صحيفة الاتحاد:
2025-12-12@07:49:42 GMT

مدن المستقبل.. الإنسان والهوية والاستدامة

تاريخ النشر: 11th, December 2025 GMT

بقلم: الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي

لطالما كانت المدن مرآةً لحضارات الأمم، فهي فضاءات حيّة تعكس طموحات الشعوب، وتترجم قدرتها على تحويل الأفكار إلى أنماط عيش ومعايير جودة حياة، واليوم، في عالم تتسارع فيه التحولات البيئية والرقمية والاجتماعية، تتجدد أمامنا أسئلة مصيرية: أي مدن سنورثها للأجيال المقبلة؟ وبأي نموذج سنصوغ مستقبلها؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تجعلنا نسير بخطى أكثر ثباتاً، وتجعل الرؤية أمامنا أكثر وضوحاً، فمعيارنا لقياس مدن الغد ليس أنماط العمران وحجمها، وإنما قدرة المدن نفسها على أن تكون أكثر إنصافاً للإنسان، وأعمق التزاماً بالاستدامة، وأقدر على صون الهوية الأصيلة للمجتمعات وهي تنفتح على كل ثقافات العالم، وتستجيب لاقتصاد المعرفة والتحولات التي تفرضها ذهنية الابتكار.


ما يجعل تصوّر المستقبل ضرورة هو التحديات التي نواجهها اليوم، فهنا يمكن القول: إن المستقبل يحتاج إلى مدن تجعل البيئة جزءاً من بنيتها، حيث تشكّل الطاقة النظيفة وإعادة التدوير والتخطيط البيئي الذكي مكونات أساسية للنمو، فمن خلال هذا الوعي البيئي، تتحول التنمية إلى استثمار طويل الأمد يحمي الموارد الطبيعية ويعزز تنافسية الاقتصادات المحلية.
غير أن المستقبل لا يكتمل من دون الثقافة، فالمدن التي تحتفظ بذاكرتها، وتغذيها بالمعرفة والفنون، تبني لنفسها قيمة مضاعفة، إذ تصبح الثقافة قوة اقتصادية واجتماعية تعزز ثقة المجتمع، وتستقطب الاستثمار والسياحة والإبداع، وعندما يتحول التراث إلى رافعة للتنمية، ويكتسب الحاضر أصالة فريدة، ويجد المستقبل جذوراً يتكئ عليها.
إلى جانب ذلك، لا يمكن فصل مشهد مدن المستقبل عن الابتكار والتقنيات الناشئة، لأننا نعيش متطلبات هذه التقنية اليوم، ونرى كيف أصبح الذكاء الاصطناعي، والتقنيات النظيفة، والتحولات الرقمية، محركات رئيسية لإعادة تشكيل العمران والاقتصاد، لذلك ينبغي التأكيد على أهمية أن تفتح المدن مساحاتها للبحث العلمي، وريادة الأعمال لتمنح نفسها قدرة أكبر على المرونة والاستعداد لمواجهة تحديات الغد، وتستثمر في الفرص.
ومع كل هذه الأبعاد، يبقى الإنسان البوصلة التي تحدد الاتجاه، إذ هل يمكن للتنمية أن تثبت نجاحها بما حققته من نتائج رأس المال واتساع في العمران؟ حتماً الإجابة ليست بنعم، فالتنمية الحقيقية تقاس بمدى قدرتها على تحسين نوعية الحياة، وتوسيع الخيارات أمام الأفراد، وتمكينهم من التعلم والعمل والإبداع.
لقد اخترنا في الشارقة أن نستلهم هذه الرؤية في مشاريعنا التنموية، حيث حرصنا على أن تكون مشاريع هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق) وسيلة لبناء صلة أوثق بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والطموح، ومن خلال مبادراتنا الاستثمارية، سعينا إلى صياغة نموذج يربط الاقتصاد بالثقافة، والعمران بالبيئة، والاستثمار بالإنسان، ليبقى جوهر التنمية مرتبطاً بما يحقق التوازن والاستدامة.
إن مدن المستقبل لا تُشيَّد بالإسمنت وحده، بل تُبنى بالفكر والرؤية والإرادة، وما نطمح إليه هو أن تكون الشارقة، ومعها مدن منطقتنا، نموذجاً عالمياً يبرهن أن التنمية يمكن أن تحافظ على استدامتها، وأن الاستثمار يمكن أن يبقى إنسانياً، وأن الهوية قادرة على التجدد من دون أن تفقد أصالتها، ففي هذا يكمن التحدي الأكبر، ومن هنا تنبثق الفرصة الأعظم.

رئيسة هيئة الشارقة للاستثمار والتطوير (شروق)

أخبار ذات صلة «مهرجان أم الإمارات».. تجارب استثنائية في كورنيش أبوظبي متحف زايد الوطني يستضيف ندوة «اكتشاف التاريخ وصون التراث»

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: مدن المستقبل الإمارات الشارقة بدور القاسمي

إقرأ أيضاً:

هل تكون «الترامبية» نهجًا سياسيًّا؟!

تعودنا أن نسمع عبارة «التقاليد الدبلوماسية» على ألسنة القادة والساسة في الدول المدنية الحديثة، حتى أن بعض الدول تتباهى بأنها ذات تقاليد دبلوماسية عريقة. والواقع أن هناك قوانينَ دولية تحكم العلاقات السياسية بين الدول، وأعرافًا ينبغي أن تُراعى في ممارسة التقاليد الدبلوماسية بين حكوماتها. ومع ذلك، فإننا نلاحظ في الآونة الأخيرة أن هذه القوانين والأعراف السياسية الدولية أصبح يُضرَب بها عرض الحائط.

حقًّا إن هذه القوانين والأعراف كانت تُنتهك دائمًا في كل زمان ومكان، ولكن هذا الانتهاك كان يُخفى أو يُسوّغ في نوع من الاعتراف الضمني بعدم مشروعيته؛ بينما هو الآن يتم في العلن، بل في نوع من التباهي أحيانًا. هذه الحالة قد تجسدت أخيرًا بوضوح في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة دونالد ترامب، حتى أن هذه السياسة يمكن أن يُطلق عليها اسم «الترامبية».

فما السمات العامة التي تميز هذه السياسة الجديدة المناقضة للقوانين والأعراف السياسية؟ وهل يمكن أن يكون هذا المنحى الجديد نهجًا يُحتذى في العلاقات بين الدول؟ سأحاول فيما يلي إجمال سمات السياسة الترامبية (إن جاز أن نسميها سياسة):

سياسة ترامب لا تنفصل عن شخصيته أو بمعنى أدق عن شخصه، أعني لا تحافظ على مسافة بين ميوله ونوازعه الشخصية وبين سياسة الدولة التي يحكمها دستور ومؤسسات ومنظمات؛ ولذلك فإن كثيرًا من قراراته تصطدم بمنظمات المجتمع المدني، وتجد اعتراضًا ليس فحسب من جانب الحزب الديمقراطي، وإنما أيضًا من جانب أعضاء في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه.

ومن الواضح أن السمة التي تحدد هذا المسلك هي حالة الشعور بالعظمة التي تتبدى في مسلك ترامب الرسمي وفي قراراته السياسية على السواء.

حالة الشعور بالعظمة في المسلك الرسمي قد تبدت مؤخرًا في مواقف عديدة، منها أسلوب تعامله مع بعض رؤساء الدول، ولعلنا نذكر في هذا الصدد- على سبيل المثال- لقائه منذ شهور بصحبة نائبه مع الرئيس الأوكراني زيلنسكي، وتعنيفهما له بلغة لا تليق بلغة الحوار العلني بين رؤساء الدول (رغم كل تحفظاتنا على دور ومكانة هذا الرئيس الأوكراني).

ولعلنا نتذكر أيضًا في هذا الصدد لقائه الشهير مؤخرًا مع رؤساء وقادة الدول الأوروبية في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، وهو لقاء تم بثه رسميًّا بصورة علنية تعبر عن التعامل الاستعلائي مع العالم، بل مع أوروبا نفسها: إذا بدا أن ترامب قد أراد أن يُظهِر للعالم قادة أوروبا وهم جالسون أمامه بينما يجلس هو إلى مكتبه، وكأنهم تلاميذ يجلسون إلى المُعلِّم ليلقي عليهم الدروس والتعاليم التي ينبغي أن يلتزموا بها.

ولا شك في أن قبول هؤلاء القادة لأن يكونوا في هذا الوضع المُهين هو أمر يعكس وضعًا مجافيًا لأصول العلاقات الدولية، وهو وضع يعبر عن حالة من انسحاق القوى الأوروبية إزاء الهيمنة والغطرسة الأمريكية (رغم وجود أصوات داخل هذه القوى تطالب بالتحرر من هذه الهيمنة).

يرتبط شعور ترامب بالعظمة الشخصية بإيمانه بعظمة أمريكا نفسها، وبإيمانه بأنها دولة ينبغي أن تحكم العالم. وهذا يتبدى في التدخل دائمًا في سائر شؤون العالم: في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وفي الحرب على غزة والسعي لتسوية الصراع لمصلحة إسرائيل، وفي السيطرة على البحر الكاريبي والتهديد بضرب فنزويلا، والتهديد بالسيطرة على جرينلاند، وما إلى ذلك.

على أن هذه السياسة في الهيمنة والتدخل في الصراعات حول العالم تقوم على أساليب انتهاز الفرص لاقتناص الصفقات. فالحقيقة أن ترامب لم ينس أبدًا أنه تاجر عقارات وصفقات تجارية، وراح يدير سياسة أكبر دولة في العالم بهذا المنطق نفسه. التاجر لا يعرف لغة الحوار التي تختلف عن لغة التفاوض، فالتفاوض لا يهدف سوى إلى الحصول على صفقة ما بأقل قدر من الخسائر. وهذه هي سياسة ترامب، وهي سياسة قد تبدت أيضًا في قرارات مصيرية عديدة، منها: سياسة العقوبات وفرض الضرائب على الواردات من الدول بحسب مدى انصياعها للهيمنة الأمريكية، وهي سياسة قد فشلت وكبدت ميزانية أمريكا خسائر طائلة. وروسيا ينبغي إرضاؤها من دون خسارة أوكرانيا باعتبارها مصدرًا للمعادن النفيسة.

وتهديد فنزويلا بالحرب، لا من أجل القضاء على المخدرات، وإنما بهدف الهيمنة عليها وضمان تبعيتها باعتبارها تنطوي على أكبر مخزون نفطي في العالم. وإعادة إعمار غزة بهدف إنشاء ريفيرا جديدة؛ واتفاقية السلام من أجل إعادة رسم فلسطين ديموجرافيًا لمصلحة الكيان الصهيوني الذي هو مجرد ذراع قوية لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط.

ويرتبط الشعور بالعظمة بحالة من العنصرية التي تتحيز للعرق الأبيض على حساب أية أعراق أخرى. تبدى هذا مؤخرًا في القرار الصادم الذي اتخذه ترامب (في أواخر شهر نوفمبر)، الذي يحظر الهجرة من دول العالم الثالث إلى أمريكا، ومراجعة أوراق ملايين المهاجرين من الأعراق الأخرى، بل إنه قام بسب أكثر هؤلاء بأقذع الألفاظ، وبأنهم عالة على أمريكا، من دون وعي أو مراعاة لحقائق تاريخية تتعلق بالدور الفاعل لكثير من المهاجرين في سائر نواحي الدولة، بما في ذلك ما يتعلق بالأمور العلمية. السؤال الذي يبقى هو: هل هذه السياسة الترامبية يمكن أن تؤثر على السياسات العالمية باعتبارها نموذجًا يُحتذى؟ الرأي عندي أن هذه السياسة فاشلة تمامًا؛ فهي وإن كانت تدرك التغير الهائل في موازين القوى الدولية، إلا أنها تتجاهل ذلك باستمرار في اتخاذ قرارتها. وهذا الفشل يتبدى بشكل واضح في تراجع شعبية ترامب نفسه داخل بلده، وفي تراجع مكانة الولايات المتحدة نفسها.

مقالات مشابهة

  • بحضور السيدة الأولى.. متحف بيروت يعزز الإبداع والهوية الوطنية عبر الفن والتعليم
  • ندوة بالشارقة توصي بإطار عربي للتعليم الرقمي
  • مناقشة تعزيز الأنشطة المدرسية والهوية الإيمانية في الرجم بالمحويت
  • البرلمان العربي: حماية حقوق الإنسان ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة
  • المستشار محمود فوزي: حقوق الإنسان منظومة متكاملة تحتاج الشمول والاستدامة..ونعمل بمنهجية ثابتة لتحقيقها وفق توجيهات القيادة السياسية
  • رئيس البرلمان العربي: حماية وتعزيز حقوق الإنسان تمثل ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة
  • هل تكون «الترامبية» نهجًا سياسيًّا؟!
  • صراع الشاشات والهوية العربية في زمن «نتفليكس»
  • الاعتصام بالله .. معركة الوعي التي تحدد معسكرك، مع الله أم مع أعدائه