّت تلك الجهة عنه، كما جرى تماما مع الشاعر الرائد بدر شاكر السيّاب:
بهيجه يا بهيجه
رديلي خيطي ثوبي
واكعد بفي ابّيتنه
وألكه خبزتي وكوبي
تعبان يابهيجه
عطشان يا بهيجه
وكان يحدّثني عن تلك المرحلة بمرارة شديدة، مدافة بسخريته المعهودة، ولسان حاله يردّد بيت طرفة بن العبد:
إلى أن تحامتني العشيرة كلّها
وأفردت إفراد البعير المعبّد
ثمّ عاش حياة غير مستقرّة اجتماعيا، بعد انفصاله عن زوجته الأولى (الفنانة حميدة العربي)، وحرمانه من ابنته ( ضفاف) التي تعيش مع أمّها في لندن، وذات يوم أقامت لي مؤسسة (الحوار الإنساني) أمسية شعريّة في لندن وبعد عودتي لمسقط تلقيت رسالة طويلة عبر بريدي الإلكتروني من ابنته (ضفاف) تعبّر بها عن أسفها، لأنها حضرت في اليوم التالي للأمسية، لخطأ حصل عند نشر الإعلان، وكانت تودّ حضورها واللقاء باعتباري من أصدقاء والدها المقرّبين، فنقلت الرسالة لوالدها، فتألّم كثيرا، فقد كان متعلّقا بها، لكنّ الظروف المحيطة بهما تمنعهما من التواصل، ورغم أنه تزوّج ثانية وأنجب ولدا وبنتا، لكنّه لم يهنأ بحياة أسرية مستقرّة كونه عاش سنوات عديدة بعيدا عن أسرته، بسبب ارتباطاته بأعمال فنية في دبي، بينما كانت الأسرة تقيم في السويد، وحين التحقت به أسرته، كان المرض قد بدأ يسري في جسده، وعندما كنت أتواصل معه غالبا ما كان وحيدا، لكنه كان متشبّثا بالأمل، مغالبا الألم، مواصلا الكتابة:
ضاقت عليّ كأنها تابوتُ
لكنما يأبى الرجاء يموت
والصبر يعرف من أنا منذ الصبا
وشم له في أضلعي منحوت
فقد كان شعاره الدائم الذي جعله متشبّثا بالحياة ، مغالبا أوجاعه، وشراسة المرض قوله بقصيدته ( رحّال) التي غنّاها كاظم الساهر في مقدّمة مسلسل( المسافر) :
” أوكع وأصيح :الله
وانهض من جديد”
ورغم كل النجاحات التي حصدها إلا أن الكثير من الأعمال التي كتبها، وكان غزير النتاج لا يتوقف عن الكتابة حتى الأسابيع الأخيرة قبل رحيله، لم تر النور لأسباب شتى، وأبرزها أوبريت (أنا ابن كلكامش) الذي كتبه بطلب من المطرب كاظم الساهر، لكنه أجّل تنفيذه، بحثا عن منتج، وربما خطّط الساهر بأن يكون نهاية مشواره الغنائي، والوقت لم يحن بعد، فالساهر في عزّ عطائه، ونجوميّته، ولم تنفع محاولات الشاعر الراحل بحثّ الساهر على تنفيذه، وفي عام 2013م توافق وجود الشاعر كريم العراقي في مسقط في الوقت نفسه الذي دعت دار الأوبرا السلطانية مسقط، الساهر لإحياء ثلاث حفلات فيها، فوجدها الشاعر فرصة للقاء به، بعد انقطاع، وذهبتُ معه إلى فندق (حياة مسقط) لإلقاء التحيّة على الساهر الذي كان يقيم في جناح، وجلسنا مع الساهر، وحين تحدّثا عن ذكرياتهما المشتركة في مطلع التسعينيات عندما كانا يقيمان في بيروت وعمّان، استأذنت، لأتيح لهما المجال للحديث في الخصوصيّات والمشاريع وأهمها مصير الأوبريت الذي كان الهدف الأول من اللقاء، ومضيتُ وبعد خروج الشاعر كريم من لقائه بالساهر، كلّمني، وكان محبطا، لكونه لم يحصل على وعد منه بإنتاج الأوبريت، هذا التأجيل يعني المزيد من تأخير مستحقّاته كمؤلّف له، وخلال سنوات مرضه الأربع، اجتمعا في دبي، كما قال لي، وكان المرض قد استفحل بجسده الذي صار نحيفا، وفقد أجزاء من أعضائه في العمليات الكثيرة التي أجراها له الأطباء في المستشفى في (أبو ظبي)، وبان التعب عليه، واتّفقا على تحويل الأوبريت إلى فيلم سينمائي، فعكف على الكتابة، وهو في أشدّ حالات مرضه، لكنّ الفيلم لم ير النور إلى اليوم، وحين التقيت المطرب كاظم الساهر في كواليس دار الفنون الموسيقية بدار الأوبرا السلطانية مسقط قبل بدء الحفل الذي أقامه فيها العام الماضي سألته عن المشروع، فأجاب: لم يحن الوقت بعد!
ورغم آلامه، كان الراحل كريم العراقي، مبتسما، لطيف المعشر، في غاية التواضع، والإحساس، والإنسانيّة، رغم أنه كان نجما، ونجوميّته تضاهي المطربين، ومن النادر أن يحقّق الشاعر نجوميّة في مجتمعاتنا العربيّة، وكثيرا ما كان يقاطع جلساتنا أينما حلّ شباب يطلبون التقاط صور تذكاريّة معه، ومن الطرائف أننا خرجنا ذات يوم من دار الأوبرا السلطانية، بعد حفل المطرب كاظم الساهر، وكان قد تزاحم الجمهور عليه، مثلما تزاحم على حفل الساهر، فخرجنا بصعوبة، متوجّهين إلى أحد المطعم، فاشترطت عليه أن نطلب وجبة طعام (سفري)، تجنّبا للمعجبين، فوافق، وحين جلب عامل المطعم الوجبة، إلى السيارة التي تقلّنا، وكان مصريّ الجنسيّة، تفحّص وجه كريم العراقي، وصاح: الله! ايه النور ده، كريم العراقي؟ ممكن اتصوّر معك؟ ”
فالتفت لي كريم ضاحكا، وقال:” شفت شلون أبو دجلة؟ هاي ما لي علاقة بيهه؟ وين أضم روحي بعد؟”
وكان كريما معه، كما هو الحال مع جميع من يقابله، فالمحبة كانت عنوان إقامته الدائم، رغم كل ّ ما مرّت به من صعوبات وانتكاسات:
عواصف الحقد إن سحقت مزارعنا
فنخلة الحب أرست جذرها فينا
يخبّئ أحزانه، بالسخرية، والمرح، حنونا، وفيّا لأصدقائه، حتى أصدقاء الدراسة، وذات يوم تواصل مع أخي الأكبر د.

حاتم الربيعي، وكان صديق دراسة له، ليسأله عن صديق مشترك، لا يربطه به سوى المقعد الدراسي، وذكريات سنوات الدراسة في ثانوية (قتيبة)، في الوقت الذي كانت عجلة الحياة اليومية قد محت ذاكرة ذلك الصديق !، لكنّ طبقات حزن الشاعر العراقي التي تكلّست في وجدانه، كانت تبحث عن منفذ، لتخرج، على هيئة قصيدة، أو أغنية أو سؤال إشكالي، كالسؤال الذي دار برأسه في تلك الليلة، ولم يكن قد اقتطع من الخمسين سنة التي كان قد خمّن أن يمضي بعدها إلى التراب سوى سنوات قليلة!!

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: کریم العراقی کاظم الساهر ما کان

إقرأ أيضاً:

د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!



لا بد أن نستثمر سواء في الاقتصاد أو في البشر أو في الوطن وفي التعليم وفي البنية الأساسية، وفي القوي الناعمة التي تمتلكها ( الثقافة المصرية ).

لا بد من أن نستثمر وأن نرفع شعار "الإستثمار هو الحل" الوحيد، والأكيد لتقدم الأمة  ، ولا أكون مخطئا إذا قلت بأن الاستثمار في الأخلاق مهم جدا، وهذا يُدْخِلْ البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة كمسئولية أساسية !!

فالأخلاق هي أساس تقدم المجتمع، ولعل مجتمع بلا أخلاق، وهو مجتمع بلا مستقبل، وقد تميز مجتمعنا المصري بكرم أخلاقه، وشَدَتْ بنا الأمم، وكنا ومازلنا أقل بلاد العالم ظهورا في سوق " قلة الأدب "، فنري من خلال الفضائيات ومن خلال الأعلام، أننا مازلنا نحتفظ بالحد المعقول من الأخلاق الحميدة، وإن شابنا في بعض الأحيان فساد أخلاقي، وذلك ناتج تغير في سياسات، وإنتقالنا من أسلوب سياسي إلى أسلوب أخر.. وإنفتاحنا علي كل "هواء العالم"، سواء مباشر أو مسجل أو منقول، والاستثمار له قواعد  تكلمنا وتكلم غيرنا عن القواعد والأطر والمناخ الجاذب والمناخ الطارد !! 
كل هذا معلوم، ومعروف ولكن المهم ماذا فعلنا لكي نستثمر ونجد من يستثمر معنا في بلادنا....

وضعنا قوانين، وقضينا علي معوقات، وقابلنا تحديات ومازلنا علي هذا الدرب... متخذين كل الوسائل وقوي الدفع للتقدم....
والمؤشرات التي تعطينا رؤية لما وصلنا إليه مُطَمِئْنَة وأن كانت تصف تحركنا الإيجابي بالبطء في بعض الأحيان إلا إنه إيجابي !!
ومن أهم المؤشرات ما صدر عن مؤسسة فيتش "أكد التقرير علي التصنيف الائتماني الحالي لمصر، مع تغيير التوقعات المستقبلية من " ثابتة " إلى " إيجابية " مما يشير إلى الأثر الإيجابي عالميا للإصلاح الاقتصادي والسياسي الحالي وقد تضمن التقرير تحليل للاقتصاد المصري وضحه كما يلي: 
 مظاهر القوة:
تحسن الإطار العام لصياغة السياسات الأمنيه، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، وانخفاض معدل التضخم، ظهور بعض التحسن في الموقف الخارجي لميزان المدفوعات، وقيادة الاحتياطي من النقد الأجنبي، بطرق إيجابيه مع العمل على خفض الديون الخارجية، لتقليل خدمة الدين الخارجي !!
 مظاهر الضعف:
القلق بشأن عجز الموازنة العامة للدولة والدين العام، وضرورة العمل علي ضمان جودة قاعدة البيانات، الحاجة إلي تطوير فاعلية الجهاز المصرفي وخاصة فى تمويل قطاعات الصناعات والمشروعات الصغيرة، وتحديات سياسية وديموجرافية واجتماعية لا يمكن مواجهتها ألا من خلال زيادة معدلات النمو الاقتصادي، عدم قدره الحكومة علي استيعاب بعض الصدمات السياسية نتيجة زيادة حريات التعبير والديمقراطية !!
عدم وجود شفافيه فيما تتخذه الحكومه من سياسات الإقتصاد والتنسيق بين السياسات الماليه والنقدية. 
وعلي الرغم من جودة المؤشرات الاقتصادية الكلية ظاهريا -ألا أن معدل النمو5% مازال متواضعا بالنسبة لمصر، وبحيث يشعر به رجل الشارع !!!من إحتياجات أساسيه للأسره، تلبيها القوات المسلحه للشعب، والحكومه ما زالت فى واد أخر بعيد عن منال الشعب !

[email protected]

مقالات مشابهة

  • سعد الصغير باكيًا: حسبي الله ونعم الوكيل في اللى مجاش عزاء أحمد صلاح وكان فاضي
  • أول رد من شقيق شيرين عبد الوهاب على أزمة التوكيل الملغي
  • وزيرة الصحة الألمانية: الأمراض النسائية لم تحظ بما يكفي من الاهتمام طبيا
  • عيد العشاق.. كاظم الساهر يشعل حماس جمهوره في قطر
  • د.حماد عبدالله يكتب: مصر والمصريون !!
  • شيرين عبدالوهاب تخسر قضية تتعلق بحساباتها على منصات التواصل
  • د.نزار قبيلات يكتب: العربية والموسيقى والشعر
  • دراسة: قلة الحركة تزيد خطر آلام الظهر المزمنة بنسبة 60%
  • د.حماد عبدالله يكتب: الاستثمار هو الحل !!!
  • حكم نهائي يُفجّر أزمة شيرين عبدالوهاب مع شركة The Basement