ترقبوا.. كلمة لقائد الثورة عصر اليوم بمناسبة العيد التاسع لثورة 21 سبتمبر
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
يمانيون/ صنعاء
يلقي قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، عند الساعة الرابعة عصر اليوم كلمة بمناسبة العيد التاسع لثورة 21 سبتمبر.
# السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي# كلمة#ثورة الـ21 من سبتمبر.المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
في الدرس الثاني للسيدالقائد عبدالملك بدر الدين الحوثي في شهر ذي الحجة:القلب السلم هو الذي لم يتلوث بالمعتقدات الباطلة والأفكار الظلامية
الثورة / سبأ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في القصص القـرآني المبـــارك، عن نبي الله وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، تحدثنا في الدرس الماضي على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأنبياء)، وكان العنوان في بداية الحديث هو: الرشد، وأهمية الرشد، وحاجة المجتمع البشري إلى الرشد في معتقداته، في فكره وثقافته، في منهجه الذي يسير على أساسه في هذه الحياة، وأن مصدر الرشد هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي منه الهداية لعباده إلى ما فيه الخير لهم، الذي يعلِّمنا «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الحقائق التي نحتاج إلى معرفتها بشكلٍ صحيح؛ لنبني على أساس ذلك توجهاتنا العملية في مسيرة الحياة.
فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو مصدر الرشد، وأتى إلينا الرشد منه، بهدايته، بإلهامه، بتوفيقه بما منحنا في الفطرة والمدارك، وأيضاً وبشكلٍ أساسي لا غنى عنه أبداً، نحن في أمسِّ الحاجة إليه، عن طريق رسله، وأنبيائه، وكتبه، والهداة من عباده.
في الآيات المباركة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:51-53]… إلى آخر الآيات. تحدثنا- ونلخص حديثنا في الدرس الماضي- عن:
أن هداية الله لعباده إلى الرشد عن طريق أنبيائه، ورسله، وورثتهم الهداة من عباده، هي من أهم نعم الله على عباده، والله هو مصدر الرشد.
تحدثنا عن أهمية الرشد، والحاجة إليه، بدءاً من الرشد الفكري والعقائدي، وفي الإيمان بالله تعالى، وعن خطورة الأفكار والتصورات، والمعتقدات الباطلة التي تغوي الإنسان، وتتيه به، وتنحرف به في مسيرة حياته عن الاتِّجاه الصحيح، إلى اتِّجاه الهلاك، الذي نهايته نار جهنم والعياذ بالله، وفي هذه الحياة الدنيا الشقاء، وما يترتب عن الغواية من مخاطر وأضرار، تطال المجتمع البشري بشكلٍ كبير في مختلف شؤون حياته، الغواية تسير بالإنسان في الطريق المِعْوَج، الذي لا يصل به إلى النتائج الصحيحة، ولا إلى الأهداف العظيمة.
في هذا السياق، أكَّدنا أيضاً في الدرس الماضي أنه لا يمكن الاستغناء عن رسل الله وأنبيائه والهداة من عباده، والهدى الذي أتى من الله عن طريقهم بالبدائل الأخرى، من المفكرين، والفلاسفة… وغيرهم، مهما كانت عبقريتهم؛ لأنه لا يمكن الاستغناء عن الله أبداً، هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» مصدره الهداية، والرشد، والنور.
تحدثنا أيضاً عن أهمية الاختيار الإلهي، والإعداد الإلهي لأنبياء الله ورسله، الذين يُعِدُّهم الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ويختارهم لأداء هذه المهمة العظيمة والمقدَّسة في هداية عباده؛ ولهـذا قال «جَلَّ شَأنُهُ»: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124]، قال عن نبيه إبراهيم: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، فما قبل تكليفهم بهذه المهمة، يعدّهم الله ويهيئهم لها، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أيضاً يوليهم برعايته وهدايته أثناء أدائهم لهذه المهمة.
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» بدأ مع قومه في مسيرة الهداية لهم، كسائر الأنبياء والرسل، في إطار العنوان الجامع لمضامين الرسالة الإلهية، هو عنوان: العبادة لله وحده، التوحيد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في العبادة له، ومكافحة الانحراف الرهيب عن توحيد الله، لأنه أكبر وأخطر الانحرافات في واقع المجتمعات البشرية.
أقام الحجة عليهم، وكان له نشاطٌ واسع في أداء مهامه الرسالية، ومقامات كثيرة، والقرآن الكريم قدَّم لنا نماذج منها، وقدَّم لنا عناوينها الرئيسية، التي كان يركِّز عليها ويتحدث على ضوئها.
استخدم نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» أساليب متنوعة، للوصول بقومه إلى الاستيعاب لحقيقة التوحيد وبطلان الشرك، وأهمية هذا المبدأ العظيم في العبادة لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مثل: عرض حقائق النقص عن مبدأ الكمال، في الكوكب، والقمر، والشمس، فيما ذكره الله في (سورة الأنعام)، تحدثنا عنه في شهر رمضان المبارك، على ضوء الآيات المباركة؛ للوصول بهم إلى تفرُّد الله بالكمال، إلى استيعاب هذه الحقيقة: حقيقة تفرُّد الله بالكمال المطلق، الذي هو مبدأٌ مهمٌ في مسألة الألوهية، أنه لا تحق العبادة إلا لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ لأنه الذي له الكمال المطلق.
أيضاً استخدم مع قومه أسلوب المساءلة، التي تلجئهم إلى الأجوبة، التي يتَّضح فيها أنه ليس لهم أي حُجَّة ولا مستند، سوى محاولتهم الاستناد إلى الإرث العقائدي، وأن تلك المعتقدات والخرافات والانحرافات من موروثهم عن آبائهم، الذي يقدِّسونه، تحدثنا على ضوء الآيات المباركة، عن خطورة هذا الأمر، وأنه ليس حُجَّةً، ولا برهاناً، ولا مستنداً.
الحقيقة المهمة في أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو وحده من يستحق العبادة، لا تحق إلا له؛ لأنه ذو الكمال المطلق، ولأنه الخالق، المالك، الملك، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو المالك للسماوات والأرض وما فيهما، والخالق، والقيُّوم، المدبِّر لشؤون السماوات والأرض، له المُلْكُ والمِلْك لما في السماوات والأرض، ما في هذا العالم بكله من مخلوقات وكائنات، وكلها مِلكٌ لله، خاضعةٌ لسننه وتدبيره؛ ولـذلك ليس لأحدٍ حقٌّ في أن يجعل نفسه عبداً لغير الله؛ لأن غير الله لا يملك شيئاً فيك أصلاً.
الشهادة هي عنوانٌ للإيمان المؤكَّد، الإنسان عندما يشهد بأنه لا إله إلا الله، ووجدنا في كلام نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» فيما ذكره الله عنه: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[الأنبياء:56]، الإيمان بالتوحيد يُعَبَّر عنه أيضاً بالشهادة، بالشهادة، لماذا؟ لأنها تأكيد على هذه الحقيقة، استناداً إلى اليقين، يعني: أنت عندما تشهد؛ لأنك مستندٌ إلى اليقين، وإلى الإذعان بهذه الحقيقة، كما أنك تُعَبِّر عن التزامك بها، وتَمَسُّكِكَ بها، وهذه مسألة مهمة.
في المقام الحاسم مع قومه، المقام الحاسم لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الذي كان بعده الخطوة العملية في تحطيم الأصنام، ثم قصة محاولتهم لإحراقه، وما بعد ذلك: هجرته من بينهم، المقام الحاسم أتى الحديث عنه في القرآن الكريم في ثلاث سور، وبحسب السياق الذي يركِّز على جانب من القصة:
• في (سورة الأنبياء) في سياقٍ معيَّن.
• في (سورة العنكبوت) في سياق معيَّن.
• وفي (سورة الصافات) في سياق معيَّن كذلك.
وسنعمل على النقل المتكامل من خلال الآيات المباركة في السُّوَر الثلاث من القصة، ونقلنا في الدرس الماضي بعضاً من القصة من (سورة الأنبياء) عن ذلك المقام الحاسم، وسنكمل من الآيات المباركة في السُّوَر الثلاث.
في (سورة الصافات) يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ}[الصافات:83]، (مِنْ شِيعَتِهِ) يعني: نبي الله نوحاً «عَلَيْهِ السَّلَامُ»؛ لأن القرآن تحدَّث في (سورة الصافات) عن سلسلة من أنبياء الله، فذكر من بينهم نوحاً «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، ثم قال: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:83-87].
الأنبياء والرسل مهما تباعدت أزمانهم، واختلفت ظروفهم، واختلفت أحوال أقوامهم، إلَّا أن منهج الرسل والأنبياء هو منهجٌ واحدٌ في مبادئه، في أسسه، في مرتكزاته؛ ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ}[الصافات:83]، بالرغم من الزمان البعيد ما بين عصر نبي الله نوح «عَلَيْهِ السَّلَامُ» ونبي الله إبراهيم، إلَّا أنه يخطو خطاه، يسير في دربه، ينهج نهجه في الدعوة إلى الله، وإلى عبادة الله، وإلى توحيد الله، وإلى التَّمَسُّك بتعاليم الله، وإلى التقوى لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ ولـذلك اتِّجاه الأنبياء واحد، ودعوتهم في أساسها، وفي مبادئها، دعوةٌ واحدة.
نجد في الآيات المباركة من (سورة الأنبياء)، في مستهل قصة نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، أنه افتتحها بالحديث عمَّا وهبه الله ومنحه من الرشد: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}[الأنبياء:50]، في الآيات المباركة من (سورة الصافات) نجد أنه تحدث هنا في هذا السياق بقوله: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الصافات:84]، والقلب السليم مع الرشد، كلٌ من هذا يعبِّر عن جانبٍ مهمٍ جدًّا، في الاتِّجاه للإنسان في مسيرة حياته، وهذه مسألةٌ مهمة.
قبل أن نتحدث عن ذلك، نلفت النظر إلى عبارة: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ}[الصافات:84] في إقباله إلى الله، في اتِّجاهه إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الصافات:84]، الرشد من جهة، وسلامة القلب من جهة، ماذا تعنيه سلامة القلب؟ أنه ليس ملوثاً بالمعتقدات الباطلة، والمفاهيم الظلامية السيئة، ولا بالمفاسد الأخلاقية والمعنوية، والمشاعر والأحاسيس الفاسدة والسيئة، هذه سلامة القلب، فهو باقٍ على أصله في حالة الفطرة، ونقائه في حالة الفطرة، التي فطره الله عليها، والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو يمنح الإنسان قلباً سليماً، بالفطرة التي جعلها الله فيه، ولكنَّ الإنسان هو الذي يلوِّث هذا القلب في عمقه، يلوثه من خلال المعتقدات الباطلة، والأفكار الظلامية، ويلوثه أيضاً عن طريق الخلل المعنوي، في الجانب الأخلاقي، والأعمال السيئة، التي لها تأثير على نفسية الإنسان ومشاعره وقلبه.
القلب في الإنسان، عمقه الذي هو موطن للاعتقادات، للانطباعات، للنوايا والتَّوَجُّهات، وموطنٌ للمشاعر الإنسانية، ما يحمله الإنسان ويُكِنُّه في ضمير نفسه، وذات نفسه، وذات صدره، من معتقدات، وتوجُّهات، ودوافع… وغير ذلك، فإذا تلوَّث عن حاله الذي فطره الله عليه- كما ذكرنا في مسألة كيف يتلوَّث- إذا تلوَّث عمَّا تقتضيه الفطرة التي فطره الله عليها، لم يعد سليماً.
أهمية القلب كبيرةٌ جدًّا في صلاحه، والخطورة الكبيرة له في حال فساده؛ ولهـذا كما ورد في الحديث النبوي الشريف، أنه: ((إِذَا صَلح، صَلح الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَد، فَسَد الجَسَدُ كُلُّه))، إذا فسدت نوايا الإنسان، إذا فسدت نفسيته في عمق نفسه، فسدت الحالة المعنوية له، في ما يكتنزه في داخله من مشاعر وتوجُّهات، ونمت فيه العلل والمفاسد الأخلاقية؛ فهي تؤثِّر على الإنسان في أعماله، في أقواله، في تصرفاته، في مواقفه، في توجُّهاته؛ ولـذلك هناك أهمية كبيرة جدًّا لسلامة القلب مع الرشد، في أن يتَّجه الإنسان في هذه الحياة، أن يُقْبِل إلى الله إقبالاً صحيحاً، وأن يسير في مسيرة حياته على أساسٍ من الهدى، من الرشد، من الحق، من العدل، من القيم العظيمة؛ لأن القيم العظيمة ومكارم الأخلاق هي تنمو في القلب، إذا بقي سليماً من تلك الشوائب السيئة، والخبيثة، التي تصيب نفسية الإنسان بالخبث، وقد يتراكم فيها إلى حالةٍ خطيرة تؤثِّر على استقامة الإنسان.
الرسل والأنبياء راشدون بهداية الله، ومؤهَّلون بذلك لأداء مهامهم في هداية المجتمعات البشرية، وقلوبهم سليمةٌ وطاهرة، وفي نفس الوقت يعملون على هداية الناس، على هداية المجتمعات البشرية؛ من أجل أن يكون من يهتدي ومن يتقبَّل الهدى راشداً، وأن يكون سليم القلب، ولـذلك في مهامهم من ضمن المهام الأساسية لهم: التزكية للناس، والتزكية، هذه ثمرتها، وهذه نتيجتها: ليكون قلبك سليماً، ويتنقى من الشوائب الخبيثة، السيئة، المفسدة، فهم يعملون على إصلاح الناس، وتنقية قلوبهم مما تلوَّثت به من مختلف الأمراض، والشوائب الخبيثة العقائدية والأخلاقية، والشوائب الخبيثة والسيئة التي تفسد نفسية الإنسان؛ وبالتالي تفسد أعماله، مواقفه، الشوائب التي تؤثِّر أيضاً حتى على نظرته، تشوِّش على الإنسان رؤيته للأشياء وعلى توجُّهاته؛ لأنه حتى للأعمال السيئة لها تأثيرها السيء على نفسية الإنسان في رؤيته للأشياء، كالمرآة التي تتخدَّش وتتلوَّث، فلم تعد تطلع فيها الحقيقة بشكلٍ كاملٍ وسليم؛ ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14].
فالرشد يأتي في جانب الفكر، والفهم، والمنهج، والثقافة، ويأتي إلى الجانب النفسي لدى الإنسان؛ ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[الحجرات:7]، يكون الإنسان راشداً عندما تنطبع مشاعره بهذا الطابع، في حبه وفي كرهه: يحب الإيمان، يحب طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يحب مكارم الأخلاق، وفي نفس الوقت يمقت ويكره الكفرة والفسوق والعصيان، يأتي الرشد حتى إلى هذا المستوى، يتأتى عن هذا الانطباع النفسي، ثم يمتد أيضاً إلى الواقع العملي، وإلى ثمرة هذا الواقع العملي في حياة الإنسان، ولـذلك حينما قال الله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186].
رسل الله، وأنبياؤه، والهداة من عباده، هم نعمةٌ على البشرية، بما هم عليه هم من رشد وسلامة قلبية؛ لأنهم يقودون المجتمع البشري، ويعملون على هدايته، وهم على هذا المستوى من التأهيل والإعداد الإلهي في رشدهم، في سلامة قلوبهم، في زكاء نفوسهم، ثم بما يعملون على تربية المجتمع وهدايته، ليصلوا به هو ليكون مجتمعاً راشداً، زاكي النفس، طاهر القلب، متَّجهاً هذا الاتِّجاه الصحيح.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}[الصافات:85-86]: عبادتكم لغير الله هي قلبٌ للحقائق، وافتراءٌ باطل، فليس ما تعبدونه إله، ولا يستحق العبادة، فالإله الحق هو الله وحده، ولا تحق العبادة إلَّا له. هذا خلاصة معنى قوله وهو يخاطبهم: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}[الصافات:85-86].
المعتقدات الباطلة هي إفك، يعني: ليست حقيقة، تقدَّم بأسماء، أسماء الحقائق تطلق على غير مضمون الحقائق؛ ولـذلك يكون من الإفك، عندما يطلق- مثلاً- اسم إله على حجرٍ أصم، أو تمثال من خشب، أو صخر… أو أي معدنٍ آخر، هذا من الإفك؛ لأنها ليست هي الإله، فكل المعتقدات الباطلة قد تحمل من العناوين العنوان الذي هو عنوان لحق، لكنه يطلق فيه حالة الإفك على ما لا يعبِّر عن حقيقته، ولا مضمونه؛ فيكون هذا من التزوير للحقائق، ومن القلب للحقائق، كالحالة التي يسمِّي فيها الإنسان شيئاً من الباطل بأنه حق وليس بحق، هذا هو تزويرٌ للحقائق، إفكٌ وافتراء، وهكذا بقية المضامين، التي تطلق عليها عناوين الحق، عناوين الهدى، عناوين الرشد… أو أي عناوين تتَّصل بها، على أساس أنها تعبِّر عنها وهي مختلفةٌ عنها، وإفك كبير، يعني: في معتقد أساس، تتفرَّع عنه كل المعتقدات، تبنى عليه مسيرة حياة الإنسان وتوجهاته؛ لأن ما يحكم مصير الناس في الدنيا والآخرة هو ما يدينون به، ما يعتقدونه على أساس أنه دين يدينون به، يبنون مسيرة حياتهم على أساسه، فحينما يكون الأساس لذلك أساساً باطلاً، يبنى عليه كذلك التفاصيل الباطلة، فهي حالة خطيرة جدًّا.
{فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:87]، ويخاطبهم بهذا: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، يعني: كيف تتَّخذون آلهةً من دون الله، وتشركون بدون الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» مع الله؟! أليس في الله الكفاية لكم، وهو الإله الحق، وهو ربُّ العالمين؟ كما قال في آيةٍ أخرى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزمر:36]، ما الذي يجعل الإنسان يبحث عن آلهة أخرى؟! ما الذي يدفع بالإنسان إلى أن يجعل نفسه عبداً لغير الله؟ على أي أساس؟! كيف لا تتقونه، لا تدركون الخطر عليكم من الإشراك به والاتِّخاذ لأندادٍ من دونه؟!
تقدَّم في (سورة الأنبياء) قول نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، فيما ذكره الله في هذا المقام نفسه وهو يخاطب قومه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:57]، وتحدثنا عن هدفه من هذه الخطوة العملية، ومن الإعلان عنها مسبقاً، رغم خطورة هذا الإعلان، وأنه يمثِّل استفزازاً كبيراً لهم، لكن هذا له دلالة مهمة جدًّا؛ ولـذلك هو في هذا المقام الحاسم، الذي أسميناه بالمقام الحاسم مع قومه، بعد أن ذكَّرهم بهذه الحقائق، احتج عليهم بالحجج الكافية والواضحة، اتَّجه إلى إعلان هذا التهديد: عن أنه سيتَّجه لأن يكيد لأصنامهم، وهي الخطة التي بنى عليها خطته العملية في تحطيم الأصنام كما ستأتي التفاصيل.
ماذا هدف إليه نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» من تحطيم الأصنام؟ هل كان هذا هو الهدف بذاته، يعني: مجرد عملية تحطيمها وتكسيرها، هي العملية التي يريدها فحسب، من دون هدف من ورائها؟ هل كان هذا الفعل غاية في نفسه، أو لهدفٍ آخر؟
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، أولاً بالوعيد المعلن المسبق، كان يهدف إلى أمرين:
• أولاً: التبيين لاحقاً لعجز تلك الأصنام، أنه توعَّدها مسبقاً، ولم تتَّخذ ضده أي رد فعل، بمعنى: أنها عاجزة، لم تعاقبه وتمنعه قبل أن يفعل شيئاً، أو أن يقدم على شيءٍ ضدها؛ فهو يعبِّر عن عدائه لها، وأنه سيكيد لها، يعني: سيستهدفها بخطة خفية معيَّنة، تهدف إلى أن يلحق بها شيئاً معيناً مما يسوء يعني: إمَّا أن يدمِّرها، أو يكسِّرها، أو أن يعمل شيئاً ضدها؛ فهو يعبِّر عن أنه سيستهدفها، ويعلن ذلك، ضمن خطة لم يكشف عن تفاصيلها أثناء إعلانه عن ذلك، هذا يكشف عجزها، كيف لم تتَّجه إلى حماية نفسها مسبقاً، ولا إلى معاقبته، وهم يعطونها هذا المقام: مقام الألوهية، والضر، والنفع، والعلم بكل شيء، والقدرة على فعل كل شيء.
• ثم له هدفٌ آخر فيما بعد؛ لأنهم سيتهمونه هو؛ بما أنه قد سبق منه الحديث، والتهديد، والوعيد، سيتَّجهون بالاتِّهام له ما بعد تنفيذ العملية التي يخطط لتنفيذها.
هدف نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» من تحطيم الأصنام: الإثبات العملي لعجزها التام، وعدم قدرتها حتى على الدفاع عن نفسها، ولا إلحاق أي ضررٍ به، فهو يهدف إلى تحطيم المعتقد لدى قومه، الهدف من تحطيم الأصنام: تحطيم معتقد قومه تجاه تلك الأصنام، وهم يتشبَّثون ويصرُّون على أنها تنفع وتضر، وقادرة على كل شيء، وأنها قادرةٌ على جلب النفع، ودفع الضر… وغير ذلك، وجديرةٌ بالتالي بمقام الألوهية والعبادة لها؛ فهو يريد من خلال الجانب العملي أن يثبت لهم حقيقة عجزها، وأنها ليست كما يعتقدون، ويسعى للوصول بهم هم إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، والإذعان لها، والتسليم بها، فهذا هو الهدف من وراء خطته تلك؛ ولـذلك هي خطوة عملية مهمة لتحقيق هذا الهدف، لتحقيق هذا الهدف الذي هو هدفٌ مهم وأساس، وفي نفس الوقت هي خطوة عملية حساسة جدًّا، ومستفزة للغاية؛ لأن رد فعلهم سيكون كبيراً تجاه هذه الخطوة، ليست قضية سهلة، يعني: القضية الأكثر حساسيةً بين قومه، والتي من الممكن أن يبنى عليها أقصى رد فعل تجاهه، فالإقدام على هذه الخطوة يبيِّن ما كان عليه نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» من الثقة بالله، من التوكل على الله، من الجد الكبير في أداء مهامه الرسالية، من التصميم والعزم العجيب على أداء مهامه.
حرص على الإعلان المسبق دون تقديم تفاصيل، {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:57]، لم يكن لديهم تصوّر أنه سيقدم على تحطيمها، لو كشف التفاصيل لما أتاحوا له الفرصة لتنفيذها، لكنه قدَّم عنواناً عاماً، وأجمل عن الفكرة، أنه سيستهدفها بشكلٍ ما، وبذلك سيرجعون إليه بعد ذلك، وهذا مهم من أجل الخطوات التالية؛ لأن الموضوع في سياق العمل على هدايتهم، والخطوة بنفسها هي تعبِّر عن موقف حاسم من ذلك الباطل، نبي الله إبراهيم هو أسوة وقدوة أيضاً في المواقف الحاسمة من الباطل، المواقف القوية من الباطل، في البراءة من الباطل، في السعي إلى إزهاق الباطل، ليس رمزاً للتطبيع، كما يقدِّمه المنافقون من أبناء الأمة.
من الواضح أنهم لم يتوقعوا منه الإقدام على مثل هذه الخطوة الجريئة؛ لأن عواقبها المحتملة كبيرة؛ ولـذلك لم يكترثوا كثيراً لتهديده، ولإعلانه في أوساطهم ما قبل ذلك، هو يحتاج إلى الوقت المناسب لتنفيذ تلك الفكرة، للوصول إلى بيت الأصنام؛ لأن معهم معبد، مبني، مصمم، مجموعةٌ فيه أصنامهم، يجتمعون فيه لتقديم القرابين لها، وأداء الطقوس التي يتقدمون فيها بالعبادة لها…إلخ. فهو بحاجة إلى وقت يتهيأ له تنفيذ خطته في تحطيم تلك الأصنام، وقت لا يكونون فيه موجودين في المعبد.
هم عادةً يعكفون على عبادتها، يتواجدون لعبادتها، فكانت الفرصة المناسبة والمتاحة له لتنفيذ خطته، هي في مناسبتهم السنوية التي يخرجون فيها من المدينة إلى مكانٍ آخر، كان مع قومه مناسبة سنوية، البعض يقول أنَّها كانت عيداً، عيداً لقومه، يخرجون في ذلك العيد إلى منطقة مجاورة لمنطقتهم، أو مناطق متعددة مجاورة لمنطقتهم، خروجاً كلياً، بكلهم يخرجون، ربما في أجواء احتفالية معيَّنة، ثم يعودون ما بعد ذلك إلى مدينتهم، فكانت تلك هي الفرصة؛ لأنهم يخرجون من المدينة إلى مكانٍ آخر بشكلٍ جماعي، فتخلو المدينة، ويخلو المعبد أيضاً، الذي فيه أصنامهم.
لكن بما أنَّ الخروج هو جماعي، فهو يحتاج إلى عذرٍ له هو شخصياً؛ بحيث يتخلَّف عن الخروج معهم، ولا ينتبهون لسبب تخلُّفه، فهو بحاجة إلى عذرٍ يتخلَّص به حتى تجاه أبيه وقومه يعني، المسألة حتى في محيطه الأسري.
ولذلك قال الله في القرآن الكريم، في الخطة التي نفَّذها لتهيئة الظروف لذلك، قال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:88-89]، النظرة في النجوم- بحسب ما يقوله المفسرون- بأن التنجيم كان رائجاً في مجتمعه وقومه، كان مجتمع نبي الله إبراهيم وكان قومه والناس في عصره يركِّزون على التنجيم؛ للتنبؤ بالأحوال المختلفة للإنسان في مستقبله، من مثل حالة مرض، أو حالة صحة، أو أي حالة أخرى يواجهها في حياته، بالنسبة لمستقبله، والتنجيم ليس فكرةً صحيحة في أساسها، ونبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» لم يقدِّم في كلامه ما يعبِّر عن اعتماد للتنجيم، أو تصحيح للفكرة مثلاً، أو اعتماد على الفكرة، المسألة هي نظرة فقط، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:88-89]، لم يقل مثلاً: استناداً إلى ما شاهدته من أحوال نجمٍ معيَّن، أو حركةٍ نجومٍ معيَّن، فإنَّ ذلك سيدل على أنني سأكون مريضاً يوم غدٍ، فلا أتمكن من الحضور معكم، فهو لم يضمن كلامه أي تعبيرٍ يفيد اعتماده على مسألة النجوم؛ إنما العملية نفسها: عملية النظرة إلى النجوم، ثم الكلام معهم، بالشكل الذي قد يفهمون هم من خلاله مفهوم أنَّه يعبِّر عن حالته في يوم الغد.
ماذا يعني بتعبيره: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:89]؟ (السَّقَم، والسُّقْم) مفردة تعبِّر عن المرض، يسمى المرض بالسَّقَم، ويسمى أيضاً بالسُّقْم، المرض، فيعبِّر عن حالته النفسية أيضاً؛ لأن الحالة المرضية قد يعبَّر بها عن المرض البدني، مرض الإنسان في بدنه، العلل في جسمه، أو في أي أعضاء من جسمه، وقد يعبَّر بها أيضاً عن الحالة النفسية للإنسان.
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» فيما هو من الحزن الشديد، والأسى على قومه، وعلى حتى محيطه الأسري المنحرف مع قومه، في ما هم عليه من ضلال كبير جدًّا، هو في حالة حزن وأسى، وحالة مؤلمة نفسياً تجاه ما هم عليه؛ ولـذلك يصدق على حاله أنَّه في حالة سقم، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:89]، الحالة النفسية في ما هو عليه من حزنٍ شديد، من أسى، من غضب أيضاً، من استياء كبير، مما هم فيه من إصرار على باطلهم، وهو يعمل لفترة طويلة، ولمقامات كثيرة، وبجهدٍ مكثَّف لهدايتهم، دون أن يقبلوا الحق، دون أن يذعنوا للحقائق الواضحة، والبراهين العظيمة والجليَّة، وهم يصرُّون إصراراً على ما هم عليه من باطل، بعد انكشاف واقعهم فيما هم عليه من باطل وضلال، لكنهم لم يتقبَّلوا الحق أبداً، عنادهم وإصرارهم على الباطل الكبير، الباطل الفظيع جدًّا، يحزنه، يؤسيه، يؤلمه، فهو هدف إلى إيهامهم من خلال ذلك.
هم فهموا فهماً آخر، هم فهموا اعتلال الصحة البدنية، لكنَّ النتيجة، التي هي عذره في عدم المشاركة بالخروج معهم لتلك المناسبة، تحقَّقت هذه النتيجة، يعني: هم تقبَّلوا وتفهَّموا مسألة أن يتخلَّف، وألَّا يخرج معهم في مناسبتهم تلك؛ وبالتـالي كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}[الصافات:90]، خرجوا وتركوه، وقدَّروا ظروفه عندما قال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:89]، فتركوه وذهبوا، وهنا لاحت له الفرصة لتنفيذ خطته.
{فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ}[الصافات:91]، بعد أن خرجوا، ذهب متسللاً إلى بيت الأصنام، إلى المعبد الذي جُمعت فيه أصنامهم، ويذهبون لعبادة أصنامهم فيه، هم قبل أن يخرجوا من المدينة كانوا قد قدَّموا في ذلك المعبد إلى أصنامهم، وبالمناسبة التي هي عيدٌ لهم كما يقال، أنواع الطعام مما لذَّ وطاب، أنواع الأطعمة، والقرابين التي يتقرَّبون بها إليها.
عندما دخل إلى بيت الأصنام، وشاهد ذلك المشهد، وأواني الطعام التي فيها ما لذَّ وطاب من أنواع الطعام المختلفة، مقرَّبةٌ إليهم، وهم عادةً يقدِّمون الطعام- الوثنيون وعبَّاد الأصنام- يقدِّمون الطعام في معابد أصنامهم:
• إمَّا لأن يأكلها الكهنة فيما بعد، كهنة المعابد تلك، الذين يستفيدون ويستغلون هذا الموضوع، فالمغفَّلون يقدِّمون تلك الأطعمة للأصنام، والكهنة ينقضُّون عليها فيما بعد ويأكلونها.
• أو أحياناً يكون شيئاً معروفاً لديهم، أنهم يقدِّمونها إلى المعبد، وأنه سيأكلها الكهنة القائمون على تلك المعابد.
• يكون لديهم أحياناً نذورات معيَّنة، فالبعض أيضاً يقدِّمونها على أساس أن تحظى بالبركة، يعني: يقدِّمونها للأصنام؛ لكي- بتصوراتهم الباطلة- تباركها لهم، ثم يأكلونها فيما بعد.
• أو يأكلونها هم والكهنة.
• أو يأكلها البعض من الناس، بحسب تصوراتهم الباطلة والخاطئة.
فنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» عندما دخل إلى بيت الأصنام، شاهد أواني الطعام التي فيها مختلف أنواع الطعام مقرَّبةً من الأصنام، {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}[الصافات:91-92]، وهو يعرف أنها لا تأكل، وأنها لا تنطق، لكن هذا السؤال يصبح جزءاً من المشهد، ومن الموقف نفسه، في الدلالة على عجزها، وانعدام أي حياة أو قدرة لها، وعدم جدارتها بأن تكون آلهة، فهي ليست حتى في مستوى الإنسان الذي يأكل وينطق، وله مستوى معيَّن مما منحه الله من قدرات ومواهب.
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}[الصافات:93]، اتَّجه بعد تسلله، ودخوله إلى بيت الأصنام، وهو يحمل معه الفأس؛ لضرب تلك الأصنام، وتحطيمها {بِالْيَمِينِ}: بقوة يمينه، (اليمين) يُعبَّر بها عن اليد اليمنى، ويعبَّر بها عن القوة، والقدرة، وهي هنا بالمعنيين، اتَّجه لتحطيمها بقوة، وهو فتى في شبابه وكمال شبابه، ويمتلك القدرة والصحة البدنية؛ ولـذلك تمكَّن من تحطيمها إلى قطعٍ صغيرة، بقوة ضرباته تلك، الهادفة إلى ضرب وتحطيم المعتقد، المهم بالنسبة له هو: تحطيم المعتقد الباطل، الذي يتشبَّث به قومه بِشِدَّة، وعناد، وإصرار؛ لفرط جهلهم.
ولـذلك بيَّن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في (سورة الأنبياء) ذلك، فقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}[الأنبياء:58]، {جُذَاذًا}: قطعاً صغيرةً مجزأةً، مكسَّرةً، محطَّمةً، مبعثرة، حالة رهيبة حصلت لتلك الأصنام، وترك الصنم الأكبر بين تلك الأصنام، لم يحطمه؛ ولهـذا قلنا: أن تحطيم الأصنام ليس هو الغاية في خطة نبي الله إبراهيم؛ وإلَّا لكان ركَّز على الصنم الكبير قبل غيره؛ لأن له أهمية عندهم أكثر من بقية الأصنام، لكنه عندما تركه، وعلَّق الفأس عليه، وجَّه ضربةً للمعتقد الباطل، ضربةً كبيرةً جدًّا، أهميتها أكثر مما لو حطَّم ذلك الصنم بالفأس نفسه، كحال بقية الأصنام التي حطَّمها، هو حطَّم معتقدهم تجاه ذلك الصنم بنفسه، وهو الصنم الأكبر بالنسبة لهم، والأكثر في معتقدهم أهمية، وقدرة… وغير ذلك، وقداسة…إلخ. فهدفه ليس مجرَّد التحطيم لتلك التماثيل، بل هو مركِّز على تحطيم ذلك المعتقد الباطل، الذي يتشبَّثون به بكل شِدَّة، ترك ذلك الصنم الكبير، علَّق عليه الفأس؛ ليكون محور النقاش، ومرتكز الاعتراف الذي سيصل بقومه إليه مرغمين، حينما يعودون ويبحثون عن إبراهيم ويحاكمونه.
قومـــه، بعد أن أكملوا مناسبتهم، عادوا إلى مدينتهم، ودخل البعض منهم (الكهنة ومن معهم)، أو ربما دخلوا بشكلٍ عام، إذا كانت من ضمن مراسيم تلك المناسبة أن يعودوا إلى المعبد، وأن يأكلوا الطعام الذي قد- بحسب تصورهم- باركته أصنامهم، فوصلوا ودخلوا المعبد، فهالهم وصدمهم ما شاهدوه في المعبد: الأصنام، التي يجعلون منها آلهة، يعظِّمونها، محطَّمة، مكسَّرة إلى أجزاء صغيرة، إلى أجزاء مبعثرة، متناثرة، مفرَّقة في داخل المعبد، وقد تحوَّل وضع المعبد الذي كان منظَّماً ومرتَّباً، والأصنام مرتَّبةٌ فيه، ومنظَّمة وفق شكل معيَّن، وحالات معيَّنة، في حالة من الفوضى العارمة، وأصبحت تلك الأصنام أتلال محطَّمة، مكسَّرة، ومبعثرة.
صدمهم جدًّا على المستوى النفسي، واستفزهم للغاية، وأغضبهم كثيراً ما شاهدوه، كانت- بالنسبة لهم- كارثة، مشكلة كبيرة جدًّا، منظر أصنامهم المحطَّمة، المكسَّرة، المتناثرة في قاع المعبد.
ولكن تلك الحالة لم تكن بالنسبة لهم صحوة وعي، واستفاقة من الغفلة، بل كان المنظر ذلك بالشكل الذي تعبأوا منه غضباً، وحقداً، وغيظاً، واتَّجهوا إلى رد الفعل تجاه من الذي تجرَّأ على أن يفعل هذا الفعل؟! الذي هو- بنظرهم- أكبر جريمة ممكن أن تُرْتَكَب، قضية خطيرة جدًّا، وإلا كان المنظر- بحد ذاته- كفيلاً بتصحيح معتقدهم الباطل، يعني: هو دليلٌ واضح على عجز تلك الأصنام، وأنَّها ليست سوى تماثيل، ليس لها أكثر مما هي عليه كتماثيل، منحها اسم آلهة، ليس هناك أي مضمون أو معنى حقيقي لذلك الاسم في واقعها، لكنهم كانوا في حالة غضب شديد جدًّا، ممتزج بالحزن، والاستياء، والحقد، والغيظ، والعزم على الانتقام ممن فعل ذلك.
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}[الأنبياء:59]، هذه مشكلة عندهم كبيرة، وبغيظ، وغضب، وانفعال شديد، {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا}[الأنبياء:59]، لم يكونوا يتوقعون أنَّ أحداً سيجرؤ على فعل ذلك، على أن يفعل مثل هذا الفعل، {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:59]، فهم يعتبرونه ظالماً، ويؤكِّدون على ذلك؛ لأنه- بنظرهم- ارتكب جرماً كبيراً، جمع فيه بــين:
• هتك حرمة وقداسة أصنامهم، التي يعتبرونها آلهة بنظرهم.
• وأيضاً يعتبرون ذلك اعتداء على كرامة مجتمعهم؛ لأن ذلك يمسُّ- في نظرهم الخاطئ- بكرامة مجتمعهم، ولذلك هم يعتبرون التحطيم لها تعدياً على كرامة المجتمع المؤلِّه لها؛ وبالتـالي فهو يستحق عندهم أشد العقوبات، {مَنْ فَعَلَ}[الأنبياء:59]؟! علينا أن نبحث عنه؛ لنعاقبه بأشد العقوبات، ولابدَّ من معاقبته بحسب نظرهم.
البعض منهم ممن سمعوا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو يتوَّعد ويقسم: {تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:57]، أيضاً قد سمعوا منه الكثير: من الاحتجاجات، من تذكيره لهم، من السعي لهدايتهم، من عمله لإزهاق ذلك الباطل، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:60]، في البحث عن الفاعل، اتَّجه تركيزهم على معرفة من له موقف مختلف ومعادٍ للشرك، يعني: الفعل هذا متوقع ممن؟ ممن له موقف من الأصنام، من هو الذي له موقف من الأصنام، من الشرك؟ هو إبراهيم، فلذلك اتَّجه تركيزهم عليه؛ لأنه كان يحتج عليهم، سبق منه أيضاً الوعيد بالكيد لها، فهم تذكَّروه، واعتبروه أنه هو المتهم الوحيد، الذي يُتَوَقَّع منه ذلك.
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» كان في تلك المرحلة، التي قام فيها بكل هذا الدور، وصولاً إلى تنفيذ هذه العملية، التي لها هدف فكري وثقافي مهم جدًّا وعقائدي، كان فتىً، في مرحلة الشباب والفُتُوَّة، في مرحلة الشباب والفُتُوَّة، حينما قام هذا المقام وأدَّى هذه المهمة.
وفي القرآن الكريم كذلك حديث عن نماذج من أولياء الله، من الأنبياء والرسل، ومن غيرهم، ممن تميَّزوا في إيمانهم بالله، في أعمالهم ومواقفهم، التي هي تعبير عملي عن هذا الإيمان، تجسيد حيّ واقعي لإيمانهم بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مثل: قصة أصحاب الكهف، قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13]، وهذا درس عظيم لكل الشباب، وفئة الشباب هي فئة يستهدفها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، وفئات الكفر والضلال، يركِّزون على إغواء الشباب، وعلى التيه بهم، وعلى الانحراف بهم.
القرآن الكريم يقدِّم لنا الدروس العظيمة، والنماذج الهادية، والنماذج القدوة والأسوة للشباب، حتى والإنسان في مرحلة شبابه في القدرة البدنية، واكتمال غرائزه، واكتمال قوته النفسية والبدنية، كيف يوظِّف كل هذه الطاقات والقدرات التي وهبه الله إيَّاها في الاتِّجاه الصحيح، الاتِّجاه الذي هو شرفٌ لهم، وخيرٌ لهم، وفضلٌ له، وكمالٌ إنسانيٌ وإيمانيٌ له، وله ثمرته في واقع الحياة، وعاقبته الحسنة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الاتِّجاه الذي يجعلك راشداً، ويجعلك سليم القلب، طاهر القلب، تتَّجه بفتوتك وقوتك لتحطيم الباطل، لتحطيم الباطل، وإنقاذ المجتمعات، والإنقاذ للناس.
قوم إبراهيم اتَّجهوا بعد هذا لإجراءاتهم؛ بهدف جلبه، ومحاكمته، ومعاقبته، وهم في ذروة الغيظ، والغضب، والانفعال، والحقد، والقسوة، والشِّدَّة، {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}[الأنبياء:61]، يريدون أن يحاكموه محاكمةً علنية، يجمعون فيها المجتمع، اجتماع عام، يحشِّدون فيه الناس؛ لتكون المحاكمة على مرأى ومسمع ومحضر من الناس، في محضرٍ عام.
هذه من الحكمة الإلهية، التي- في تدبير الله تعالى- يهيئها لأنبيائه ورسله، عندما نجد- مثلاً- في قصة نبي الله موسى «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في جمع الناس، وجمع السحرة، ثم إظهار آيته في إبطال سحرهم، وإظهار معجزته التي أمدَّه الله بها، في مرأى ومشهد من الناس.
في قصة نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»- ما قبل زمن نبي الله موسى بكثير- نجد حالة مشابهة، نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» لكي يوصل صوته إلى الناس جميعاً، ولكي يقدِّم الحقيقة الدامغة، المزهقة للباطل، بمسمعٍ ومحضرٍ ومرأى من الناس، يواجه صعوباتٍ كبيرة؛ لأن الناس خاضعون في ذلك الزمن لسلطة ظالمة، طاغية، مجرمة، مُضِلَّة، ولكهنة المعابد المضلِّين، المفسدين؛ ولـذلك من تهيئة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أن يتَّجه أولئك هم إلى أن يجمعوا له الناس، هدفهم- بالنسبة لهم- هو المحاكمة له أمام الناس، وهم يتصوَّرون أن ذلك فضيحة لهم، ثم هم يريدون أن يجعلوا منه عبرةً لغيره في المحاكمة العلنية والمعاقبة العلنية، بحيث يكون درساً للآخرين وعبرةً لهم.
ذهبوا لإحضاره، ذهابهم لإحضاره كان أيضاً فيه مشهد يكشف عن حالة الغضب، والحقد، والعقد، والغيظ الشديد فيهم، ذهبوا بشكلٍ جماعي، جماعات كبيرة ذهبوا لإحضاره، عبَّر القرآن الكريم عن ذلك في (سورة الصافات) في قول الله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}[الصافات:94]، ذهبوا إليه بشكلٍ جماعي، وهم يسرعون في حالة غضب واضح عليهم، ذهبوا وهم غاضبون جدًّا، وفي حالة من السرعة، والغضب، والانفعال الشديد، وبشكل جماعي.
ذهبوا لإحضاره، وأتوا به، أحضروه إلى حيث قد جمعوا الناس لمحاكمته العلنية، وبدأوا المحاكمة، ووجَّهوا إليه السؤال: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:62]، من الواضح أنَّ المحاكمة بنفسها كانت: إمَّا في نفس المبنى (مبنى المعبد للأصنام)، أو بجواره، وأرادوا هذا بطريقة هادفة يعني، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:62]؛ لأنه- بنظرهم- هو المتهم الوحيد.
هو في تلك اللحظة هي لحظة كان ينتظرها نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو يتوقع منهم أنهم سيقدمون على هذه الخطوات، وسيحاكمونه، وهي اللحظة التي سيوجِّه لهم فيها الرد الصاعق، المحرج، المزهق لباطلهم، الذي لن يكون له أي رد إلَّا الاعتراف بعجز آلهتهم، وأصنامهم التي يعبدونها، وهي آلهة مزيفة وباطلة، كيف كان رده عليهم؟
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}[الأنبياء:63]، وهو يشير إلى صنمهم الأكبر، الذي ترك الفأس معلَّقاً عليه، والمحاكمة واضح أنها بجوار المعبد، أو في داخله، {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}[الأنبياء:63]، هو خاطبهم بهذا الكلام الذي لا جواب عليه، ولا رد عليه، إلَّا الاعتراف بعجز أصنامهم، وعجز ذلك الصنم الكبير بشكلٍ تام، أنها عاجزة عن أي فعل، أنها لا تمتلك أي قدرة، وأنها أيضاً لا تمتلك حتى القدرة على النطق بالكلام.
هذا الأسلوب في إطار النقاش والاستدلال، هو أسلوب معروف، وأسلوب معتاد: أنك قد تأتي من الكلام بما لا تقصد مضمونهم، يعني: أنت لا تقصد صحة مضمون ما تعبِّر به، ليس هدفك هو إثبات صحة نفس الكلام الذي استدللت به على ذلك الخصم؛ وإنما النتيجة لذلك الكلام، ما يقابل هذا الكلام في ردِّ الخصم، هذا أسلوب من أساليب الاحتجاج؛ لأن هدفك الأساس هو إبطال ما يدَّعيه الخصم، ما يدَّعيه من تناقشه، أو تبيِّن له، أو توضِّح له الحقيقة، فهدفك الأساس هو: إثبات بطلان ما يدَّعيه، وهنا هدف نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» هو: إثبات بطلان ما يدعونه هم، من ألوهية لتلك الأصنام، وأنَّها في مقام الألوهية، هذا هو هدفه؛ ولـذلك هم فهموا تماماً ما يقصده، يعني: لم يلتبس عليهم الأمر، هم فهموا تماماً، وهم وصلوا إلى قناعة تامَّة، وتحقَّقت النتيجة التي أراد الوصول إليها، تحقَّقت بشكلٍ كامل؛ ولهـذا قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64]، فهذا حقَّق النتيجة التي أراد الوصول إليها بشكلٍ كامل.
هــذه الحــالة التي أوصلهـم إليهــا، مــن:
• الإدراك التام لباطلهم.
• الاستيعاب التام للحقيقة.
• والشعور بالذنب، والشعور بالذنب إلى درجة أن يعبِّروا عن أنفسهم بهذا التعبير في أنفسهم: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64].
هذا هو ما أراد الوصول إليه من كل تلك العملية، بالرغم من أنها حسَّاسة جدًّا، ومستفزة للغاية، ورد فعلهم تجاهها متوقع، في عنفٍ شديد، أو موقفٍ قاسٍ.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}[الأنبياء:64]: رجعوا إلى فطرتهم، إلى وجدانهم، إلى الحقيقة التي في أعماقهم، فأحسُّوا بالذنب حتى، وليس فقط الاستيعاب للحقيقة: حقيقة التوحيد، وبطلان الشرك، وسوء أن تعبِّد نفسك لغير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بل أحسُّوا حتى بالذنب وبالظلم، {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64]، فما هم عليه من الباطل الفظيع هو الظلم، الظلم الفظيع الكبير، الذي يتفرَّع عنه الكثير من المظالم، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13]، الإنسان يظلم نفسه حينما يعبِّد نفسه لغير الله، يجور ويميل عن العدل والحق، وأتَّضحت لهم الحقيقة، وأحسُّوا بالذنب بشكلٍ كامل.
لكن عادوا من جديد إلى عنادهم وإصرارهم، بالرغم من أنَّه قد نجح نجاحاً تاماً في الوصول بهم إلى ما أراده، من:
• استيعابٍ تامٍ للحقيقة.
• وإحساس كاملٍ بالذنب.
• وإدراكٍ تامٍ لباطل ما هم عليه.
ولكنهم عاندوا من جديد، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ}[الأنبياء:65]، هذه الانتكاسة هي تراجعهم عن مقتضى ما قد استوعبوه من الحقيقة، وشعروا به من الذنب، إلى حالة العناد والإصرار، عادوا إلى حالتهم السابقة في التنكُّر للحق، والتشبُّث بالباطل، والإصرار عليه، والمكابرة للحقائق الواضحة، والجدل السخيف، الذي لا يجدي.
ماذا قالوا له؟ {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}[الأنبياء:65]، هذا حُجَّةٌ عليهم، هذا هو أيضاً اعتراف إضافي لعجز تلك الأوثان والأصنام والتماثيل، التي يجعلون منها آلهةً من دون الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ما بعد ذلك اتَّخذوا قراراً بالعقوبة القصوى، الأشد عقوبة عندهم ضد نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهي: عقوبة الإحراق.
نكمل القصة- إن شاء الله- في الدرس القادم.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛