مسلم يساري ومؤيد لغزة.. هل زهران ممداني واحد منا؟
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مجرد تبدّل في الوجوه داخل قاعة بلدية، بل لحظة رمزية قلبت موازين الصورة في أميركا والعالم العربي معا. فالرجل الذي جاء من الهامش، ابن المهاجرين والمسلم واليساري التقدّمي، لم يكتف بتحقيق إنجاز انتخابي لافت، بل أطلق نقاشا عابرا للقارات حول معنى الهوية والانتماء والتمثيل.
وبين من رآه انتصارا للمسلمين والفقراء، ومن اعتبره "اختراقا يساريا" في معقل الرأسمالية، ومن قرأ فيه دليلا على انفتاح الغرب على التنوّع، وجد العرب أنفسهم في مرآة جديدة تعكس أحلامهم المؤجلة وأسئلتهم القديمة عن العدالة والمكان والهوية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"العيون الخمس".. كيف تدير واشنطن أكبر منظومة مراقبة وتجسس؟list 2 of 2باستخدام ميكانيكا الكم.. كيف تتجهز الصين لكشف تخفّي إف-35 وإف-22؟end of listلقد هللت وسائل إعلام عربية ومنصات التواصل الاجتماعي لهذا الانتصار التاريخي، الذي يرى فيه الكثيرون دليلا على تغير جوهري في توجهات الرأي العام الغربي. وبات يُنظر إلى ممداني -أول عمدة مسلم وأصغر من يتولى هذا المنصب منذ قرن- بوصفه رمزا قاطعا على أن صوت الأقليات والمهاجرين قادر على اختراق أعلى مستويات السلطة في الغرب.
وقد شكل موقف ممداني الصريح والمؤيد لوقف إطلاق النار في غزة، وانتقاده السياسات الإسرائيلية، نقطة ارتكاز رئيسية في الاحتفاء العربي. وقد وصفت العديد من التحليلات فوزه بأنه "هزيمة ساحقة" للصهيونية وللرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان قد شن حملة شرسة على "المرشح الشيوعي"، خاصة وأن نيويورك تعتبر أكبر تجمع يهودي خارج فلسطين المحتلة.
ورأى الناشطون العرب أن صعوده يمثل انتصارا للعدالة ولقضايا الشعوب المظلومة، وأن الشعوب الغربية باتت تتوق إلى سياسيين "يتحدثون لغتها ويشعرون بأوجاعها"، حتى إن البعض أشار إلى أن فوزه جاء "رغم أنف اليمين والصهاينة، ورغم حملاتهم وأموالهم لتشويهه".
لقد عززت حملة ممداني المبتكرة من شعبيته في أوساط الجالية العربية والمسلمة، حيث تضمنت مخاطبة الناخبين باللغة العربية وتناول الكنافة النابلسية في محلات البقالة، في مشهد وُصف بأنه غير مألوف في الانتخابات الأميركية.
إعلانواستثمر الإعلام العربي بكثافة في صفة "المسلم" في شخصيته، في حين ركزت التيارات اليسارية على إبراز هويته كمرشح ديمقراطي اشتراكي يدافع عن الطبقة العاملة والفقراء في نيويورك، ويطالب برفع الضرائب على الأغنياء. هذا التنوع في زوايا التغطية يؤكد محاولة كل تيار عربي أن يجد في نجاح ممداني تأكيدا لتوجهاته.
وبمجرد أن رفع يديه ملوحا بنجاحه في منصب عمدة نيويورك، فقد تحوّل ممداني إلى رمزية عابرة للقارات أشعلت نقاشات محتدمة في الفضاء العربي. هذا الرجل، الذي يجمع بين صفات غير مسبوقة، أصبح فجأة "المرآة" التي يتنازع الجميع على رؤية صورتهم فيها.
ولعلّ ما يجعله شخصية مشوقة للعرب هو هذا الخليط النادر، فهو ابن مهاجرين، وناشط يساري صريح، وعضو فاعل في حركة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين "دي إس إيه" (DSA)، والأهم من ذلك أنه وجه معروف في الاحتجاجات المؤيدة لغزة والداعية لوقف إطلاق النار.
هذا المزيج الثري يفسر سر هذا التنازع العربي. فكل تيار يسعى لتبنيه، فالإسلاميون يرونه واحدا منّا بصفته مسلما "نصير غزّة" ومؤيدا للقضية الفلسطينية. بالمقابل يهتف له اليساريون العرب باعتباره ممثلاً لأفكارهم كونه ديمقراطيا اشتراكيا صريحا. كما تحتفل به التيارات الليبرالية والديمقراطية التقليدية بوصفه نموذجا مبهرا لقصص نجاح المهاجرين والتنوع العرقي في الوصول إلى أعلى المناصب.
الجدل العربي.. من يملك المنتصر؟على خلاف الصورة الأسطورية التي رسمها له بعض المعلّقين العرب، فإن ممداني لا يحمل برنامجا ثوريا يقلب الطاولة على النظام الأميركي، بل يقترح تعديل موازينها من الداخل. ففي مواقفه من فلسطين، فقد دان هجمات حركة حماس بوصفها "جريمة حرب مروّعة"، وفي الوقت نفسه اعتبر أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وطالب باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك تنفيذا لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية، وهو نفسه كان قد اُعتقل في مظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار، وظل موقفه المؤيد لحقوق الفلسطينيين جزءا من صورته العامة، ومن الهجوم عليه في الإعلام الأميركي والإسرائيلي.
لكن وراء هذا الاحتفاء العاطفي تكمن حقيقة يجب إدراكها، وهي أن ممداني، رغم خلفيته، هو نتاج سياق أميركي محدَّد، فهو ابن مدرسة الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، يعمل ويُشرّع ضمن مؤسسات أميركية راسخة، وقبل كل شيء يخاطب جمهوره وناخبيه في نيويورك وليس في أي عاصمة عربية. فهل سينجح في تحقيق التوازن بين رمزيته العالمية وواقعه السياسي الأميركي؟ هذا ما ستكشفه الأيام.
وتأسيسا على موقفه كاشتراكي ديمقراطي تقدمي، يُعد ممداني مناصرا قويا ومتقدما لحقوق الشواذ جنسيا والمتحولين جنسيا. ويتجاوز دعمه مجرد البيانات العامة ليتحول إلى تعهدات سياسية ملموسة، تشمل حماية وتمويل الرعاية الصحية الداعمة للنوع الاجتماعي (Gender-Affirming Care) وجعل نيويورك "مدينة ملاذ" لأفراد هذا المجتمع.
وقد تعهد ممداني باستثمار 65 مليون دولار في الرعاية الصحية للمتحولين جنسيًا في نيويورك. ونتيجة لهذا الموقف الثابت، حصل ممداني على دعم واسع وتأييد رسمي من كبرى المنظمات المعنية بحقوق "مجتمع الميم" في نيويورك.
إعلانإذن، العمدة الجديد لمدينة نيويورك هو يساري تقدّمي، نقدي للمؤسسة الأميركية ولإسرائيل، لكن من داخل النظام.
سيرة تتقاطع فيها الهوياتلا ينتمي ممداني لأي من التيارات العربية، لكنه ابن بيئة أميركية تقدّمية لها تاريخها ومرجعيتها. وهو نتاج معركة داخل الحزب الديمقراطي بين جناح المؤسسة التقليدي وجناح العدالة الاجتماعية الذي يمثله بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز. وإذا كان يتحدث عن غزة، فهو يفعل ذلك بصفته إنسانا يساريا يرى في الإبادة جريمة، لا بصفته ممثلا لجالية عربية.
وحتى في أوج حماسة أنصاره، لا يمكن إغفال أن منصب العمدة، مهما بلغ نفوذه في نيويورك، يظلّ محصورا في الشؤون المحلية، فقضايا السياسة الخارجية، والعلاقات مع إسرائيل، ومواقف الحرب والسلام، كلها خارج صلاحياته. وكل ما يستطيع تغييره هو ميزانية المدينة، وأولويات الإنفاق، ومناخ النقاش العام.
وهو في كل ذلك سيواجه تحديات ضخمة، فسوف يقف أمامه كل من لوبيات العقار التي ترى في تجميد الإيجارات خطرا على أرباحها، والمصالح المالية لشارع المال والأعمال وول ستريت التي تتوجّس من أي سياسات ضريبية جديدة، وكذلك الإعلام المحافظ الذي بدأ بالفعل شيطنته بوصفه "الوجه الإسلامي لليسار المتطرف".
ومع ذلك، يبقى لممداني مساحة من التأثير الرمزي، فأن يكون عمدة أكبر مدينة أميركية مسلما ومهاجرا ومؤيدا لغزة، ومتحدثا بلغة العدالة الاجتماعية، فهذا بحد ذاته انقلاب ثقافي في صورة القيادة السياسية الأميركية. وربما هنا تكمن أهميته الحقيقية، ليس في ما سيفعله، بل في ما يمثّله.
ملامح التحوّل داخل اليسار الأميركييأتي صعود ممداني في لحظة حاسمة من تاريخ الحزب الديمقراطي الأميركي، إنها لحظة يعاد فيها تعريف معنى "الديمقراطية التقدمية" من الداخل. فاليسار الأميركي، الذي كان طويلاً صوتا نخبويا في الجامعات والصالونات، بدأ منذ عقد يتخذ ملامح أكثر شعبية، متجذرا في القضايا اليومية مثل الإسكان والأجور والتعليم والمناخ والعنصرية البنيوية.
وبهذا فإن ممداني أحد أبناء هذا التحوّل، لا استثناء منه. فهو لا يمثل الجناح الكلاسيكي المرتبط بالمؤسسة الديمقراطية الموالية للأسواق واللوبيات، بل ينتمي إلى التيار الجديد الذي يقوده جيل ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، حيث اليسار لا يعتذر عن لغته الطبقية، ولا يخشى الدفاع عن العدالة الاجتماعية في مواجهة الرأسمالية المتوحشة.
بفوزه في نيويورك، يمدّ ممداني هذا التيار بخبرة ميدانية جديدة، فهو أول سياسي من خلفية مسلمة مهاجرة يتجاوز حدود "الدائرة التمثيلية" ليصل إلى منصب تنفيذي في مدينة تعتبر مركز المال والإعلام الأميركي. وهو بهذا دليل على أن خطاب اليسار التقدّمي لم يعد مجرّد صرخة احتجاج من الهامش، بل بدأ يجد طريقه إلى مؤسسات القرار نفسها.
ومع ذلك، فإن صعوده يعكس أيضا أزمة الحزب الديمقراطي الأكبر، إنه الانقسام بين جناح يسعى لتجديد روح العدالة الاجتماعية، وجناح آخر يخشى خسارة الوسط الانتخابي ويستمرّ في المساومات مع قوى المال والسوق.
من هنا، يصبح ممداني أشبه بوجه رمزي لتحوّل أعمق يعصف بالديمقراطية الأميركية نفسها، ويمكن القول إن هذا التحول يضع اليسار الأميركي أمام امتحان جذري، فهل يستطيع أن يبقى تقدّميا من دون أن ينفصل عن واقع الحكم؟
بين النهضة المؤقتة والتحوّل البنيوييصعب الجزم إن كان صعود ممداني يؤشّر على نهضة يسار أميركي متكاملة أو على موجة مؤقتة ستتراجع تحت ثقل المؤسسة السياسية والمالية. لكن ما يمكن قوله بيقين هو إن حضوره يكشف تحوّلًا في الوعي الجمعي داخل المدن الكبرى، فقد تعب المواطنون الأميركيون من خطاب الوسط البارد، وعادت مجددا الأسئلة التي حُجبت طويلا خلف شعارات "الواقعية الاقتصادية".
إعلانوفي هذا السياق، فإن ممداني ليس مشروع زعيم أيديولوجي، بل هو أقرب إلى أعراض مرحلة تعيد فيها أميركا النظر في فكرة المساواة ذاتها، رغم أن النظام السياسي الأميركي لا يزال شديد المقاومة للتغيير الجذري، وكل محاولة يسارية للتمدد إلى مراكز السلطة تُواجه بحزام ناري من المال والإعلام والمصالح.
ولقد رأينا كيف تم احتواء بيرني ساندرز داخل الحزب، وكيف تم تطويع خطاب ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز ضمن حدود الممكن الانتخابي. لذلك، قد يتحوّل ممداني إلى رمز جديد لليسار الأخلاقي داخل النظام من دون أن يملك بالضرورة القوة لإعادة تشكيله.
ومع ذلك، تظل رمزيته أقوى من موقعه الإداري، فمجرد أن يقود مسلمٌ مهاجر من أصل أفريقي آسيوي أكبر مدينة في الولايات المتحدة، بدعم من الفئات العاملة والملوّنة، يعني أن البنية الثقافية للنظام بدأت تتزحزح من الداخل.
إنه ليس ثورةً حمراء، بل زحفا بطيئا نحو ضمير سياسي أكثر إنسانية، تحرّكه قضايا الناس لا حسابات الشركات. وإن كانت التجربة ستنجح أو تنكسر تحت ثقل الواقع، فإنها على الأقل تثبت أن أميركا لم تعد حكرًا على وجوهها التقليدية، وأن اليسار الجديد بات يتحدّث بلكناتٍ متعددة، إحداها تحمل نبرة مهاجر مسلم اسمه ممداني.
صعود الرموز العابرة للهوياتإذن صعود مسلم مهاجر ويساري تقدمي إلى كرسي العمودية في أكبر مدينة أميركية، يؤشر على أن الانتماء في السياسة والثقافة لم يعد كما كان صافيا، مغلقا، قابلا للتعريف في جملة واحدة. ففي زمن الشبكات والاختلاط الكبير تظهر شخصيات مثل ممداني لتقول إن العالم لم يعد يتسع للانقسامات القديمة، نحن إزاء مسلم يقف إلى يسار الاقتصاد، ومهاجر يقود مدينة رمزية في قلب الإمبراطورية الأميركية، وتقدّمي يرفع صوته ضد الإبادة في غزة من داخل مؤسسات الدولة الأميركية نفسها.
هذا الخليط المعقّد لا يُفهم بمعايير الهوية التقليدية، بل بما يمثّله من تحوّل ثقافي عميق، أي انتقال القيادة من الفئات المغلقة إلى الوجوه الهجينة التي تجمع تناقضات العالم وتعيد تركيبها في شخصية واحدة. وبهذا فإن ممداني ليس ابن طائفة ولا حزب ولا أيديولوجيا صافية؛ إنه ابن هذا العصر المزدوج، حيث يمكن أن تكون مسلما واشتراكيا وأميركيا في آنٍ واحد من دون أن يُلغي أحدها الآخر.
بهذا المعنى، ففوزه ليس حدثا سياسيا فحسب، بل علامة ثقافية على مرحلة جديدة من العولمة الإنسانية، إنها مرحلة الرموز العابرة للهويات، التي لا تمثل عرقا أو دينا بعينه، بل تمثل فكرة أوسع عن الإنسان وقدرته على إعادة تعريف ذاته في فضاء مفتوح.
ويبدو أن زمن الانتماءات الصلبة الذي يمثله اليمين الأميركي في البيت الأبيض يقف على تضاد وجودي مع اليسار التقدمي الجديد الذي يمثله العمدة الجديد، فالوجوه التي تتصدر المشهد العام في الغرب، من ممداني إلى غيره من أبناء المهاجرين، تُجسّد تحوّلا ثقافيا عميقا، إنه انتقال العالم من منطق الهوية الأحادية إلى منطق الهجنة والتداخل.
فممداني ليس "المسلم" الذي يريد بعض العرب احتضانه، ولا "اليساري" الذي يراه آخرون علامة على عودة الاشتراكية، ولا "الليبرالي" الذي يحتفي به دعاة التنوع. إنه شيء من كل ذلك، لكنه في الجوهر رمز عابر للهويات، يصوغ تعريفه لنفسه خارج القوالب الجاهزة.
وفي سيرته تتجاور أوغندا المسلمة، والهند الآسيوية، وأميركا المتعددة، واليسار الغربي، وغزة الجريحة، في صورة واحدة متداخلة بلا تناقض. وهذا النوع من الرموز يُعبّر عن عالم جديد يعيش تداخلا متعدد الهويات الفرعية، أو تسييلا مستمرا للهويات؛ إنه عالم لم تعد فيه الحدود الثقافية والدينية والعرقية قادرة على حبس الإنسان داخل تعريف واحد. فالمهاجر الذي كان يُنظر إليه يوما كغريب، صار الآن قادرا على تمثيل "الأغلبية" في مدينة عالمية. والمسلم الذي كان يُعامل كتهديد أمني، يمكنه أن يقود مدينة ضخمة ويتحدث عن العدالة الاجتماعية بلغة أميركية بحتة.
الرمز واختبار للواقعإن صعود الرموز العابرة للهويات لا يعني تلاشي الاختلاف، بل تجاوز الجمود في فهمه. بهذا المعنى، فإن فوز ممداني ليس مجرد حدث انتخابي، بل هو حدث ثقافي يرمز إلى لحظة نادرة في التاريخ الحديث، حيث يصبح فيها الاختلاط ذاته هو الهوية، ويغدو العبور بين العوالم شرطا للقيادة، لا خطيئة سياسية. إنه انتصار لفكرة الإنسان المتعدد، الفكرة التي تجسد الفكرة الأميركية المؤسِّسة أي بوتقة صهر الثقافات (Melting Pot).
إعلانوعودا على بدء، بشأن الاحتفاء العربي، فإن فوز ممداني ليس نهاية قصة، وقد لا يكون العمدة الجديد "بطلا شرقيا"، لكنه عنوان مرحلة يصبح فيها المسلم واليساري والمهاجر جزءا من المشهد الديمقراطي. وقد لا يكون ممداني زعيما أمميا، ولا مخلّصا سياسيا كما صوّرته بعض القراءات العاطفية، لكنه يحمل في صعوده إشارات إلى تحوّل أعمق في الوعي الغربي نفسه. لقد تسلّل من ثغرة صغيرة في جدار المؤسسة الأميركية، لا ليهدمها بل ليُعيد ترتيب أحجارها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: دراسات شفافية غوث حريات أبعاد العدالة الاجتماعیة فی نیویورک الذی کان ل ممدانی
إقرأ أيضاً:
الشيوعي الصغير زهران ممداني.. مسلم يصنع التاريخ في نيويورك
في غمرة الفرحة بالفوز ببطاقة الترشيح من الحزب الديمقراطي في 25 يونيو/حزيران الماضي، متقدما على أندرو كومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك، قال المرشح الديمقراطي الشاب زهران ممداني متوجها لأنصاره "اليوم دخلنا التاريخ.. فزنا لأن أهالي نيويورك دافعو عن مدينة يمكنهم تحمل تكلفة العيش فيها. مدينة يمكنهم فيها القيام بأكثر من مجرد الكفاح من أجل تأمين حاجاتهم".
ولكي تصبح تكلفة العيش بنيويورك في متناول أوسع قاعدة ممكنة من سكان المدينة تعهد ممداني (33 عاما)، الذي يسكن في شقة لا يزيد إيجارها الشهري على 2300 دولار، بتجميد زيادات الإيجارات لمليون شقة منتظمة الإيجار في المدينة، وتوسيع الخدمات العامة مثل النقل المجاني وتوفير رعاية شاملة ومجانية للأطفال.
كما وعد ممداني، الذي لا يمتلك سيارة ويستعمل وسائل النقل العام، ناخبيه بإنشاء متاجر بلدية لبيع السلع بأسعار الجملة، وبرفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارا في الساعة بحلول 2030، ولتمويل هذه المقترحات يقترح فرض ضرائب إضافية على الشركات وأصحاب الدخل العالي الذي يفوق مليون دولار سنويا.
ويثير خطاب ممداني بعض المخاوف في أوساط رجال المال والأعمال بشأن تفعيل برنامجه السياسي، وخاصة في جانب التمويل. وقال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في وقت سابق، إن حملة ممداني تُشكل تهديدا خطرا لنيويورك، وعبر عن رفضه محاولة انتخابه وهدد بحجب التمويل الفدرالي عن المدينة إذا فاز.
ومع بدء العد التنازلي لاختيار عمدة جديد للمدينة، غير الرئيس ترامب نسبيا لهجته اتجاه ممداني، وقال "يبدو أنه سيفوز.. هذه ثورة. هذه أيضا ثورة على المرشحين السيّئين"، وأضاف أنه مستعد للتواصل معه في حال فوزه نهائيا بالاقتراع.
ويعكس ذلك التصريح تحولا جذريا في موقف الرئيس ترامب الذي وصف ممداني في ذروة الحملة الانتخابية بأنه "شيوعي صغير" يريد تدمير نيويورك، وتعهد بأن "أميركا لن تكون شيوعية أبدا بأي شكل من الأشكال بما فيها مدينة نيويورك".
إعلانوعلى غرار ترامب، يواصل كثير من المعارضين الآخرين وصف ممداني بأنه شيوعي، لكن المعني بالأمر لا يفوت أيّ فرصة ليُعرّف نفسه بأنه شيء مختلف تماما عن ذلك وأنه اشتراكي ديمقراطي.
ووفق هذا التصور، فهو يعتقد أن على الحكومة أن تؤدّي دورا في الحد من التفاوت الاقتصادي بين سكان المدينة، دون أن يدعو إلى إقامة نظام شيوعي تكون فيه الملكية مشتركة.
وبذلك يعطي ممداني دفعة قوية للتيار الاشتراكي داخل الحزب الديمقراطي الذي يعيش حالة مخاض بعد الإخفاق الكبير في رئاسيات وتشريعيات عام 2024، ويحظى ممداني بدعم شخصيات بارزة من ذلك التيار، أهمها بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز اللذان انخرطا بشكل كبير في حملته الانتخابية.
وفي توصيف توفيقي بين التصورين الشيوعي والاشتراكي، يرى روبرت وولف، وهو عضو بارز في تسيير شؤون مدينة نيويورك وأحد أهم جامعي التبرعات للحزب الديمقراطي، أن زهران رأسمالي تقدمي.
وقال وولف في تصريح لصحيفة نيويورك تايمز، إن ممداني يدرك أهمية ازدهار القطاع الخاص في نيويورك ويسعى لإيجاد سبل لاستخدام الحكومة بالشكل الأمثل في أمور تُعزز المساواة وتُساعد الفئات المهمشة.
ساسة تقليديون ومليارديراتوعندما قرر ممداني في أكتوبر/تشرين الأول 2024 دخول السباق نحو رئاسة بلدية نيويورك، شكل ذلك مفاجأة بالنسبة لنخبة الحزب الديمقراطي التي تعاقب عدد من وجوهها التقليديين على إدارة المدينة منهم بيل دي بلازيو (2014-2021) ومايكل بلومبيرغ (2002-2013).
وجاء ترشيح ممداني تتويجا لعدة سنوات من تمثيل منطقة كوينز في المجلس التشريعي لنيويورك ولم يتردد في تحدي أسماء تقليدية في الحزب الديمقراطي واستطاع تدريجيا أن يحول حملته الانتخابية إلى استنفار لقواعد واسعة من الناخبين الذين بدؤوا يضيقون ذرعا بالنخبة المهيمنة في الحزب بسبب تورطها في قضايا فساد كثيرة.
وفي الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في يونيو/حزيران الماضي حقق ممداني إنجازا غير مسبوق وأصبح أول مسلم سيكون مرشحا باسم الحزب لخوض السباق النهائي إلى منصب العمدة يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وتقدم ممداني في ذلك الاقتراع على أندرو كومو (67 عاما) وهو حاكم سابق لولاية نيويورك لثلاث فترات، استقال في أغسطس/آب 2021 وسط فضائح مدوية تتعلق باتهامات بالتحرش الجنسي بموظفات في الولاية، وبطريقة تعامل إدارته مع وفيات دور رعاية المسنين بسبب جائحة كورونا.
ورغم الهزيمة القاسية التي مُني بها في الانتخابات التمهيدية، يخوض كومو المرحلة النهائية للانتخابات بصفته مرشحا مستقلا، ويحظى بدعم الأوساط المالية والاقتصادية التي لا ترغب في تولي ممداني إدارة شؤون المدينة.
وتشير سجلات تمويل الحملات الانتخابية إلى أن 26 مليارديرًا أو عائلة ثرية جدا أنفقوا ما يزيد على 22 مليون دولار إجمالًا في السباق الانتخابي، دعمًا لكومو وسعيًا لمنع ممداني من تولي منصب العمدة.
ويسعى كومو إلى حشد المعتدلين والديمقراطيين الساخطين، ويركز في حملته على التقليل من شأن ترشيح ممداني ويتهمه بقلة الخبرة الحكومية و"التطرف" ومعاداة السامية.
لكن ممداني ما فتئ يوجه ضربات قوية لكومو، وخاصة في المناظرات التلفزيونية، حيث ذكره بقضايا الفساد التي تورط فيها، وبسوء تدبيره لشؤون الولاية خلال جائحة كورونا، وبتشابك مصالحه الشخصية مع أوساط المال والأعمال.
وقبل أيام قليلة، شارك ممداني مع متابعيه على منصات التواصل الاجتماعي مقطعا مصورا يخاطب فيه كومو "حبيبي (بالعربية)، اكشف عن عملائك"، تعليقا على تقرير صحفي يفيد أن كومو جنى عام 2024 أرباحا قدرها 4 ملايين دولار عن طريق شركة للخدمات الاستشارية، دون توضيح العملاء المستفيدين من خدماته.
وكان من المفترض أن يخوض غمار المنافسة أيضا العمدة الحالي للمدينة الديمقراطي إريك آدامز الذي تورط في فضائح وتحقيقات الفساد الفدرالية، وتعرض لضغوط سياسية واسعة قبل أن تسقط وزارة العدل، في عهد إدارة الرئيس ترامب.
وقرر آدمز (65 عاما) في 28 سبتمبر/أيلول 2025 وقف حملته الانتخابية لولاية ثانية التي خاضها مرشحا مستقلا بعد انسحابه من الانتخابات التمهيدية للحزب، وبرر قراره بمشكلة في التمويل وفي ظل تراجع شعبيته وتداعيات قضايا الفساد التي تورط فيها، وقرر دعم المرشح كومو.
وينافس على منصب العمدة أيضا المرشح الجمهوري كورتيس سيلوا (71 عاما) وهو شخصية عامة في المدينة، ويعرف بكونه مؤسس "الملائكة الحارسة"، وهي مجموعة تطوعية لمكافحة الجريمة. وهذا هو ثاني ترشيح لهذا الإعلامي المخضرم ويرتكز برنامجه الانتخابي على السلامة العامة واحترام القانون والنظام والصرامة المالية.
الأوفر حظا
ولا تزال استطلاعات الرأي تشير إلى أن ممداني يحافظ على تقدمه بفارق كبير على خصميه، المستقل كومو والجمهوري سيلوا، حيث بلغ متوسط دعم ممداني 46.6%، وكومو 30.1%، وسيلوا 16.5%.
وحتى يوم الخميس الماضي، كان ممداني يتقدم بمتوسط 16.5 نقطة على كومو في ثمانية استطلاعات رئيسية. وأظهر استطلاع أجرته ذا هيل (كلية إيمرسون) في الفترة من 25 إلى 28 أكتوبر/تشرين الأول أن ممداني يحظى بدعم 50%، مقارنة بـ25% لكومو و21% لسيلوا، متقدما بـ25 نقطة.
وحسب تلك الاستطلاعات، فإن نسبة كبيرة من قوة ممداني في السباق الانتخابي تعود إلى تحالف من الناخبين الشباب ومجتمعات الملونين، ويبدو أن ذلك سيتعزز في الأيام الأخيرة من الحملة.
وفي تفاصيل تلك الاستطلاعات، فإن نسبة تأييد ممداني في صفوف الناخبين السود في المدينة ارتفعت إلى 71%، بعد أن كانت في حدود 50% قبل شهر واحد فقط، في حين شهد تأييد كومو لدى نفس الفئة، انخفاضا قدره 10 نقاط مئوية.
ويهيمن ممداني أيضا على أصوات الناخبين الذين هم دون سن الخمسين، حيث يدعمه 69% منهم، مقارنةً بـ37% فقط بين من تزيد أعمارهم على 50 عاما.
وعموما يحافظ ممداني على الصدارة في السباق حيث يعبر 52% من الناخبين المحتملين عن رأي إيجابي اتجاهه، متقدمًا بفارق كبير على كومو الذي حصل على 35% وكورتيس سيلوا الذي حصل على 27%.
ظاهرة فريدةومنذ ترشحه لهذا المنصب، تحول ممداني إلى ظاهرة سياسية فريدة، وفق تعبير الأكاديمية سحر خميس، وهي أستاذة إعلام في جامعة ماريلاند الأميركية، وأصبح مادة دسمة لمختلف وسائل الإعلام الأميركية التي تتوقع أن يصبح ممداني أول عمدة مسلم لنيويورك.
ويسجل ممداني حضورا لافتا في وسائل الإعلام التقليدية وخاصة المحطات التلفزيونية حيث يطغى بشكله الجذاب والعفوي وبحضور بديهته وابتسامه الدائم ووضوح أفكاره السياسية، علاوة على حس الفكاهة العالي الذي يتمتع به.
ووصف المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) نهاد عوض الاختراق الذي يحققه ممداني بأنه "زلزال سياسي" وأشاد بأسلوبه السياسي وقدرته على استمالة قطاعات واسعة من القواعد الانتخابية الغاضبة من القيادات الديمقراطية المتورطة في قضايا فساد مالي وأخلاقي.
حاضنة تعدديةوحقق ممداني ذلك الصعود السياسي الصاروخي متشبعا بالقيم التي تربى عليها في بيئة ثقافية تعددية مسكونة بأسئلة الهوية والانتماء على خلفية الأصول الهندية والأوغندية لوالده المؤرخ محمود ممداني، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا (نيويورك) ووالدته المخرجة السينمائية الشهيرة ميرا نايير.
إعلانوقدم ممداني مع أسرته، وهو في سن السابعة إلى نيويورك بعد أن أمضى سنوات طفولته الأولى في مسقط رأسه بأوغندا وتأثر بتجربة والده السياسية والفكرية وبأعمال والدته الفنية، وكان بيت العائلة مفتوحا لأسماء وازنة في الفكر والفن منها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
في تلك الأجواء، بدأ اهتمام ممداني بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تمس الفئات المهمشة وانخرط في العمل الميداني، وأثناء دراسته الجامعية في كلية بودوين بولاية مين ساهم في تأسيس فرع لمنظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، وشارك في حملة لإقناع الكلية بالانضمام إلى مقاطعة أكاديمية لإسرائيل باعتبارها أداة فعالة للضغط السلمي من أجل احترام القانون الدولي.
وبعد التخرج من الجامعة، عمل ممداني مدرسًا ومغني راب، وفي عام 2016 ساعد والدته في تأليف موسيقى فيلمها "ملكة كاتوي". وكانت أول وظيفة شغلها بدوام كامل هي تقديم المشورة لأصحاب المنازل المتعثرين في تسديد الأقساط في إطار منظمة غير ربحية صغيرة في منطقة كوينز.
وخلال عمله في تلك المنظمة تبلور وعيه باحتياجات السكان وحوّل ذلك إلى رسالة سياسية وجدت تدريجيا صدى لدى سكان منطقة كوينز، من ذوي الأصول الآسيوية، ولدى باقي سكان نيويورك التي كانت تعيش أسوأ أزمة سكنية منذ عدة عقود.
مخاطبة الجالياتيوم السبت (1 نوفمبر/تشرين الأول) شارك ممداني على منصة فيسبوك فيديو مع متابعيه، يعرض بلهجة شامية الخطوط الكبرى لبرنامجه الانتخابي: "مرحبا! أنا اسمي زهران ممداني وعم رشّح حالي لأكون العمدة الجديد في مدينة نيويورك. بعرف شو عم تفكروا. شكلي كأني صهركم من الشام. بس العربي تبعي بدها شوي شغل".
وأضاف ممداني "مع هيك أنا حابب اليوم أطلب دعمكم يوم 4 نوفمبر. العيشة بنيويورك صارت غالية للكل.. وصار صعب نعيش فيها، ونربي أولاد. أنا كعمدة رح أجمّد الإيجارات لأكثر من مليوني شخص، وخلي الباصات سريعة ومجانا وأضمن رعاية الأطفال شاملة لكل العائلات.. أنا منكم وإليكم".
وردت في ذلك المقطع عبارة "شكلي كأني صهركم من الشام" وهي تلميح إلى زواجه مطلع العام الجاري من الفنانة السورية الأميركية راما دواجى التي رأت النور في الولايات المتحدة لأبوين سوريين ودرست في جامعة فرجينيا كومنولث وأصبحت مدرسة للفنون البصرية في نيويورك.
وفي مقطع فيديو آخر يتحدث ممداني باللغة الإسبانية وهو يتجول في شوارع منطقة كوينز التي يمثلها منذ خمس سنوات في المجلس التشريعي لنيويورك، ويوجه نفس الرسالة إلى الناطقين بالإسبانية بالمدينة.
وفي واحدة من أكثر اللحظات وقعا ومفعولا، ظهر ممداني في لقاء خطابي قبل نحو أسبوع خارج مسجد في منطقة برونكس وهو محاط بعدد من أفراد الجالية المسلمة وتحدث بتأثر كبير عن الإهانات التي واجهها المسلمون في المدينة منذ فترة طويلة.
وروى ممداني كيف أنه عندما دخل عالم السياسة لأول مرة اقترح عليه عمه بلطف أن "يحتفظ بإيمانه لنفسه"، لكنه تعهد بأن يكسر هذه القاعدة وأن يجاهر بتمسكه بهويته الإسلامية في وجه خطاب الإسلاموفوبيا والعنصرية السائد في البلاد.
وتجسد تلك المشاهد ملامح دالة من حملة ممداني الذي يخاطب ناخبيه المحتملين من أي منبر ممكن في إطار حملة منسقة ومكثفة تراهن بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي وعلى الالتحام المباشر مع الناس في الساحات العامة ووسائل النقل العام والمطاعم والحدائق وغيرها من الفضاءات.
وتجد تلك الحملة التي يسندها نحو 90 ألف متطوع صدى واسعا لدى الناخبين كما تدل على ذلك استطلاعات الرأي التي تشير إلى أنه المرشح الأوفر حظا لتولي منصب عمدة المدينة التي يقطنها 8 ملايين شخص ويبلغ مجموع ناتجها الخام نحو 2.3 تريليون دولار.