4 أكتوبر، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

.

المصدر: المسلة

إقرأ أيضاً:

استهداف الدولة: عندما تصبح البنية المدنية ساحة حرب

د. عبدالناصر سلم حامد

كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب

عندما يصبح المستشفى هدفًا، والمخيم ميدانًا، والطفل ضحية بصمت، نعرف أننا لا نعيش حربًا… بل انهيارًا مطلقًا للمعنى. السودان يُمحى مرفقًا بعد آخر. لا اعتراض. لا مساءلة. فقط صمت دولي مدوٍ. منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، لم يعد استهداف المدنيين والبنية التحتية حدثًا طارئًا، بل تحول إلى أداة رئيسية في إدارة الصراع. المستشفيات، المطارات، مخيمات النزوح، وشبكات الكهرباء والمياه، أصبحت أهدافًا ثابتة في خريطة القصف، في مشهد يُعبّر عن سقوط الضوابط، وتحوّل السلاح إلى سياسة.

في مايو 2025، شنت قوات الدعم السريع هجومًا بطائرات مسيرة على مدينة بورتسودان، المدينة التي تمثل آخر معقل مستقر نسبيًا في البلاد. استُهدفت مستودعات الوقود والمطار المدني، ما تسبب في توقف حركة الطيران واندلاع حرائق عطلت الإمدادات الحيوية. لم يكن الهجوم دفاعيًا ولا جزءًا من معركة مباشرة، بل رسالة استراتيجية واضحة: اليد الطويلة للدعم السريع تطال كل ما تبقى من البنية الوطنية، بما فيها ما هو بعيد عن جبهات القتال. بورتسودان ليست مجرد مدينة ساحلية، بل رمز للصمود الإداري، وممر حيوي للتنفس الاقتصادي. استهدافها ليس عبثًا، بل قرار بتوسيع الخنق.

بعد أسابيع فقط، وقعت مجزرة مروعة في مخيم زمزم للنازحين شمال دارفور. أكثر من 400 قتيل، غالبيتهم من النساء والأطفال، سقطوا في قصف متسلسل: استطلاع، غارات، اجتياح. المرافق دُمّرت، مخازن الغذاء أُحرقت، والخيام جُرفت. لا مقاومة. لا مقاتلين. فقط نازحون هاربون من حرب أخرى. شهود عيان تحدثوا عن إطلاق نار على الفارين، وعن أمهات لم يُمنحن فرصة الهرب. ليست هذه معركة، بل تصفية ميدانية لسكان فقدوا كل حماية.

وفي الفاشر، في يناير من العام نفسه، استهدفت طائرة مسيّرة مستشفى الأمومة السعودية، فقتلت 70 شخصًا، بينهم نساء في حالة ولادة وأطباء وممرضون. لم يكن هناك أي نشاط عسكري في محيط المستشفى، ولا حتى ذريعة. ورغم أن الهجوم موثق بالصوت والصورة، لا تحقيق. لا عقوبات. لا أثر حتى لنية المحاسبة. فقط بيانات “قلق”. ومزيد من الضحايا. السكوت لم يعد مفاجئًا. بل أصبح جزءًا من المشهد.

تنفي قوات الدعم السريع مسؤوليتها، وتتهم أطرافًا أخرى باستخدام المنشآت المدنية لأغراض عسكرية. غير أن الهجمات غالبًا ما تقع بعيدًا عن الجبهات، وتستهدف مناطق لا تشهد اشتباكات. هذه الرواية، التي تكررت في كل قصف تقريبًا، تتهاوى أمام أنماط التكرار والموثوقية الميدانية، وتبقى دون سند حقيقي في ميدان التحقيق أو القانون. كيف تُقصف مستشفيات موثقة، بموقع معروف، دون أن يفتح ذلك حتى نقاشًا في مجلس الأمن؟

بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، فإن استهداف المدنيين أو المنشآت المدنية مثل المستشفيات والمخيمات ومرافق البنية التحتية يُعد جريمة حرب صريحة. وتنص المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة على أن “المؤسسات المخصصة للعناية بالمرضى والجرحى والوقاية يجب احترامها وحمايتها في جميع الأحوال”. كما يحظر النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادته الثامنة “توجيه هجمات متعمدة ضد السكان المدنيين أو الأعيان المدنية”، ويعتبرها من أخطر الانتهاكات التي تستوجب الملاحقة القضائية. وبالنظر إلى طبيعة وتكرار الهجمات التي شنتها قوات الدعم السريع، فإنها لا تندرج تحت أخطاء فردية أو أضرار جانبية، بل تشكّل نمطًا ممنهجًا يمكن أن يُرقى إلى جرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة في حال ثبوت القصد السياسي والتطهير الممنهج.

التقارير الحقوقية، وعلى رأسها تلك الصادرة عن منظمتي هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، تؤكد أن هذه الحوادث ليست عشوائية. هناك نمط متكرر: استهداف منهجي للبنية المدنية في المدن الخارجة عن السيطرة المباشرة. منذ بداية الحرب، تم توثيق أكثر من 120 هجومًا على منشآت مدنية، بينها 15 مستشفى، 9 مخيمات نازحين، وعشرات المدارس ومراكز الخدمات. في مايو 2025، قدّم محامون دوليون ملفًا قانونيًا إلى وحدة جرائم الحرب في شرطة لندن، يتهم قيادة الدعم السريع، وعلى رأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، استنادًا إلى مبدأ المسؤولية القيادية الذي يُحمّل القادة مسؤولية الأعمال التي تُنفذ بتوجيهاتهم أو بعلمهم.

استمرار تدمير البنية المدنية في السودان لا يعني فقط كارثة إنسانية، بل تهديدًا للاستقرار الإقليمي. النزوح الجماعي، وانهيار الخدمات، وخلق مناطق خارجة عن السيطرة، قد يتحول إلى أزمة تتجاوز حدود السودان، وتنعكس على جيرانه وأمن البحر الأحمر. ومع غياب الردع، تترسخ سابقة خطيرة: أن القصف يمكن أن يُستخدم كأداة حكم.

الأثر لا يتوقف عند الدمار المادي. الأثر الأعمق هو النفسي والاجتماعي. عائلات هجّرت مرات متتالية، أطفال بلا تعليم، مجتمعات فقدت مراكزها الصحية وخدماتها الأساسية، ونساء فقدن الأمان والمساندة. هذا الجيل الناشئ، الذي لم يعرف سوى النزوح والقصف، ماذا سيكون مستقبله؟ في كل طفل بلا مدرسة، تتولد أزمة مقبلة لا تقل خطرًا عن الحرب الحالية. ما يجري اليوم ليس فقط تدميرًا لمدن أو منشآت، بل لتماسك مجتمع بأكمله. إنه تآكل طويل الأمد لأي إمكانية للاستقرار أو التعافي.

ورغم صدور بعض البيانات من دول مثل السعودية وقطر ومصر، تندد باستهداف المنشآت المدنية، فإن هذا التنديد لم يُترجم إلى تحرك فعلي. لا ضغوط دولية حقيقية، ولا إجراءات ملزمة لوقف الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها. هذا التجاهل يغذي مناخ الإفلات من العقاب، ويبعث برسالة أن قصف المدنيين يمكن أن يستمر بلا تكلفة سياسية أو قانونية.

السودان ليس أول بلد يُقصف فيه المدنيون، لكنه قد يكون الأول الذي تُفكك دولته بالكامل عبر استهداف بنيته المدنية، دون عواقب تُذكر. إذا لم يُرْدع هذا النموذج، فسيصبح قاعدة قابلة للتكرار، لا استثناءً. إن ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع مسلح، بل هجوم شامل على مفهوم الدولة، وعلى المعايير الدولية ذاتها. في السودان، لم يُجرَّب السلاح فقط… بل الصمت أيضًا. وإن لم يُكسر هذا الصمت، فلن تكون الجريمة القادمة بعيدة.

لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن النمط المتّبع في السودان قد يتحوّل إلى “نموذج غير مُعلن” تستخدمه أطراف مسلحة في صراعات أخرى. فإذا لم يُردَع استخدام الطائرات المسيّرة ضد المدارس والمستشفيات ومخيمات النازحين، فإن ساحات الحروب القادمة لن تفرّق بين ثكنة عسكرية ومركز طبي. سيصبح المدني الحلقة الأضعف دائمًا، وسيُكافأ من يمتلك التكنولوجيا، لا من يحترم القانون. إن غياب المحاسبة ليس مجرد ثغرة، بل حافز على التكرار. وإن لم تُشكل سابقة حازمة في السودان، فسنجد هذه الجرائم مكررة في دول أخرى، باسم ذرائع جديدة.

في هذا المشهد المعقّد، لا تملك الشعوب الضعيفة رفاهية الانتظار. ولا يملك العالم ترف الصمت. إن كانت الحرب تقرأ في عدد الضحايا، فإن السلم يُقاس بمن لا يُضرب، بمن لا يُهجّر، بمن تُحترم إنسانيته وهو بلا سلاح. والسودان اليوم يقدّم اختبارًا مفتوحًا لكل من يدّعي الدفاع عن القانون الدولي. والنتيجة… لا تزال معلقة  

مقالات مشابهة

  • شغب في باريس يعكر فرحة تأهل سان جيرمان فكيف علق مغردون؟
  • عاجل- البيت الأبيض يحتفل.. البابا الجديد أمريكي وترامب: "انتصار للقيم الأمريكية"
  • 14 طن دقيق مدعم.. حملات مكبرة على المخابز المخالفة
  • روسيا تتخذ كل التدابير الضرورية لتأمين احتفالات يوم النصر
  • السلوكيات الإيجابية للمعلم والطالب.. ندوة بتعليم الإسكندرية
  • محافظ كفر الشيخ: تحرير 6 محاضر تموينية متنوعة ضد المخابز المخالفة ببيلا
  • البدء في رصد مخالفات إلقاء النفايات من المركبات
  • رئاسة حى غرب المنصورة تواصل حملاتها المكثفة فى التصدى لكافة أعمال البناء المخالفة
  • عرض "قضية أنوف" بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح
  • استهداف الدولة: عندما تصبح البنية المدنية ساحة حرب