يقارب المفكر والفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي" بين الحركتين النازية والصهيونية في كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". ويورد "جارودي" أوجه التشابه بين الحركتين، بدءا من الالتزام بنظرة عِرقية تمنع الاختلاط بالأعراق الأخرى من خلال الزواج، والادعاء بالأفضلية على الغير سواء عبر القول إنهم "شعب الله المختار" كما يتردد في دولة الاحتلال، أو "الجنس الأعلى بين بقية الأجناس" كما يقول النازيون، ما يؤدي إلى استباحة عمليات الإبادة والتطهير العِرقي النابعة من تلك النظرة الدونية إلى بقية شعوب الأرض.

 

ويستدل "جارودي" على ذلك عبر مقولة لـ"مارتن بوبر"، وهو مفكر يهودي صهيوني ومن أبرز مفسري العهد القديم، إذ يقول: "لقد فضَّلت غالبية اليهود أن يتعلموا من هتلر، إذ برهن هتلر على أن التاريخ لا يسير وفق مشيئة الروح، بل وفق مشيئة القوة". كما يسوق جارودي واقعة مثيرة للاهتمام جرت أثناء استجواب عالِم الأجناس الألماني "جوليوس سترايتشر"، إبان محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية في مدينة نورنبرغ الألمانية، إذ أقر "سترايتشر" بالمشاركة في صياغة القوانين العنصرية التي تمنع اختلاط "الدم الألماني"، وأنه طالب باتخاذ الجنس اليهودي نموذجا في ذلك، لأنهم ألزموا أنفسهم بشريعة عِرقية تحظر عليهم مصاهرة الغير، الأمر الذي يوحي أن سنّ ذلك القانون النازي تأثر بشكل ما بتلك "الرؤية التوراتية".

 

أحد أبرز الفلاسفة في القرن العشرين

"روجيه جارودي" هو مفكر وفيلسوف مسلم من مواليد فرنسا عام 1913، أصدر أول مؤلفاته عام 1946 تحت عنوان "المسيحية والماركسية"، حصل على درجة الدكتوراه الأولى عام 1953 من جامعة السوربون الفرنسية عن النظرية المادية في المعرفة، ثم حاز درجة الدكتوراه الثانية من جامعة موسكو عن الحرية عام 1954، كما حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة قونية التركية عام 1995. وخلال عقد السبعينيات تنامى اهتمام جارودي بفكرة الدين، وحاول أن يوفق ما بين الكاثوليكية والشيوعية نظرا لأنه أمضى فترة طويلة من حياته عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي، لكن المطاف انتهى به منجذبا إلى الدين الإسلامي، وفي يوليو/تموز 1982 أشهر "جارودي" إسلامه في المركز الإسلامي في جنيف.

كتب جارودي عن الإسلام كتابين، هما "الإسلام يسكن مستقبلنا" و"وعود الإسلام"، وحاز بهما على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1985. وعن اعتناق الإسلام يروي جارودي أن الأمر أتى بعد معاناة ورحلة طويلة ولم يكن محض مصادفة، وأن البذرة تعود إلى سنة 1941 حين كان أسيرا لدى القوات النازية في الجزائر، واندلع تمرد بين السجناء دفع بقائد السجن إلى إصدار الأمر بإطلاق النار عليهم، لكنَّ الحراس الجزائريين رفضوا التنفيذ، ولم يفهم "روجيه" آنذاك سبب الرفض، ما فسّره له بعد ذلك قائد جزائري مسلم بقوله: "شرف المحارب المسلم يمنعه عن إطلاق النار على شخص أعزل".

 

حياة جارودي حافلة بالمعارك الفكرية والصدامات، منذ طرده من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1971 على خلفية انتقاداته للاتحاد السوفيتي بعد غزوه تشيكوسلوفاكيا عام 1968، وتصريحه بأن روسيا حوّلت الأحزاب الشيوعية حول العالم إلى ظلال خافتة بلا هوية. لكن المواجهة الأبرز في حياته تمثلت في تصديه للحركة الصهيونية، بعدما أصدر بيانا مدويا في صحيفة "لوموند" الفرنسية خلال صفحة كاملة اشتراها على نفقته الخاصة في 17 يونيو/حزيران 1982، أعلن فيه رفضه للاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام ذاته.

 

توالت انتقادات "جارودي" للحركة الصهيونية، الأمر الذي أدى إلى نبذه من وسائل الإعلام الغربية ودور النشر الفرنسية. ويُعَدُّ كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" أكثر مؤلفاته إثارة للجدل، وبسببه أصدرت المحكمة الفرنسية حكما بحبسه سنة مع إيقاف التنفيذ عام 1998.

 

خرافات دولة الاحتلال

وكتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" يناقش ويدحض مجموعة الخرافات الصهيونية التي تؤسس مشروع دولة الاحتلال، بدءا من خرافة الأرض الموعودة في فلسطين وشعب الله المختار، ثم حديثه عن الحقبة النازية، وخرافة يشوع أو التطهير العِرقي، كما يستعرض الكتاب آلة الضغط الصهيونية المؤثرة على صناعة القرار الأميركي والفرنسي.

 

ويرى الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الذي قدّم للكتاب أن جارودي لم يشأ أن يناقش بنفسه أو يناقض تلك الخرافات، إنما جاء بالوقائع من مصادرها الأولية ومن وثائقها الأصلية ثم تركها تجري في سياقها المنطقي حتى تصل إلى غايتها. وتُعَدُّ هذه إحدى نقاط قوة الكتاب، إذ يترك جارودي الحيز أمام المصادر التوراتية والصهيونية ومقتطفات من الصحف والتقارير الأوروبية، مكتفيا بالربط بين تلك المصادر، وهو الأسلوب الذي يجعل الحقائق تتكشف من داخل تلك المصادر ذاتها ودون أي محاولة تأويل من الكاتب.

 

جدير بالذكر أن كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" صدر على نفقة جارودي في فرنسا عام 1995، بعدما رفضت جميع دور النشر الفرنسية طباعته. أما الطبعة العربية الأولى فجاءت عبر دار الشروق المصرية في عام 1998 من ترجمة "محمد هشام".

 

بروتوكول حنبعل

دعت العديد من الأصوات في جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤخرا، إلى تفعيل بروتوكول "هانيبال" (حنبعل باللغة العبرية) خلال عملية طوفان الأقصى. والبروتوكول المثير للجدل يتيح لقادة جيش الاحتلال إطلاق النيران على المواقع التي يُحتجز بها الجنود الإسرائيليون ولو أدى ذلك إلى مقتلهم، بغرض تلافي التفاوض والامتناع عن دفع أي ثمن أو تبادل الأسرى مقابل استرداد الجنود. وفيما أن البروتوكول جرت صياغته عام 1986 (2) بعد أسر ثلاثة جنود من لواء جفعاتي في لبنان، فإن "جارودي" يورد في كتابه ما يدل على أن ذلك الأسلوب متأصل في الفكر الصهيوني، حين كان القادة الصهاينة في منظمة الهاجاناه تحت قيادة "بن غوريون" يرغبون في إثارة السخط ضد الإنجليز عام 1940، لأن إنجلترا بدأت في نقل اليهود إلى جزيرة موريشيوس لإنقاذهم من الخطر النازي، بينما أرادت المنظمات الصهيونية نقل هؤلاء إلى فلسطين. وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، قامت قوات الهاجاناه بتفجير الباخرة الفرنسية "باتريا" عند توقفها في ميناء حيفا، ما أدى إلى مصرع 252 يهوديا بالإضافة إلى الطاقم الإنجليزي!

 

حادثة مماثلة يوردها الكتاب وتثبت أن الاحتلال لا يتورع عن قتل أبنائه بيده في سبيل بلوغ أهدافه، إذ كانت الجماعات اليهودية في العراق (التي بلغ تعدادها 110 ألف نسمة عام 1948) متأصلة الجذور في المجتمع العربي، الأمر الذي عبَّر عنه حاخام العراق "خضوري ساسون" بقوله: "لقد تمتع اليهود على مدى ألف سنة بالحقوق والامتيازات نفسها التي يتمتع بها العرب، وهم لا يعتبرون أنفسهم عناصر غريبة أو منعزلة داخل هذه الأمة". وهي المقولة التي تسببت في سلسلة من الأعمال الإرهابية الصهيونية في بغداد ضد اليهود، ولم تتورع استخبارات الاحتلال عن إلقاء القنابل فوق منازل هؤلاء لإقناعهم أنهم في خطر دائم ولا يوجد أمامهم سبيل إلا الخروج من العراق نحو فلسطين.

 

ويرى جارودي أن دفع اليهود نحو فلسطين لم يمضِ وفق ما أراده رئيس وزراء الاحتلال "بن غوريون"، الذي خطط لجلب نحو 4 ملايين يهودي إلى فلسطين خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي، لكن عدد المهاجرين لم يتعدَّ 800 ألف يهودي أثناء تلك الفترة، فيما أن عدد اليهود النازحين من دولة الاحتلال فاق عدد القادمين إليها خلال عامي 1975-1976، الأمر الذي قد يعود إلى فقدان الأمان بعد وقائع حرب أكتوبر 73 وتحطم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وهو المشهد الذي تكرر خلال عملية طوفان الأقصى الأخيرة، حين رأينا المستوطنين يفرون ويتركون وراءهم أرض الميعاد (وفق اعتقادهم)، فما أشبه الليلة بالبارحة!

 

رخصة التطهير العِرقي! لا يمكن تحقيق نصر عسكري حاسم عندما يصطدم جيش بشعب صامد مناضل مثل الشعب الفلسطيني، والمقاومة لن تتوقف أبدا. (الصورة: غيتي)

دأب الكيان المحتل في الكثير من الأوقات، على استخدام الروايات التوراتية بوصفها أداة تبرر أفعاله الهمجية ومذابحه، ويشير جارودي إلى سفر يشوع بوصفه إحدى أشهر تلك الروايات المستخدمة بغرض ترخيص مجازر الاحتلال. ويشوع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي يُنسب إليه السفر، ويُعرف عند المسلمين باسم يوشع بن نون. ويقارن جارودي ما بين حصار يشوع وجيشه المزعوم لمدينتَيْ أريحا وعجلون (حاليا شمال غرب الأردن)، ثم الاستيلاء عليهما والقضاء على كل نفس فيهما، وسلوك مناحم بيجين في 9 أبريل/نيسان 1948 حين أقدم برفقة منظمة الأرغون الصهيونية على قتل 254 رجلا وامرأة وطفلا من أهالي قرية دير ياسين، الأمر الذي يتكرر حاليا بحذافيره في غزة، حيث دعت "تالي جوتليف"، إحدى نائبات حزب الليكود، إلى استخدام السلاح النووي ردا على هجمات المقاومة الفلسطينية، عبر عدة منشورات يوم الاثنين الماضي على منصة إكس (تويتر سابقا).

 

ويؤكد "جارودي" أن سفر يشوع تحديدا استخدم ستارا لأشد الأعمال دموية، لكن "جارودي" يفند تلك المزاعم، حيث يشير إلى أن الأسفار الخمسة الأساسية في الكتاب المقدس هي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية، أما الأسفار الأخرى مثل يشوع وصموئيل والقضاة والملوك فتُعَدُّ بمنزلة ملاحق تاريخية، وقد أثبت شُرّاح العهد القديم أن تدوين تلك الأسفار لم يبدأ إلا في القرن التاسع قبل الميلاد، ولذلك لا يمكن التحقق من صحة تلك الروايات تاريخيا.

 

ويضيف جارودي أن الآثار المستمدة من علوم الحفريات تثبت أنه لا يمكن أن يكون الإسرائيليون استولوا على أريحا في نهاية القرن 13 قبل الميلاد، لأن المدينة كانت مهجورة قبل ذلك بزمن، بعد تدميرها في العصر البرونزي عام 1550 قبل الميلاد. كما ينطبق الأمر ذاته على غزو مدينة عاي (التي يذكر العهد القديم أنها كانت تقع غرب أريحا)، إذ خلصت بعثتان أثريتان بعد إجراء عمليات التنقيب إلى نتيجة واحدة، مفادها أن المدينة تعرضت للتدمير نحو عام 2400 ق.م وظلت مهجورة إلى ما بعد عام 1200 ق.م، ثم غدت قرية بائسة بلا أي تحصينات حتى بداية القرن العاشر، لذلك فإن الواقعة المذكورة في سفر يشوع التي تسرد استيلاء بني إسرائيل عليها في القرن 13 ق.م لا يمكن أن تكون صحيحة!

 

لن ينتصر جيش أمام شعب

ويؤكد جارودي أن الاحتلال لن ينعم بالسلام إلا في وجود دولة فلسطينية تنعم باستقلال كامل، ما يعني إزالة جميع المستوطنات التي تُشكِّل مَعينا لا ينضب للاستفزاز واندلاع الحروب مستقبلا، وفي هذا السياق، يستحضر رئيس وزراء الاحتلال السابق "إسحق رابين"، الذي حاول التوصل إلى اتفاق سلام مع الزعيم الفلسطيني "ياسر عرفات"، ويشير جارودي إلى تاريخ رابين "الأسود" قبل اعتلائه منصب رئيس الوزراء، إذ كان "رابين" قائد قوات الاحتلال إبان اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وأمر آنذاك بكسر أيدي الأطفال الفلسطينيين الذين واجهوا الدبابات بالحجارة، غير أن ذلك لم يمنعه فيما بعد من السعي نحو السلام، إذ أدرك بشكل واقعي (مثلما أدرك الفرنسيون ذات يوم في الجزائر) أنه لا يمكن تحقيق نصر عسكري حاسم عندما يصطدم جيش بشعب صامد مناضل مثل الشعب الفلسطيني، وأن المقاومة لن تتوقف أبدا.

———————————————————————————

المصادر:

1- كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" روجيه جارودي.

2- Reuters october 2014

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: دولة الاحتلال الأمر الذی لا یمکن الذی ی

إقرأ أيضاً:

هل استيقظ ضمير الغرب بعد استشهاد أكثر من 50 ألف فلسطيني؟

الكثير من الخجل، أو ربما العار والخزي، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هو الذي شجع عددا من الدول الغربية على تصعيد حدة النقد تجاه ما يقوم به الاحتلال في غزة. تلا هذه التصريحات وعود غائمة لإعادة قراءة الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية القائمة بين عدد من الدول الأوروبية وبين إسرائيل.

إذ وعلى مدار أكثر من 20 شهرا، أسال جيش الاحتلال الكثير من الدماء، عشرات الآلاف من الشهداء، غالبيتهم من الأطفال والنساء، ومئات الآلاف من الجرحى والمصابين والمكلومين، ومجاعة تزداد، وقصف يومي ينهال على رؤوس ساكني القطاع بأطنان من الحمم والقذائف والرصاص الذي لا يميز بين ضحاياه.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2قاتل المصلّين مثله الأعلى.. من أين جاء بن غفير بكل هذا القبح؟list 2 of 2"المقامرة من أجل البقاء".. لم يستمر نتنياهو في حرب غزة رغم فشله؟end of list

ورغم الدعم المُطلق من الدول الغربية لحكومة نتنياهو للقضاء على فصائل المقاومة في القطاع المحاصر، فإن الصور التي باتت تخرج يوميا وعلى مدار الساعة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل باتت تضع كثيرا من الضغط والحرج على الحكومات الغربية أمام شعوبها أولا، ثم ازداد هذا الحرج ليأخذ بُعدا فيه صبغة من الإهانة بعد أن أظهر نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، للجميع أنه لا يقيم وزنا ولا قيمة لأية قوانين دولية ولا أعراف دبلوماسية، وأن أهدافه الشخصية وتحالفه مع التيار الصهيوني الأصولي (بجناحيه سموتريتش وبن غفير) أهم له من آراء حلفائه ونظرائه من زعماء الدول.

إعلان رصاصة في وجه الدبلوماسية

في جنين، كما في غزة، وعلى المدنيين أو الدبلوماسيين، لا يختلف الأمر كثيرا عندما يتعلق الأمر بالنيران الإسرائيلية التي لا تفرق بين هدف وآخر.

في يوم 21 مايو/أيار الجاري، زار وفد يضم دبلوماسيين أوروبيين وعربا مخيم جنين شمالي الضفة الغربية. وأثناء الزيارة، تقدم جنديان إسرائيليان تجاه الوفد الذي كان يضم 25 سفيرا وقنصلا وممثلين عن الاتحاد الأوروبي ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وأطلقا النار على الجميع، مما زرع حالة من الفوضى والذعر في صفوف هذا الوفد، حيث أظهرت اللقطات المصورة للحادثة هرولة الجميع نحو سياراتهم هربا من نيران الاحتلال.

لحظة إطلاق جنود الاحتلال النار تجاه وفد دبلوماسي من السفراء الأوروبيين والعرب، بمحيط مخيم جنين. pic.twitter.com/Uhlg7kiWDL

— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) May 21, 2025

لم يكن الجنود الإسرائيليون في حاجة لمبرر سوى انحراف بسيط عن المسار المقرر للوفد لإطلاق النيران بحسب رواية جيش الاحتلال، حيث أصدر الجيش بيانا يقول فيه إن الجنود الذين كانوا في المنطقة أطلقوا طلقات تحذيرية للوفد والمرافقين له، وأنه "يأسف للإزعاج الذي تسبب فيه الحادث".

في حديثه لقناة "إل سي إي" الفرنسية، اعتبر "رافاييل جيروزاليمي"، الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن غضب الأوروبيين "غير مبرر، لأن السياسيين خصوصا لا يفهمون الإرهاب وما يمثله، ولا يفهمون أيضا في الأمن". الضابط الإسرائيلي السابق قال إن الجنود لم يكونوا على علم بمكونات هذا الوفد، وإن الهدف الحقيقي من إطلاق النار كان تحذيرهم من أن المنطقة خطيرة و"أن هناك إرهابيين وقناصة قد يستغلون وجودهم للقيام بعمل إرهابي".

لم يقنع هذا الكلام أحدا، وذلك أن المنطقة التي كان فيها الوفد، لا يمكن لأحد دخولها دون علم دولة الاحتلال، التي تسيطر على المنطقة بطريقة تُخالف جميع القوانين الدولية.

إعلان

والطريف في القصة، أن أحد الدبلوماسيين الحاضرين للزيارة كان قد تساءل مازحا إن كان بوسع الإسرائيليين إطلاق النار عليهم، لكن هذه النكتة انقلبت واقعا ماثلا أمامه وهو في طريقه إلى سيارته فارا بحياته.

بدأت ردود الفعل الرسمية تتقاطر مباشرة بعد الحدث، حيث قال وزير الخارجية الفرنسية جون نويل بارو في تغريدة له على موقع "إكس" إن بلاده ستستدعي السفير الإسرائيلي لمعرفة ما حدث، وأضاف: "تعرضت زيارة إلى جنين، شارك فيها أحد دبلوماسيينا، لإطلاق نار من جنود إسرائيليين. هذا أمر غير مقبول. وسيتم استدعاء السفير الإسرائيلي لتقديم توضيحات. كل الدعم لبعثتنا ولعملها الرائع في ظروف صعبة".

Une visite à Jénine, à laquelle participait un de nos diplomates, a essuyé des tirs de soldats israéliens. C’est inacceptable. L’ambassadeur d’Israël sera convoqué pour s’expliquer.

Plein soutien à nos agents sur place et leur travail remarquable dans des conditions éprouvantes.

— Jean-Noël Barrot (@jnbarrot) May 21, 2025

في السياق ذاته جاء تعقيب للقنصل العام الفرنسي في القدس "نيكولا كاسيانيدس" والذي قال إن ما حدث أمر غير مقبول، لكن الهيئة الدبلوماسية الفرنسية ستواصل عملها وأن "موظفيها عازمون على مواصلة مهمتهم بشجاعة يحتذى بها".

وغير بعيد عن فرنسا، في إيطاليا هذه المرة اعتبر وزير الخارجية "أنطونيو تاياني"، أن التهديدات التي أقدم عليها الجنود الإسرائيليون غير مقبولة، داعيا الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم توضيحات فورية حول ما حدث، مستدعيا هو الآخر السفير الإسرائيلي للمطالبة بتفسير رسمي. لن يتغير الموقف في إسبانيا والبرتغال اللتين أقدمتا على الخطوة نفسها، في حين طالبت تركيا بفتح تحقيق فوري حيث كان يضم الوفد أحد موظفي القنصلية العامة التركية في القدس.

إعلان

لم يأت هذا الحدث منفردا، فقد سبق لعدد من الدبلوماسيين العاملين في القدس أن اشتكوا من انتهاكات لحقوقهم الدبلوماسية من قبيل عمليات تفتيش عنيفة بل ومهينة أحيانا على الحواجز في الضفة الغربية، بل وتصويب السلاح تجاههم، ففي نوفمبر/تشرين الماضي، أقدم جنود الاحتلال على طرح رجال درك فرنسيين أرضا وتوقيفهم وسط موقع ديني في القدس يخضع للحماية الفرنسية، حينها لم تبد فرنسا امتعاضا كبيرا، ولم تتحرك الآلة الإعلامية الفرنسية لاستنكار ذلك، إذ كانت منشغلة آنذاك بمواضيع أخرى من بينها ما سمّته الحكومة حينها بـ "ارتفاع معاداة السامية في البلاد".

جدار الحلفاء المتصدع

لم تكن الرصاصات التي خرجت من أسلحة جنود الاحتلال تجاه الوفد الدبلوماسي إلا شرارا يتطاير من نيران كانت قد اتقدت بالفعل بين إسرائيل وحلفائها الغربيين المخلصين كما وصفوا أنفسهم أكثر من مرة في أوقات سابقة.

في 19 من مايو/أيار الجاري أصدرت كل من فرنسا وبريطانيا وكندا بيانا بشأن الوضع في غزة وفي الضفة الغربية، قالت فيه هذه البلدان إنها تعارض بشدة توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، واصفة المعاناة الإنسانية في القطاع بأنها "لا تطاق" وأن سماح إسرائيل بدخول كميات ضئيلة من الغذاء إلى المناطق المنكوبة غير كاف على الإطلاق.

طالب البيان الحكومة الإسرائيلية بالوقف الفوري لعملياتها العسكرية في غزة والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية بالتعاون مع الأمم المتحدة، مع مطالبة "حماس بالإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم بطريقة قاسية".

واعتبرت الدول الموقعة أن رفض الحكومة الإسرائيلية تقديم المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان المدنيين هو أمر غير مقبول، وأنه قد يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني، مدينة الخطاب الذي يستخدمه بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية عبر التهديد بالترحيل القسري للمدنيين، وهو ما يشكل انتهاكا للقانون الدولي الإنساني.

إعلان

وأضاف البيان أن إسرائيل تعرضت لهجوم "شنيع" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حصلت على إثره على دعم كامل للدفاع عن مواطنيها ضد الإرهاب، بيد أن هذا الأمر لا يعني أن تقف الدول الغربية مكتوفة الأيدي في الوقت الذي تواصل فيه حكومة بنيامين نتنياهو أفعالا "فاضحة" في غزة وفي الضفة حيث تواصل توسيع المستوطنات وقضم المزيد من الأراضي لصالح المستوطنين الجدد.

في آخر البيان، عبرت الدول الموقعة عن رغبتها بتوقف دولة الاحتلال عن كل ذلك، وإلا فإنها ستزيد من خطواتها الرافضة لاستمرار التجاوزات الإسرائيلية، لكن كيف ذلك؟ وما الذي يمكن لهذه الدول القيام به؟

للإجابة؛ سنعود بالزمان قليلا إلى الوراء لإعطاء نبذة عن العلاقات بين دولة الاحتلال وبين الدول الأوروبية.

يُعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لإسرائيل، حيث تستند العلاقة بين الطرفين على اتفاقية الشراكة الموقعة عام 1995 التي دخلت حيز التنفيذ في العام 2000. تتيح هذه الاتفاقية إمكانية التبادل التجاري الحر في عدة قطاعات، منها الزراعة والصناعة. في العام 2022 مثلا، كانت 24% من صادرات دولة الاحتلال موجهة إلى دول الاتحاد الأوروبي، في حين بلغت الواردات القادمة إلى دولة الاحتلال نحو 31% من أوروبا.

يضع الاتحاد الأوروبي دولة الاحتلال ضمن ما يعرف بـ"سياسة الجوار الأوروبية"، وهي سياسة تهدف إلى الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية جيدة مع الدول المجاورة للاتحاد، كما اقتربت الدول الأوروبية مع إسرائيل أكثر فأكثر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، في إطار رغبة أوروبا في تقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية والبحث عن خيارات أخرى بديلة لاستيراد الطاقة، ومنها إسرائيل.

تعتبر كل هذه الاتفاقيات وغيرها دلائل على التقارب بين الغرب وبين إسرائيل، أو بين أوروبا وإسرائيل، دون نسيان الدعم الكبير للصهيونية كفكرة من طرف هذه الدول، بل اعتبار بعض الدول كفرنسا وألمانيا انتقاد الصهيونية معاداة للسامية. بيد أن إصرار جيش الاحتلال ومن ورائه حكومة الاحتلال على عدم الالتزام بأية قوانين دولية ولا أعراف دبلوماسية، ومواصلة حربها الدموية في غزة، أثار إحراجا غاضبا لدى حلفائها، حتى اتّسع الخرق على الراقع.

أقارب ينعون جثتيّ الطفلة أيلول أبو سيف البالغة من العمر أربعة أشهر ووالدها خالد اللذين قتلا في غارات جيش الاحتلال المتواصلة على قطاع غزة، وقد التُقطت الصورة في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة في 18 مايو/أيار  2025. (الفرنسية)

في لقاء له مع قناة "تي إف 1" يوم 13 مايو/أيار الجاري، وصف الرئيس إيمانويل ماكرون ما يحدث في غزة وما تقوم به حكومة نتنياهو بـ "الخزي"، مذكرا بأنه أحد القادة القلائل الذين ذهبوا حتى الحدود المصرية الإسرائيلية في زيارة كانت من أسوأ ما شاهد هو شخصيا، خصوصا بسبب قيام دولة الاحتلال بمنع دخول المساعدات، بما في ذلك المساعدات الفرنسية.

إعلان

رغم كل ذلك، رفض إيمانويل ماكرون استعمال مصطلح "الإبادة"، معتبرا أن الأمر لا يخص السياسيين بل يخص المؤرخين، الذين سيكون لديهم الحق في وضع وصف دقيق لما يحدث، في حين يعتبر دور الرؤساء هو إيقاف ما يحدث الآن في القطاع المنكوب.

في المسار نفسه، كانت بريطانيا قد أعلنت تعليق مفاوضاتها التجارية مع دولة الاحتلال، فارضة مجموعة عقوبات على المستوطنين في الضفة الغربية، كما أنها استدعت السفير الإسرائيلي من أجل تبليغ حكومة بلاده احتجاج بريطانيا على "الهجوم غير المقبول" على غزة.

تتوسع موجة الامتعاض من إسرائيل، لتشمل دولا أوروبية أكثر، فقد قدمت هولندا، إحدى أقرب أصدقاء إسرائيل، عبر وزير خارجيتها طلب مراجعة الاتفاقية التي تنظم العلاقات التجارية مع إسرائيل بسبب "احتمال" خرق إسرائيل للمادة الثانية من الاتفاقية المتعلقة باحترام حقوق الإنسان

اللافت أن هذا الاقتراح لاقى دعما كبيرا من بلجيكا وفنلندا ولوكسمبورغ والبرتغال وسلوفينيا والسويد، إضافة إلى الدانمارك وإستونيا ومالطا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا، بجانب فرنسا وإسبانيا، في الوقت الذي تكوّن فيه فريق المعارضة من بلغاريا وكرواتيا وقبرص والتشيك وألمانيا واليونان والمجر وليتوانيا، ثم أخيرا، إيطاليا التي رغم معارضتها للاقتراح الهولندي، فإن وزيرتها الأولى جورجا ميلوني كانت قد قالت في كلمة لها أمام برلمان بلادها إن الوضع الإنساني في غزة "لا يمكن تبريره، وعلى إسرائيل احترام القانون الدولي الإنساني".

وفي تعقيبها على هذا الاقتراح قالت "كايا كالاس" مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إن هناك أغلبية قوية تؤيد مراجعة المادة الثانية من اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، مضيفة: "الوضع في غزة كارثي. ما سمحت به إسرائيل من مساعدات أمر مرحب به، لكنه بمثابة قطرة في محيط. يجب إدخال المساعدات فورا، دون عوائق وبشكل واسع، لأن هذا ما هو مطلوب الآن".

إعلان هل ستنظر إسرائيل إلى المرآة؟

لم يعتد بنيامين نتنياهو أن يُقال له لا، لا داخليا ولا خارجيا، فالرجل يعتبر نفسه المُخلّص للغرب لأنه يقف في مواجهة جبهة "الإرهاب" التي تهدد العالم بأسره، بيد أن الغربيين أنفسهم يعلمون أن "بيبي" يستغل جميع الأزمات والحروب لصالحه، إما لتحقيق مكاسب سياسية أو من أجل تخفيف خسائره والهرب من المحاكمات القضائية التي تلاحقه، وهو الذي فاحت منه روائح الفساد داخل الكيان وخارجه.

لم يتقبل رئيس وزراء الاحتلال البيان الذي أصدره حلفاؤه، معتبرا أن باريس ولندن وأوتاوا تقف "في الجانب الخطأ من التاريخ"، مستغلا حادثة مقتل موظفين في السفارة الإسرائيلية بواشنطن بالرصاص، وعلى إثر هذه الحادثة ذهب "بيبي" إلى أبعد من اتهام العواصم الثلاث بعدم دعمه، إلى اتهامهم بالتسبب في حادثة واشنطن، والمشاركة في التحريض على إسرائيل ومواطنيها.

رأت الحكومة ورئيسها أن البيان المشترك ما هو إلا دعم لحركة حماس، حيث صرح نتنياهو: "عندما يشكركم القتلة الجماعيون والمغتصبون وقتلة الأطفال والخاطفون، فأنتم على الجانب الخاطئ من العدالة"، ردت فرنسا سريعا عبر المتحدثة باسم الحكومة "صوفي بريماس" التي قالت إن بلادها لا تقبل هذه الاتهامات، وإنها تدين ما حدث في واشنطن وتعتبره عملا معاد للسامية، بيد أنه يجب عدم الخلط بين الشعب الإسرائيلي وبين سياسات حكومة بنيامين نتنياهو الحالية.

أما ما يبدو حتى اللحظة، فهو أن نتنياهو يصر على الإبادة الكاملة لقطاع غزة، بينما يسعى لتقديم روايته لجمهور إسرائيل تجاه التحولات التي تجري في الخطاب الغربي، الذي قال فيه إن "حلفاءنا يقفون معنا"، لكنهم قالوا له إنه من غير الجيد أن تنتشر صور المجاعة، وبدافع "الاحترام"، كما قال، سمح بدخول بضع شاحنات مساعدات لأكثر من مليوني مواطن!

لكن الحقيقة الجلية، أن الضغوط الغربية حتى اللحظة لا تتعدى التصريحات والبيانات وبعضها موجه للرأي العام الداخلي. ويعوّل نتنياهو على أن هذه الدول لن تذهب أبعد من التهديد، لأن تنفيذ العقوبات، خصوصًا الاقتصادية، يظل معلقا إلى أجل غير مسمى في ظل حرب أوروبا الطويلة مع روسيا، والتي دفعتها إلى البحث عن كل منفذ اقتصادي، حتى لو كان ملوّثًا بالدم.

إعلان

ووسط كل ذلك، يبدو باكرا الحديث عن اليقظة الغربية، فاليقظة السياسية تختلف عن اليقظة من النوم بأنها لا تكتفي بأن تفتح عينيك فقط، بل أن تغير في الواقع. وحتى ذلك الحين، ربما سينتظر سياسيو أوروبا مؤرخيهم إذا ما كانوا سيبتّون فيما إذا كان ما يجري في غزة "إبادة جماعية" أم لا. ووسط كل هذه التراشقات والتجاذبات، تتعالى أصوات الجوعى، ثم تنهمر القذائف، فيخفت الصوت تدريجيا، لا لأن الجوع قد خف، ولكن لأن أصوات الجائعين قد قلّت.

مقالات مشابهة

  • اشتباكات مع الاحتلال في نابلس وساعر يدافع عن عنف المستوطنين
  • إنهاء معاناة مريضة أربعينية من مرض جلدي مزمن دام أكثر من 5 سنوات
  • هل استيقظ ضمير الغرب بعد استشهاد أكثر من 50 ألف فلسطيني؟
  • حماس: دعوات حاخامات المستوطنين لتكثيف اقتحامات الأقصى تستوجب النفير لحمايته
  • تنبأ بوفاته.. أهالي سمالوط بالمنيا يشيعون جثمان طالب غرق بنهر النيل| صور
  • مستوطنون إسرائيليون يقطعون أنابيب مياه في منطقة العوجا شمال أريحا
  • الاحتلال يقتل يقين.. الطفلة التي كانت تصوّر وجع غزة
  • فتوح يحذر من خطوة المجموعات الدينية اليهودية التي تطالب بفتح أبواب الأقصى
  • الأونروا: المساعدات التي تدخل غزة"إبرة في كومة قش" ولا وقت للانتظار أكثر
  • عشرات الآلاف يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى