موقع 24:
2025-12-14@02:36:24 GMT

فشل إستراتيجية المغالبة في مقاربة الهجرة بالمتوسط

تاريخ النشر: 24th, September 2023 GMT

فشل إستراتيجية المغالبة في مقاربة الهجرة بالمتوسط

اتفاق الشراكة مع تونس يمكن تعميمه ليشمل دول شمال إفريقيا التي تعاني وبإمكانيات محدودة في الحرب على المهربين.

أظهر الأوروبيون في الأيام الأخيرة تلاحماً في وجه موجات الهجرة

من الواضح أن أوروبا ليست متحدة حول مقاربة الشراكة مع دول جنوب المتوسط

أظهر الأوروبيون في الأيام الأخيرة تلاحماً في وجه موجات الهجرة القادمة من جنوب المتوسط، وخاصة من تونس وليبيا.

. ويميل هذا التلاحم إلى اعتماد المقاربة الأمنية في التصدي للاجئين سواء بتحريك قوة فرونتكس أو الحديث عن العودة إلى تفعيل مهمة صوفيا.

ومن حق الأوروبيين أن يتحركوا بما أوتوا من قوة للدفاع عن أمنهم القومي وحماية إيطاليا التي تمثل جدار الصد الأول في مواجهة اللاجئين، ولديهم أسباب كثيرة تجعلهم يتحركون بهذا الحماس، منها أن اقتصاداتهم لم تعد قادرة على تحمل أعباء جديدة، وأن أنظمتهم المجتمعية القائمة على الرفاهية القصوى لخدمة المواطن الأوروبي، باتت عاجزة عن أداء دورها في ظل ارتفاع أعداد المهاجرين وتمتعهم بالخدمات.

تضاف إلى ذلك المخاوف الأمنية وصعود اليمين الشعبوي الذي يعتقد أن حل أزمة أوروبا يكمن في طرد المهاجرين ووضع إستراتيجية لوقف تدفق أعداد جديدة.

لكن هذه الحقوق لا يمكن أن تتحقق بالمقاربة الأمنية وبعقلية المغالبة، بأن تفرض على دولة مثل تونس أن تنهض بدور أقصى من الجهد لمواجهة تدفقات قادمة من الجنوب، يكفيها أن تتفرغ لمنع هجرة الآلاف من شبابها الذين يغامرون بـ "الحرقة" بكل الطرق.

والدولة، أيّ دولة، مهما كانت حريصة ومتيقظة مئة في المئة فلن تقدر على أن تمنع تسلل القوارب نحو المتوسط، وهذا ما يحصل مع إيطاليا التي اضطرت الآن للاستنجاد بالشركاء الأوروبيين من أجل وقف موجات اللاجئين التي تضاعفت مرات ومرات في الأسابيع الأخيرة، بسبب التطورات الحاصلة في دول الساحل والصحراء.

ما تلام عليه أوروبا أنها تنظر بعين واحدة، وتعتقد أن تونس لا تقوم بما يكفي من أجل وقف هذه التدفقات، في حين أن الأمر مرتبط بالإمكانيات والظروف التي تعيشها.

لا تمتلك تونس الإمكانيات اللوجستية الكافية لمواجهة مهربي البشر، ولا الإمكانيات البشرية، وليس في وسعها مضاعفة ميزانية مهمة التصدي للهجرة لأن لديها تحديات اقتصادية واجتماعية أخرى كبيرة، وهي تعمل على ملاءمة إمكانياتها مع وضعها الداخلي في ظل أزمة مالية واقتصادية حادة من تأثيرات الكوفيد وآثار الأزمة الغذائية العالمية، فضلاً عن سوء إدارة داخلية متراكمة منذ ما بعد ثورة 2011.

كان يفترض أن تبادر أوروبا إلى دعم تونس بالفعل وليس بالقول، وتنفيذ مخرجات اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي وتونس في يوليو الماضي، والذي تعهد بموجبه الأوروبيون بدعم تونس بحوالي مليار دولار على أقساط بالتوازي مع درجة التزامها في الحرب على مهربي البشر.

لم يحصر الاتفاق تفاصيل الدعم في جانب الحرب على الهجرة السرية، بل طال تفاصيل اقتصادية واستثمارية أخرى ضمن رؤية تقوم على تقوية إمكانيات تونس الاقتصادية ودعم النظام حتى يكون قادراً على أداء مهامه على جبهة البحر.. وبشكل أوضح، فإن الأوروبيين باتوا على دراية كافية بأن تونس لن تنهض بدور حراسة البحر ما لم يتم دعمها على مواجهة أزماتها المختلفة.

أمضى الاتحاد الأوروبي الأشهر الأخيرة في الانتظار.. لم يبادر بتنفيذ الخطوات الأولى للدعم، وظل يراقب جهود تونس في مواجهة الهجرة، ويرسل بعض مسؤوليه بالانتقادات من دون أن يتدخلوا لضخ الأموال العاجلة التي تمكّن في الحد الأدنى من زيادة قدرات حرس السواحل على التصدي للهجرة.

وفي موقف متعال، ويعكس التناقض الأوروبي، قالت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية آنا بيسونيرو خلال مؤتمر صحفي، الإثنين، في بروكسل إن "تونس لم تحصل حتى الآن على يورو واحد" من الاتحاد الأوروبي في إطار المذكرة، مشيرة إلى أن عملية الدفع "تستغرق بعض الوقت"، كما نوهت بأن الاتفاقية "لا تقتصر على الهجرة".

وهذا الكلام يعني نقل الاتفاق إلى مجالات أخرى تأويلية من بينها "مراقبة" حقوق الإنسان، كما جرى قبل أيام من خلال زيارة وفد من البرلمان الأوروبي كان يعتزم القيام بها إلى تونس، مع معرفة مسبقة بأن خلفية الزيارة أساسها الصدام مع الرئيس التونسي قيس سعيد في ظل موقفه المتشدد بشأن السيادة الوطنية، ورفض فكرة المراقبة مطلقا بما في ذلك خلال الانتخابات.

ليس الأوروبيون في وضع يسمح لهم بلعب دور الأستاذ، الذي لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه. الوضع تغير وأوروبا في حاجة إلى شركاء للحد من موجات الهجرة، وهي في حاجة أيضاً إلى مقاربة أوسع لإخراج هذه القضية من بعدها الأمني الظرفي إلى معالجة أشمل تساعد فيها الدول التي تنطلق منها موجات الهجرة من جنوب الصحراء وشمال إفريقيا.. شراكة على أسس صلبة تخدم مقاربة الأمن القومي على المدى البعيد.

ونأمل أن يكون قرار الاتحاد الأوروبي تخصيص 127 مليون يورو مساعدات لتونس الجمعة يعبّر عن جدية في تنفيذ اتفاق الشراكة الأخير ليكون نموذجاً يمكن توسيعه ليشمل بقية دول شمال إفريقيا التي تعاني كل على حدة وبإمكانيات محدودة في الحرب على المهربين، وخاصة في مهمة إيواء وإعاشة عشرات الآلاف من الهاربين من حروب جنوب الصحراء وأزماته.

ومن الواضح أن أوروبا ليست متحدة حول مقاربة الشراكة مع دول جنوب المتوسط للتخفيف من تدفقات الهجرة، وأن إيطاليا هي التي تتحمس لهذا المسار بسبب الضغوط المباشرة التي تعيشها، وإلا لتمّ التسريع بتنفيذ الاتفاق مع تونس وفتح قنوات تواصل مع بقية الشركاء في شمال إفريقيا.

والحقيقة فما تقوله رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بشأن الاتفاق مع تونس هو خطاب واقعي، فهي تريد شراكة براغماتية بين دول الجنوب ودول الشمال، الكل يستفيد منها، واحد بالدعم المالي والاستثماري، والثاني بالمزايا الأمنية.. ليس مهماً موقع ميلوني في اليمين أو الوسط، المهم نتائج المقاربة وواقعيتها.

وقالت ميلوني إن الاتفاق الموقع بين الاتحاد الأوروبي وتونس، في يوليو الماضي، "لا يزال هو الحل الأكثر منطقية" للأزمة، مضيفة "نحتاج إلى إتمام هذا النموذج والحصول على الموارد الضرورية، وبعد ذلك يمكن أيضاً استخدام المخطط ذاته مع الدول الأخرى في شمال إفريقيا".

وليست أوروبا وحدها التي عليها أن تنهض بدور فعال وتنفق الأموال الكثيرة لمقاربة تعقيدات ملف الهجرة، فدول جنوب المتوسط عليها أن تنظر إلى الموضوع من منظار أمنها القومي، وأن تقوّي التنسيق مع الأوروبيين لمواجهة التدفقات التي سيكون لها تأثير سلبي على المدى البعيد على دول مثل تونس وليبيا والجزائر.

لن تجد هذه الدول في المستقبل أيّ فرص لهجرة شبابها نحو أوروبا بما في ذلك الذين يغادرون بطرق قانونية وفي مهمات مطلوبة بكثرة حالياً.. بعد سنوات سيجدون أن طاقة الاستيعاب في أوروبا باتت أكثر من المطلوب، وأن أبواب "الحرقة" موصدة تماماً، وهو ما يعني أزمات إضافية وتعقيدات جديدة في الداخل.

الحملة الأمنية واسعة النطاق التي قامت بها تونس قبل أيام في محافظة صفاقس، لم تكن فقط رسالة طمأنة لأوروبا بأن تونس ملتزمة بما عليها في اتفاق الشراكة، ولكن أيضاً تأميناً من تونس لاستقرار إحدى أكبر محافظاتها أهمية جغرافياً واقتصادياً.

إن أسلوب المغالبة في إدارة أزمة الهجرة لن يفيد أوروبا ولا جيرانها العرب من جنوب المتوسط، لأنه سيسمح بالمزيد من التدفقات ويضاعف تأثيراتها السلبية، لكن الشراكة المتكافئة القائمة على التفاهم والتعاون السريعين هي الأقدر على تحقيق الهدف بأقل الخسائر.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: زلزال المغرب التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني الاتحاد الأوروبی اتفاق الشراکة شمال إفریقیا جنوب المتوسط الحرب على

إقرأ أيضاً:

البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة

د. ناهد محمد الحسن

تشير تجارب التاريخ الثقافي إلى أن الفضاء الفني غالبًا ما يستعيد القدرة على قول ما تعجز السياسة عن الإفصاح عنه. تتقدّم الفنون لتصدح باللغة التي لا تستطيع السلطة سماعها او تحمّلها. فاللغة المصفّاة بنت السلطة، أما اللغة المنفلتة فهي بنت الحرية، ولا يجتمع الاثنان في حنجرة واحدة. من هنا، يصبح تتبّع البذاءة في الفنون أشبه بتتبّع التصدعات الدقيقة التي تظهر في جدار السلطة. فكلما اتسعت التصدعات، ارتفع صدى الضحكات، سقطت الهيبة، تراجع الخوف وتطوّرت المقاومة.

فعندما تهيمن السلطة على القنوات الرسمية للخطاب، يصبح الفن بما يتضمنه من سخرية، انحراف لغوي، فجور رمزي، وتوظيف مقصود للابتذال وسيطًا معرفيًا يسمح بإعادة إنتاج الحقيقة خارج الأطر التي تفرضها البنى السلطوية. ولهذا، فإن دراسة البذاءة في الفن ليست بحثًا في الذوق، بل في إمكانات المقاومة داخل الخطاب الجمالي. فكل انحراف لغوي عن المعايير المفروضة هو — في لحظات التحولات السياسية — فعل مقاومة يكشف حدود السلطة ويعيد توزيع القوة الرمزية داخل المجتمع.

من المسرح الإغريقي إلى التنظير الحداثي: جذور البذاءة بوصفها نقدًا للسلطة

يبيّن تحليل مسرح أريستوفان _ الذي نشأ في القرن الخامس الميلادي_أن استخدام الألفاظ الجنسية الفجة لم يكن ناتجًا عن رغبة في الإضحاك وحده، بل عن سعي لفضح النفاق الأخلاقي والسياسي عبر تفكيك “هالة الخطاب الرسمي”. فالمحظور اللغوي، حين يُستدعى إلى المسرح، يعمل كـ أداة لكسر احتكار الطبقات الحاكمة لمعنى الأخلاق. بعد ذلك بقرون، وضع ميخائيل باختين إطارًا تنظيريًا لهذا الدور في مقولته حول الكرنفالية، حيث يتعرض النظام الرمزي السائد لانقلاب مؤقت يسمح للخطاب الشعبي بالهيمنة على الفضاء العام. موضحا للجمهور معنى اللحظة التي بمقدورهم فيها ان يسقطوا الملك، بحدّ الضحكة وليس بحد السيف.

ففي الكرنفال:

– يضحك الشعب على السلطان،

– تتلاشى الفواصل بين “المهذب” و”الوقح”،

– وتتحول البذاءة إلى آلية لنزع هالة السلطة.

في هذه اللحظة، يصبح الضحك أكثر ثورية من أي وثيقة سياسية، لأنه يطيح بالخوف — والسخرية تنزع الشرعية من السلطة أكثر مما تفعل المعارضة الرسمية. ويُظهر هذا التحليل أن البذاءة في سياق الكرنفال ليست انحرافًا أخلاقيًا، بل آلية لتفكيك الهرمية السياسية والاجتماعية عبر تعليق الحدود بين “الرفيع” و”الوضيع”. تدعم الدراسات اللاحقة في السخرية السياسية العربية هذا الطرح، مؤكدة أن الهزل — وخصوصًا حين يتضمن انحرافًا لغويًا — يخلق “عالمًا موازيًا” يتخفف من الرقابة ويتيح إمكانات جديدة للتعبير عن الرفض (Badarneh, 2011؛ Elsayed, 2021).

 الأدب والفجور اللغوي: إعادة تشكيل الذائقة وتقويض البنية الأخلاقية الرسمية

يمثل الأدب أحد أهم الحقول التي استخدمت البذاءة لتحدي السلطة الرمزية. رواية د. هـ. لورانس Lady Chatterley’s Lover (1928)   لم تُحاكم لأنها جنسية فقط، بل لأنها فضحت نفاق الأخلاق الطبقية في إنجلترا ما بعد الحرب العالمية الأولى. فالعلاقة بين امرأة من النخبة وخادم من الطبقة العاملة كانت جريمة رمزية تهدم المعمار الاجتماعي. القضاء اعتبر الرواية “بذيئة”، لكن التاريخ اعتبرها — لاحقًا — نقطة تحول في تحرير الجسد من رقابة الدولة. البذاءة هنا كانت تكشف ما تحجبه اللياقة: العطب الحقيقي في المجتمع.  وفي السياق ذاته، تُظهر دراسة أعمال هيلدا هيلست أن المزج بين السامي والوضيع ليس مجرد خيار جمالي، بل تقنية لزعزعة النسق الأخلاقي وإعادة توزيع السلطة داخل اللغة. وقد فسّرت قراءات باختين ومافيسولي هذا التداخل بوصفه آلية تكشف البنية القمعية التي تتخفى خلف اللغة المنقّاة.

في كتابه الوصايا المغدورة، يذهب ميلان كونديرا أبعد من الدفاع عن البذاءة — فهو يراها جزءًا من “حكمة الرواية”، التي تكشف السخافات الكبرى للسلطة من خلال ما يبدو تافهًا أو مبتذلًا. يلمس كونديرا جوهرًا مهمًا حين يؤكد أن  البذاءة ليست خروجًا عن اللغة، بل عودة اللغة إلى حقيقتها الأولى: أن تقول ما يخشاه الجميع.

يتضح من ذلك أن البذاءة في الأدب تؤدي وظيفة مزدوجة: نقد البنية الأخلاقية الرسمية، وفتح المجال لوعي مغاير يتجاوز الحدود التي ترسمها المؤسسات الثقافية والسياسية.

الموسيقى والراب: البذاءة كأرشيف للغضب الاجتماعي ( (NTM  نموذجًا

أشار محمد عباس — مشكورًا — إلى أهمية فرقة الراب الفرنسية Suprême NTM كنموذج لتسيس البذاءة. فالاسم ذاته (Nique Ta Mère) يشكل تصريحًا احتجاجيًا يتجاوز الخطاب الأدبي أو الصحفي، ليعبر عن الغضب البنيوي المتولد من تهميش الضواحي الفرنسية. تُظهر الأدبيات المعنية بثقافة الهيب–هوب أن البذاءة هنا ليست إساءة شخصية، بل لغة احتجاجية تشكّل هوية مشتركة ضد عنف الشرطة، العنصرية المؤسسية، الفقر، واستبعاد الفئات المهمشة من المشاركة السياسية.

في أغنية (شرطة Police)، حوّلت هذه الفرقة الشتيمة إلى وثيقة احتجاج سمعي. وعندما حوكمت المجموعة بسبب كلماتها، تحوّلت المحاكمة إلى اعتراف رسمي بأن اللغة يمكن أن تهدد النظام أكثر مما يهدده العنف المادي. لماذا تهمنا تجربة NTM؟

لأنها تجسّد ما يقوله باختين ومارك ليفين و(سارة عوض)، أن الفن يولد سلطة رمزية موازية، وأن اللغة البذيئة قد تكون الشكل الأوضح لانتزاع الاعتراف بوجود الهامش. وهذا يتقاطع مع دراسات الفن الاحتجاجي في المنطقة العربية (LeVine, 2015؛ Awad et al., 2017)، التي تُظهر أن ثقافة الهامش تنزع إلى استخدام أشكال لغوية “غير مصقولة” بوصفها وسيلة لمخاطبة السلطة مباشرة دون وساطة.

البذاءة في الفنون البصرية والشارعية: تفكيك الهيمنة الرمزية

تكشف البحوث الحديثة في الفن السياسي في شمال إفريقيا وغرب آسيا (2023–2024) أن الفضاءات الفنية غير الرسمية — الشوارع، الجدران، الفضاء الرقمي — أصبحت منصات مركزية لإعادة إنتاج خطاب مقاوم. في فلسطين مثلًا، يوضح Alım (2020)  أن الجداريات تشكل بنية رمزية مضادة تحافظ على الذاكرة وتؤسس لخطاب سياسي موازٍ. وفي مصر، رهنت Elsayed (2021) على أن السخرية الرقمية تمثل “كرنفالًا جديدًا” يتيح لغات هجينة تمزج بين الفحش والتهكم والصورة الرقمية لإنتاج مقاومة يومية. وتشير الكتب الحديثة عن الفن المقاوم (Art Against Authoritarianism in SWANA, 2024؛ الى أن الأنظمة السلطوية تميل إلى معاقبة النكتة أكثر من معاقبة المقال السياسي، لأنها: تنتشر خارج هياكل السيطرة، تُسقط الخوف، وتحوّل الجمهور إلى منتج للمعنى. وبذلك يتحول الفعل الفني البذيء إلى تحدٍّ مباشر للهالة السلطوية.

السياق السوداني: السخرية الشعبية كآلية لإسقاط الهالة السياسية

تُعد تجربة صحيفة حلمنتيش (أواخر ثمانينيات القرن العشرين) واحدة من أبرز الأمثلة السودانية على استخدام السخرية اللاذعة — وأحيانًا البذيئة — بوصفها آلية تفكيك رمزي للسلطة في سياق ديمقراطي هش. وينسب اليها نقل الصحافة السودانية المنضبطة الى البذاءة، في مفارقة مثيرة للتنظيم االإسلاموي الذي كان يتضرع للشعب السوداني بالطهرانية، مزاحما لأحزاب طائفيّة راسخة في القداسة، مشهرا الفن والكاريكاتير كأدوات لنزع القداسة عن منافسيه. وصول حلمنتيش إلى المجال العام لم يكن مجرد دخول صحيفة ساخرة، بل كان تفكيكًا مباغتًا لمنظومة الوقار السياسي التي حكمت المجال العام لعقود. وهو ما ينسجم مع ما تقترحه الأدبيات المتعلقة بالكرنفال الباختيني: أن السخرية — بما فيها من تهكّم وانحراف لغوي — تعمل على تعليق التسلسل الهرمي مؤقتًا، بما يسمح بإعادة توزيع السلطة الرمزية بين “المرموق” و”العادي”. اعتمدت حلمنتيش على هجاء سياسي مباشر، وعلى تفكيك الصورة المثالية للقيادات التقليدية عبر لغة شعبية غير منقّاة.

هذا النوع من الخطاب وفقا للباحثين، لا يقصد الإساءة الشخصية، بل يعمل — وفق تحليل زعزعة الرسميّة المفرطة للخطاب السياسي، كشف التوتر بين “القيمة الأخلاقية” المعلنة والسلوك السياسي العملي، وإعادة سلطة التقييم إلى الجمهور بدلاً من النخب. وفي إحدى اللحظات البالغة الدلالة — التي كثيرًا ما تُذكر في الذاكرة السياسية السودانية — هي قبول الإمام الصادق المهدي كتابة مقدّمة لكتاب احتوى الرسوم الساخرة التي استهدفته. تجسيد لفكرة أساسية في الثقافة الديمقراطية: أن السخرية جزء من المجال العام، وأن الهالة الرمزية للزعيم ليست ملكًا خاصًا، بل خاضعة للفحص الشعبي. هذا السلوك من جانب القيادات يشكّل مواجهة مختلفة تمامًا عن ردود الفعل السلطوية التي غالبًا ما تلاحق السخرية بالعقاب. وفي المفهوم الباختيني، هذه اللحظة تمثل قبول الحاكم بأن يدخل — طوعيًا — في فضاء الكرنفال، أي فضاء التساوي المؤقت بين السلطة والجمهور.

المفارقة التاريخية: عودة السلاح إلى أصحابه

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر أن الخطاب الساخر البذيء عاد مجددًا، لكن هذه المرة موجَّهًا إلى الحركة الإسلامية نفسها — التي كانت قد استخدمت حلمنتيش في الثمانينيات لتفكيك خصومها. وهذا يعزز فرضية مركزية في هذا البحث:

البذاءة ليست ملكًا لجماعة سياسية، بل ظاهرة لغوية–اجتماعية تتغير وظيفتها بحسب موقعها داخل الحقل السلطوي. فحين تنتقل الجماعة من الهامش إلى السلطة، تتحول البذاءة التي كانت فاعلة في مقاومتها إلى أداة موجَّهة ضدها، لأن الشروط التاريخية التي شَرعنت استخدامها آنذاك تنقلب عليها. وهكذا تُظهر حلمنتيش ما يسميه باختين بـ”قانون انقلاب الخطاب“: فباختين يرى أن الكلمات لا تنتمي لمن نطقها أول مرة، بل هي كيانات حيّة تتغير دلالتها حسب من يقولها، ولمن يقولها، وفي أي ظرف، وبأي نبرة. هذه الحركة المستمرة تجعل الخطاب غير ثابت وقابلًا دائمًا للانقلاب على سياقه الأصلي. الكلمة التي وُلدت خاضعة قد تتحول إلى كلمة متمرّدة، والكلمة التي صُنعت لتمجيد السلطة قد تنقلب فجأة إلى أداة للسخرية منها.

المفارقة التاريخية: السلاح يعود إلى أصحابه

بعد عقود، وفي ثورة ديسمبر، وُجِّه الخطاب البذيء إلى الإسلاميين أنفسهم — الذين سبق أن استخدموا حلمنتيش ضد خصومهم. هذا يؤكّد قانونًا لغويًا–سياسيًا مهمًا: البذاءة لا تظل سلاحًا بيد طرف واحد. حين تتغير موازين السلطة، يتغير اتجاه الشتيمة. فالبذاءة و إن وضعت في بنى تحت قشرة الدماغ في التشريح، ودفعت الى هامش المدينة، ووصمت بالانحطاط والقذارة فستبقى الخصم الناصع في مواجهة السلطة.

تُظهر التجربة السودانية في ثورة ديسمبر، كما وثّقها الخطاب الشعبي، أن البذاءة لم تكن مجرد رد فعل انفعالي، بل استراتيجية رمزية لإزالة الخوف والتحرر. وقد سبق وقدمت في حلقة لي في يوتيوب أيام الثورة تحليلا عن احتفاء الجماهير بعبارة غير لائقة القتها سيّدة ثائرة على الهواء مباشرة في قناة الجزيرة، لم تصدم المذيع وحده والمشاهدين، ولكنها الرصاصة التي خرّبت اللعبة. (يمكنك مشاهدة الحلقة هنا: https://youtu.be/y0CC8jksQxQ?si=P06xNUSxdab_7moz)

فتحت الثورة الباب الخلفي كما قال غوفمان واسقطت الستارة عن مسرحية الأدب المدّعاة. احتشد الاف المتابعين لصفحة ماما و لأنّها دون أن تحصل على شهادة في العلوم السياسية اين يمكن ان تنصع بذاءتها، فلم تصفق للسلطة، ولكنها دون ان تقرأ ماركس انحازت لمظالم طبقتها. وهكذا دمجت ثورة ديسمبر مظالم الشعب وحولت اللغة الصادمة إلى أداة لإعادة تعريف المسموح والممنوع في الخطاب العام، عبر تفكيك الهالة التي بنتها الأنظمة المتعاقبة حول رموزها. هذا يتسق مع ما تقترحه النظريات الحديثة في تحليل الحركات الاجتماعية حول دور اللغة المنحرفة في بناء التضامن وكسر الاحتكار الأخلاقي للخطاب الرسمي.

ختاما:

تكشف المراجعات التاريخية والنظرية والعملية أن البذاءة — حين تُستخدم في سياق جمالي مقصود — تعمل كآلية مقاومة تُعيد توزيع السلطة داخل الفضاء العام. فهي: تكسر احتكار السلطة للخطاب، تفتح المجال لأصوات الهامش، تعيد صياغة الحدود الأخلاقية بطريقة تُنتج معرفة بديلة، وتضمن خلق فضاء نقدي خارج سيطرة الدولة. وهكذا، تتحول البذاءة في الفن من “انحراف لغوي” إلى استراتيجية معرفية وجمالية وسياسية تستعيد بها الجماهير حقها في الكلام. أن البذاءة ليست انحرافًا عن الأخلاق، بل انحرافًا عن السلطة. وأن الفن — حين يقترب من حافة الممنوع — يحرر اللغة من السقف الذي تفرضه الدولة، المجتمع، والدين. الفن ليس مجرد مرآة، بل مطرقة لغوية تعيد تشكيل ما نجرؤ على قوله… وما نخشى قوله.

نواصل..

الوسومد. ناهد محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • كاتب بريطاني: على أوروبا فتح الأبواب أمام المهاجرين
  • سياسي: خطة المفوضية الأوروبية تجاه أموال روسيا المجمدة تهدد الاقتصاد الأوروبي
  • 2025.. عام مالي معقد في الاتحاد الأوروبي بسبب اتساع العجز
  • زخم متنامٍ: هل تتمكن المبادرات الأمنية من معالجة قضايا الأمن الجماعي الأوروبي؟
  • إلباييس: ترامب لم يرحم قادة أوروبا ووصفهم بالضعفاء
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • وثيقة مسرّبة تهدد بتفريق أوروبا: ترامب يسعى لفصل أربع دول عن الاتحاد الأوروبي
  • فرونتكس: ليبيا ما تزال بلد الانطلاق الأهم للمهاجرين
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها