القدس- شكّل الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000 محطة فارقة في العلاقة بين فلسطينيي الـ48 والسلطات الإسرائيلية التي قمعت شرطتها بالرصاص الحي مظاهرات اندلعت حينها احتجت على اقتحام الوزير السابق أرئيل شارون المسجد الأقصى في القدس.

ولا تزال ذكريات 13 شهيدا من فلسطينيي الـ48 قُتلوا برصاص الشرطة الإسرائيلية راسخة وتتجسد من خلال إحياء الذكرى الـ23 لهبّة القدس والأقصى، وذلك عبر فعاليات أطلقتها لجنة المتابعة العربية العليا بالزيارات إلى أضرحة الشهداء والمسيرة التقليدية الوحدوية التي احتضنتها بلدة سخنين في الجليل (شمال) أول أمس السبت.

ولا تزال الحاجة رشدية غرة من بلدة جت بالمثلث في الداخل الفلسطيني تبكي نجلها البكر رامي الذي استشهد في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000 في مطلع انتفاضة القدس والأقصى.

ومنذ 23 عاما تعيش والدة الشهيد رامي فاجعة الفراق والحسرة والألم وكأنها تلقت نبأ استشهاده للتو، وتستذكر اللحظات الأخيرة التي جمعتها معه صباح يوم استشهاده، حيث عم الإضراب الشامل بلدات الداخل الفلسطيني.

وعند ضريح ابنها الشهيد تحدثت الوالدة للجزيرة نت عن مشاعر مختلطة بالحزن والفخر بنجلها الشهيد، وعن ولادة حفيدها البكر قبل أشهر والذي أطلقت عليه العائلة اسم "رامي" أيضا.

وقالت "كل واحد له مكانته ومحبته في القلب، رامي الشهيد محفور بالذاكرة والوجدان، ورامي الحفيد الأمل باستمرارية الحياة".

قبل استشهاد ابنها بأيام تقول رشدية "راودتني أفكار غير معهودة وانتابني شعور غريب بأن شيئا سيحدث في العائلة، قلبي كان يخفق سريعا كلما كنت أرى رامي، وكان بالي مشغولا عليه لمجرد خروجه من البيت للعمل أو قضاء الوقت مع أصحابه".

الحاجة رشدية والدة الشهيد رامي غرة على عند ضريح نجلها (الجزيرة) ميلاد واستشهاد

بدت الأمور غير عادية في يوم الأحد الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000، في مثل هذا اليوم قبل 23 عاما تقول الوالدة المكلومة "كان رامي قد بلغ من العمر 21 ربيعا، واختار المشاركة في المسيرة الاحتجاجية ضد العدوان على القدس والأقصى".

خرج رامي من البيت باكرا وأغلق محل والده التجاري التزاما بالإضراب، وشارك بالمسيرة التي طافت شوارع البلدة، ثم توجه برفقة أصدقائه إلى منزل جدته القريب من مدخل البلدة، وحين انتشر خبر ارتقاء شهداء في أم الفحم طلب من الأصدقاء الخروج إلى الشوارع والاحتجاج دفاعا عن القدس والأقصى.

لم تتخيل الحاجة رشدية أنه في ذكرى ميلاد رامي سيصلها خبر استشهاده، في ساعات المساء كانت ترقب الأحداث من شرفة المنزل وكان زوجها الحاج حاتم جالسا بالمدخل، عندها أتى أحد الشبان وقال لوالده "رامي أصيب برصاص الشرطة"، نزلت مسرعة من المنزل تبكي وتصرخ عاليا "رامي استشهد.. ابني استشهد".

النصب التذكاري للشهيد رامي غرة في المكان الذي قتل فيه برصاص شرطي إسرائيلي (الجزيرة) حسرة ومرارة

هذه اللحظات لا تفارق أم رامي التي لا تزال تعيش صدمة الفراق بدخول فلذة كبدها المنزل محمولا على الأكتاف وهو شهيد "كان من المفروض أن نحتفل بذكرى ميلاده في هذا اليوم، لكننا نودعه شهيدا، لكن ما يثلج الصدر ويخفف عنا واقعة الفراق أنه ارتقى مع الشهداء الذين دفعوا ضريبة الدم دفاعا عن الوطن لتبقى قضية القدس والأقصى مشتعلة بدماء الشهداء".

لكن -تقول الحاجة رشدية- "الفراق صعب للغاية، أعيش وكأن رامي استشهد بهذه اللحظات، هنا في مدخل البلدة استشهد برصاص شرطي إسرائيلي، وعلى بعد أمتار من مكان استشهاده ووري الثرى، بخروجنا ودخولنا من البلدة نتذكر رامي ولحظات استشهاده، 23 عاما مرت كأنها ساعات، رامي باقٍ في القلب والذاكرة، وذكرى الشهداء وإرثهم لا يزالان خالدين ما دام هناك فلسطيني يدافع عن القدس والأقصى".

وفد لجنة المتابعة مع أكاليل الزهور التي وضعت على ضريح الشهيد رامي غرة (الجزيرة) القلب والذاكرة

المشاعر ذاتها ما زالت ترافق الحاجة هدية صيام والدة الشهيد أحمد من بلدة "معاوية" قضاء أم الفحم، والتي انشغلت بالتحضيرات قبالة ضريح نجلها البكر لاستقبال الضيوف لإحياء الذكرى الـ23 لهبّة القدس والأقصى.

وقالت "هذه الأحداث لا تنتهي بالتقادم، وتطوى وكأنها لم تكن، بل تبقى راسخة بالقلب والوجدان ومحفورة بالذاكرة، وها نحن نورثها للأجيال".

وأمام ضريح نجلها الشهيد لم تستطع أم أحمد أن تكتم مشاعرها ودموعها، وقالت للجزيرة نت "23 عاما مرت كأنها لحظات، فالحياة تستمر، ونحن تسلحنا بالإيمان بالقضاء والقدر".

وأضافت "نحن أمهات الشهداء نواسي أنفسنا، ونعزز صمودنا في هذا الوطن، ما يعزينا أن أحمد استشهد من أجل القدس والأقصى، ودماء الشهداء لم تذهب هباء منثورا وما زالت توقد قضية الأمة".

الحاجة هدية صيام والدة الشهيد أحمد من بلدة معاوية قضاء أم الفحم (الجزيرة) مشاعر مختلطة

تجاوزت أم أحمد مشاعرها الحزينة، وبدت أكثر قوة وعزيمة وبمعنويات عالية وهي تسرد أهمية ما قدمه الشهداء، قائلة "نعتز ونفتخر بأننا أهالي الشهداء، اختارنا الله لهذا الموقف المشرف لنحمل الراية والرسالة ونواصل مسيرة الدفاع عن القدس والأقصى".

وتتذكر الحاجة هدية نجلها الشهيد أحمد من خلال أصدقائه، في مثل هذا اليوم كان من المفروض أن يكون عمره 41 عاما، مع أسرة وزوجة وأولاد، لكن ما يخفف عنها وطأة الفراق والحسرة والألم نجلها الثاني عمر الذي حقق حلم أحمد بدراسة الصحافة والإعلام، ليحمل رسالته ويحقق طموحاته.

رحل أحمد -تقول والدته- لكن ذكراه بقيت خالدة، والقضية التي استشهد من أجلها ما زالت تنبض بالحياة، متذكرة العبارات التي كان يرددها قبيل أسابيع من استشهاده "أمي ماذا ستفعلين إذا أحضروني إليك شهيدا؟"، وتضيف "دائما تعمدت عدم الرد عليه، لكن في المرة الأخيرة وقبل استشهاده بأيام كرر هذه العبارة، وقلت له سأصبر".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القدس والأقصى والدة الشهید

إقرأ أيضاً:

كيف وثّق كتاب المغاربة والقدس تاريخ المغاربة وتضحياتهم في بيت المقدس؟

يقدم كتاب "المغاربة والقدس: جوانب من العلاقات التاريخية" -للباحث المغربي في التاريخ الإسلامي بوشتى بوكزول- قراءة توثيقية وتحليلية في عمق العلاقة التي جمعت المغاربة بمدينة القدس، انطلاقا من وعي بأن هذه الصلة ليست عرَضية بل هي ثمرة تداخل العقيدة والتاريخ والموقف.

ولا يعد الكتاب بحثا أكاديميا فحسب، بل صرخة ضد محاولات النسيان، وتذكيرا بأن المغاربة ظلوا عبر التاريخ مرابطين في أكناف بيت المقدس، يجاورون المسجد الأقصى، ويساهمون في رعايته والذود عنه.

ويرى الكاتب أن "الكتابة هي بداية كل فعل" وأن مقاومة الانهزام تبدأ بالوعي، وبالعودة إلى الذاكرة التي تسكنها شواهد الوقف، ورسائل السلاطين، ومواقف العلماء، وحضور المغاربة في قلب المدينة المقدسة.

ويستشرف واقع مدينة القدس في ظل ما تشهده يوميا من محاولات تهويد مستمرة، واقتحامات متكررة للمسجد الأقصى، واندفاع متزايد نحو التطبيع، وسط صمت عربي رسمي وتخاذل عالمي.

كما يكتسي هذا الكتاب أهميته، بعدما تجاوزت الغطرسة الصهيونية كل الحدود ساعية الى إبادة شعب بكامله واحتلال أراضيه، فهو يصل الماضي بالحاضر، ويجدد التذكير بأن القدس جوهر الصراع، ومفتاح السيادة، مؤكدا أن عروبة وإسلامية القدس حقيقة تاريخية وحضارية ودينية لا تقبل الطمس أو التزوير.

المؤلف يقدم وثيقة تاريخية تؤرخ لرباط المغاربة في بيت المقدس ومجاورتهم للمسجد الأقصى (مواقع التواصل) فصول الكتاب

يقع الكتاب في 3 فصول، اعتمد فيها المؤلف على منهجين هما:

المنهج التاريخي: أعاد بواسطته بناء صورة الوجود المغربي في القدس من خلال تتبع الوثائق والوقائع، خاصة كتب الرحلات التي وصف فيها الرحالة المغاربة حضورهم العلمي والروحي في المدينة، إلى جانب وثائق الوقف التي سجلها قضاة المحكمة الشرعية بالقدس، والتي تشهد على استقرار المغاربة هناك، ومشاركتهم في الحياة اليومية والدينية.

المنهج الوصفي التحليلي: رصد به ملامح الحضور المغربي من خلال الوقف والمجاورة والجهاد، والبحث في الأثر الاجتماعي والديني الذي خلفته هذه العلاقة، سواء في القدس أو في الوعي الجمعي المغربي، إذ ما تزال القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في المسيرات الشعبية والمواقف السياسية المناهضة للتطبيع.

وخصص الفصل الأول لسبر الجوانب العامة لمدينة القدس باعتبارها "مسرح الأحداث" فقدم قراءة في تاريخ المدينة، وجغرافيتها، ومكانتها الإستراتيجية، وبنيتها الديموغرافية، ثم توقف عند مركزيتها الدينية في الإسلام.

وتناول الفصل الثاني تجليات العلاقة التاريخية بين المغاربة والقدس، من خلال روابط التعبد والمجاورة، والرحلة في طلب العلم، والانخراط في الجهاد، كما تطرق إلى لحظة استنجاد القائد صلاح الدين الأيوبي بالسلطان يعقوب المنصور الموحدي، مبرزا دلالتها السياسية والدينية.

إعلان

وبين الفصل الثالث كيف ساهمت أوقاف المغاربة في دعم الحياة الدينية والاجتماعية داخل المدينة، واستقرار المذهب المالكي بها، وتثبيت الحضور المغربي الرمزي والمادي، كما أبرز تعلق ملوك المغرب بالقدس، وما نجم عنه من مبادرات لحمايتها.

القدس ليست مدينة داخل وطن يدعى فلسطين، بل فلسطين تستوعب رمزيا داخل القدس

بواسطة مؤلف الكتاب بوشتى بوكزول

القدس هوية حضارية

يرسم الكاتب معالم مكانة القدس في الوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، بوصفها القلب النابض لفلسطين، ومصدر انتمائها الحضاري والروحي، لا مجرد نقطة على الخريطة.

فالقدس ليست "مدينة داخل وطن يدعى فلسطين، بل فلسطين تستوعب رمزيا داخل القدس" لما تمثله من عمق ديني وتاريخي وإستراتيجي.

ويتجلى هذا البعد في خصوصيتها التاريخية منذ الحقبة الكنعانية، حيث تعاقبت عليها حضارات متعددة، وبرزت فيها أسماء مثل يبوس، أورساليم، إيلياء، وكلها تؤكد جذورها العربية.

ووفق إجماع المؤرخين، تأسست القدس على يد اليبوسيين، وهم قوم ساميون من الجزيرة العربية، هاجروا واستوطنوا المنطقة في الألف الثالثة قبل الميلاد، وشيدوا مدينة محصنة، وقد بقيت المدينة كنعانية الأصل رغم محاولات التهويد في مراحل لاحقة.

ويؤكد الكاتب، مستحضرا نصوص التوراة وأبحاث الآثار، أن الادعاء الصهيوني بيهودية هذه المدينة لا يستند إلى معطى تاريخي واحد، إذ لم يعثر على آثار يهودية تثبت وجود الهيكل المزعوم، بل إن بعض النصوص التوراتية ذاتها تصف القدس بأنها مدينة غريبة عن اليهود، كما أن وجودهم بها كان هامشيا، ومؤقتا، وغالبا ما طردوا منها من قبل الإمبراطوريات المتعاقبة.

ومن هنا، فإن القدس لا تمثل فقط موقعا ذا أهمية سياسية، بل هي وعاء حضاري وسر من أسرار الانتماء العربي والإسلامي، يختصر فيه التاريخ والجغرافيا والدين والوجدان.

القدس موقع إستراتيجي

يفتح الموقع الجغرافي للقدس آفاقا واسعة لفهم بعدها الإستراتيجي الذي جعل منها محط أنظار القوى الكبرى عبر التاريخ، حيث تقع في ملتقى قارات العالم القديم، وتتحكم في محاور الربط بين المشرق والمغرب، وبين بلاد الشام ووادي النيل.

وهذا التموضع، وسط السلسلة الجبلية الفلسطينية، وفي قلب الأرض المقدسة، أكسبها خصوصية مزدوجة، والانفتاح والانغلاق في آن واحد، مما جعلها عرضة لأكثر من 16 عملية تدمير واحتلال.

ويؤكد الكاتب أن من يمتلك قرار القدس يتحكم في مفاصل الخريطة السياسية للمنطقة، لما تمثله من عقدة مواصلات، ومنطقة تماس بين حضارات متصارعة.

وهذا ما جعل المشروع الصهيوني يتخذ من القدس مركزا للهيمنة الإستراتيجية، بتخطيط استعماري يستبدل الاستعمار التقليدي باستيطان اليهود.

فالقدس هي الفاصل والواصل بين جناحي الوطن العربي والإسلامي، واستعادتها تعني إعادة اللحمة الجغرافية والتاريخية بين أجزائه. ومن هنا، يكتسب الصراع حول المدينة طابعا وجوديا، إذ إن تحرير القدس يعني إسقاط الأساطير المؤسِّسة للدولة الصهيونية، ويفتح الباب لتفكيك حضورها العسكري والاستعماري، ليس فقط في فلسطين بل في عموم الإقليم، خصوصا مع ارتباط ذلك بالتحكم في ممرات إستراتيجية كقناة السويس والبحر الأحمر.

إعلان

ومن هذا المنطلق، تصبح المطالبة الدائمة بالقدس وعروبتها إحدى أدوات المواجهة الفعالة، ومصدرا لتقويض شرعية الاحتلال، وزعزعة أسسه الأيديولوجية والسياسية، لأن بقاء القدس تحت السيطرة الصهيونية يعني استمرار التشظي العربي، بينما يمثل تحريرها بوابة لوحدة وتحرر شاملين.

الشيخ محمد بن عبد السلام بن المهدي المزكلدي، عالم ومجاهد ولد في شمال المغرب وهاجر إلى فلسطين وسكن مدينة القدس في عشرينات القرن العشرين.

استقر الشيخ في القدس وكان بيته في حارة المغاربة بجوار حائط البراق، وكانت المدينة في تلك الفترة خاضعة للانتداب البريطاني.

شارك الشيخ في ثورة… pic.twitter.com/3zDegy4fit

— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) November 5, 2024

روابط التعبد والمجاورة والنصرة

يؤكد الكاتب أن علاقة المغاربة بالقدس الشريف تجسدت في روابط التعبد والمجاورة والنصرة. فمنذ اعتناقهم الإسلام، توجهت قلوبهم إلى المسجد الأقصى باعتباره ثالث الحرمين، فصار مقصدهم بعد الحج، ومهوى أفئدتهم، وزادهم في رحلة الشوق، حيث كانوا يمرون بالشام والقدس عند عودتهم من الحجاز، ليُصلوا في المسجد الأقصى ويزوروا حائط البراق.

ويشير الكاتب إلى أن آلاف المغاربة استقرّوا في القدس، وتزوجوا، وبنوا بيوتا، وأسسوا مدارس وزوايا، وشكلوا حيا مستقلا أصبح يسمى "حارة المغاربة" التي احتلت قلب المدينة المقدسة.

ويؤكد أن هذه المجاورة لم تكن مجرد إقامة، بل أصبحت رباطا واعيا بهدف تحصيل الأجر والثواب من جهة، وحماية المدينة المقدسة من الأطماع من جهة ثانية.

وقد حملهم هذا الارتباط التعبدي على نقل أنماطهم العمرانية والثقافية، فحافظوا على المذهب المالكي، وتحدثوا بلهجات مغربية، واحتضنهم المكان حتى صارت لهجاتهم وأزياؤهم مقدسية في الظاهر، مغربية في الجوهر. وبهذا، لم يكن الحضور المغربي عاطفيا فقط، بل أضحى امتدادا حضاريا متجذرا في هوية المدينة.

كما شكل الجهاد الرابطَ القوي بين أهل المغرب والقدس الشريف، إذ تميز المغاربة عبر التاريخ بصلابتهم وشجاعتهم في الدفاع عن الإسلام ونصرة بيت المقدس. ولقد شاركوا في مقاومة الحملات الصليبية، حيث استنجد القائد صلاح الدين الأيوبي بالسلطان المغربي يعقوب المنصور الموحدي طالبا المدد بالأساطيل والقوات لدعم الجهاد في الشام، فكان لذلك الأثر الكبير في استعادة القدس وحماية المقدسات.

صلاح الدين استنجد بالسلطان المغربي يعقوب المنصور وكان لإمداداته الأثر في استعادة القدس (ميدجيرني-الجزيرة) الرحلة العلمية إلى القدس

يسلط الكاتب الضوء على بعدٍ آخر من العلاقة بين المغاربة والقدس يتمثل في الرحلة في طلب العلم، والتي كانت من أبرز ملامح حضور المغاربة في المشرق. فالقدس إلى جانب دورها التعبدي، كانت منارة للعلم تستقطب العلماء والطلبة من كل الآفاق، وكان للمغاربة فيها نصيب وافر.

ويرصد الكاتب عشرات الأسماء من الرحالة والعلماء المغاربة الذين شدوا الرحال إلى بيت المقدس، ومنهم ابن بطوطة، وابن جبير، وابن العربي، والشريف الإدريسي، والقاضي عياض وغيرهم. ولم يمر هؤلاء فقط، بل درسوا، ودوّنوا، وتفاعلوا مع علماء القدس، وتركوا بصمات علمية خالدة. فابن العربي التقى هناك أبا بكر الطرطوشي، وجلس إلى علماء المسجد الأقصى، وذكر مشاهداته الدقيقة لصخرة المعراج. أما الإدريسي فشبه مسجد الأقصى بمسجد قرطبة من حيث الاتساع والعظمة.

ولا يقتصر الأمر على العلم فقط، بل إن هذه الرحلات كانت جسرا ثقافيا ومعرفيا نقل من خلاله المغاربة أوصاف القدس وأسوارها وأبوابها إلى المغرب، ليعيشها الناس هناك بالحرف والصورة. وقد أنتج هذا التفاعل تراثا أدبيا وعلميا غنيا، جمع بين الحس المعرفي والوجداني، فصار وصف القدس منقوشا في الذاكرة المغربية، حتى لمن لم يزرها.

إعلان

وتتجلى أهمية هذا البعد العلمي في كونه أداة توثيق ومقاومة للتهويد، فشهادات العلماء المغاربة تحفظ معالم المدينة قبل الاحتلال، وتفند الروايات الصهيونية، وتؤكد أن للقدس بعدا علميا وروحيا لا يفهم إلا في سياقها الإسلامي والعربي، وهو ما حرص عليه المغاربة جيلا بعد جيل.

حارة المغاربة تجاور حائط البراق قبل أن يهدمها الاحتلال بشكل كامل (الجزيرة) حارة المغاربة شاهد عمراني

يشكل وقف حارة المغاربة التعبير الأوضح عن التحام المغاربة بالقدس، وقد تحولت هذه الحارة من حي سكني إلى رمز للهوية والرسوخ المغربي في قلب المسجد الأقصى.

ويشير الكاتب إلى أن هذا الوقف لا يُفهم إلا في سياق وعي المغاربة العميق بقيمة الرباط، ورغبتهم في الإقامة الدائمة على مقربة من أولى القبلتين.

ويستعرض المؤلف المراحل التي مرت بها الحارة، بدءا من استقرار المغاربة بعد تحرير القدس من الصليبيين على يد صلاح الدين الذي خصص لهم الحارة مكافأة على مشاركتهم في الجهاد.

ويؤكد أن هذه الحارة لم تكن فقط فضاء سكنيا، بل ضمت مدارس وزوايا ومساجد ومرافق حياتية تم تأسيسها بوقف مغربي خالص.

ويبين الكاتب أن حارة المغاربة كانت تقع بجوار حائط البراق، في الجزء الجنوبي الغربي من المسجد الأقصى، وأن باب المغاربة سمي بهذا الاسم نسبة إلى موقع الحي، مما يعكس رسوخ الحضور المغربي مكانيا ووظيفيا وروحيا.

ولكن الكارثة الكبرى، كما يسرد المؤلف، وقعت بعد احتلال القدس عام 1967، حين أقدمت قوات الاحتلال الصهيوني على تدمير الحارة بالكامل وتسويتها بالأرض، في محاولة لطمس الوجود المغربي، وفتح ساحة أمام حائط البراق.

وهكذا، فإن حارة المغاربة تمثل اليوم ذاكرة جريحة، تعيد طرح سؤال السيادة، وتحمّل الأجيال المغربية مسؤولية استعادة الحق المعماري والحضاري، وفضح محاولات التهويد عبر المسارات القانونية والتوثيق التاريخي.

يقع جامع المغاربة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى المبارك، وسمي بهذا الاسم نسبة للمغرب العربي.

ولم يعد الجامع يستخدم اليوم للصلاة، وحُولت إحدى قاعاته إلى مقر للمتحف الإسلامي وتعرض فيه مقتنيات تاريخية متنوعة.

للمزيد: https://t.co/HQfYpp5IgU pic.twitter.com/OgGME2Ia32

— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) March 14, 2024

الوقف المغربي جهاد وتملك مشروع

يرى الكاتب أن الوقف المغربي في القدس كان بمثابة مؤسسة حضارية ورافعة إستراتيجية تعكس وعي المغاربة بأهمية القدس، وتجسد امتدادهم في النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة. ويؤكد أن هذه الأوقاف تنوعت بين مساكن، وحوانيت، ومدارس، وزوايا، وأراضٍ زراعية، خُصصت كلها لخدمة المجاورين والزائرين من المغاربة.

وقد لعبت هذه الأوقاف دورا أساسيا في تأمين الإقامة المجانية للمغاربة الوافدين إلى القدس، ووفرت لهم بيئة علمية وروحية مستقرة، مما شجع على استدامة حضورهم، بل وأسس لوجود سكاني دائم. كما أن هذه الأوقاف، حسب الوثائق العثمانية، كانت محررة بصيغ قانونية واضحة، مما يمكّن من إثبات الحق المغربي فيها حتى اليوم، رغم محاولات الاحتلال مصادرتها.

ويبرز الكاتب دور العلماء المغاربة، مثل عبد الهادي التازي، في جمع الوثائق الوقفية وتحقيقها ونشرها، لتصبح حجة في وجه الاحتلال. ويؤكد أن هذه الأوقاف كانت أيضا وسيلة للرباط والمقاومة، إذ ساهمت في تمويل الرباط العلمي والجهادي، وأنتجت توازنا ديموغرافيا لصالح المسلمين في المدينة.

وخلال ذلك يبرز تعلق الملوك المغاربة بالقدس قديما وحديثا، مبرزا الدور المهم لوكالة بيت مال القدس الشريف في دعم القدس والمقدسيين.

ويختم المؤلف هذه الفكرة بتأكيد أن أوقاف المغاربة قضية سيادة وهوية وحقوق تاريخية، وأن الدفاع عنها اليوم هو دفاع عن الرواية الأصلية للقدس، ضد مخطط صهيوني يسعى إلى محو الذاكرة وإحلال الزيف محل الحقيقة.

معلومات عن الكتاب العنوان: المغاربة والقدس.. جوانب من العلاقات التاريخية تأليف: بوشتى بوكزول دار النشر: طوب برس تاريخ النشر: 2015 اللغة: العربية الطبعة: الأولى الحجم: متوسط عدد الصفحات: 168

مقالات مشابهة

  • 18 شهيدا في غارات إسرائيلية على دير البلح والنصيرات وخانيونس
  • 8 شهداء بقصف العدو الصهيوني مناطق في غزة
  • عشرات الشهداء والجرحى الفلسطينيين بمجازر جديدة للعدو الإسرائيلي بقطاع غزة
  • حجة.. تشييع جثمان الشهيد العقيد أبو عبدل في عبس
  • تشييع جثمان الشهيد العقيد محمد علي أبو عبدل في عبس
  • كيف وثّق كتاب المغاربة والقدس تاريخ المغاربة وتضحياتهم في بيت المقدس؟
  • عشرات الشهداء بمجازر في القطاع.. عدد كبير من الأطفال قرب نقطة طبية
  • “شهداء الأقصى” تعرض مشاهداً من قصفها و”سرايا القدس” تجمعاً لجنود وآليات صهيونية جنوبي غزة
  • إيران تعلن عدد الشهداء المدنيين في حربها مع إسرائيل
  • من المدنيين.. إيران تكشف عدد قتلاها في الحرب الأخيرة مع جيش الاحتلال