من الصعب تقدير كلفة حرب وهي لا تزال دائرة، وبالطبع لا يُمكِن على الإطلاق تقييم الأرواح التي تزهق ولا تبعات الإصابات. حتَّى التدمير المادِّي للمنشآت وغيرها في ظلِّ الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على قِطاع غزَّة لا يُمكِن حساب كلفته. فقَدْ سُوِّيت أحياء بكاملها بالأرض، ناهيك عن الأضرار الإنسانيَّة والصحيَّة الناجمة عن الحصار الكامل لأكثر من مليونَي إنسان في مساحة ضيِّقة مِثل قِطاع غزَّة.
كان التأثير المباشر هو سرعة ضخِّ البنك المركزي الإسرائيلي عشرات مليارات الدولارات في السُّوق لدعم العملة الرسميَّة التي هوَتْ بشدَّة مقابل الدولار. وفي اليوم التالي لهجوم الفلسطينيِّين طرح البنك ما يصل إلى خمسين مليار دولار من الاحتياطيَّات الأجنبيَّة لدَيْه لوقفِ تدهوُر العملة. إلَّا أنَّ العملة واصلت الهبوط ما أدَّى إلى مزيدٍ من التدخل ببضعة مليارات أخرى. ذلك التأثير الأوَّلي المباشر على الاقتصاد الإسرائيلي، لكنَّ الكلفة النهائيَّة ربَّما تكُونُ أضعاف ذلك حين تُحصى كلفة التعبئة العامَّة وتراجع النشاط في قِطاعات متعدِّدة من الاقتصاد من السِّياحة إلى الطيران وغيره. ولأنَّه لا يوجد اقتصاد دَولة للفلسطينيِّين، فيصعب على الاقتصاديِّين ومُحلِّلي السُّوق تقدير أيِّ خسائر مباشرة مِثل تلك التي تعرَّضت لها «إسرائيل». لَمْ تقتصر الخسائر المباشرة، التي يُمكِن حسابها على الفَوْر من الأسواق، على «إسرائيل» والفلسطينيِّين بل تردَّد صداها في دوَل الجوار وحتَّى الاقتصاد العالَمي كُلِّه.
كان أهمّ ردِّ فعل هو ما شهدته أسواق السندات في دوَل مِثل مصر والأردن، وتعطُّل عمليَّة إعادة جدولة ديون لبنان التي تخلَّف عن سدادها قَبل نَحْوِ ثلاث سنوات. ومع ما تعانيه مصر والأردن من مُشْكلة ديون كبيرة، ارتفع العائد على سندات الدَّيْن السِّيادي للبَلدَيْنِ بشدَّة مع بداية الحرب، وزاد التدهوُر مع قرب نهاية الأسبوع مع الهجوم الضَّاري لـ»إسرائيل» على غزَّة ومخاوف الأسواق من احتمال اتساع رقعة الحرب في المنطقة لتنسكبَ على دوَل الجوار. وشهدت أسواق السندات عمليَّات بيع كبيرة لسندات الدَّيْن السِّيادي الدولاريَّة للبَلدَيْنِ، ما أدَّى إلى هبوط سعرها بشدَّة وارتفاع نسبة العائد عَلَيْها. ووصل سعر سندات الدَّيْن السِّيادي المستحقَّة بعد نهاية العقد الحالي إلى ما يقرب من نصف قِيمتها. بَيْنَما اقتربت نسبة العائد على بعضها من حاجز عشرة في المئة، وهو ما يضاعف من أزمة خدمة الدَّيْن لكلا البَلدَيْنِ. كما أنَّه يُصعِّب مُهمَّة مصر في إعادة تمويل ديون بالمليارات لإطالة أمَدِ استحقاقها.
هذا الضَّرر الذي لحقَ بالسندات المصريَّة والأردنيَّة واضطراب سُوق السندات في دوَل الجوار، قابلَه تحسُّن في سُوق سندات الخزانة الأميركيَّة الذي شهد تدهورًا شديدًا في الأسابيع السابقة. فمع مطلع أسبوع التداول الماضي، أقْبَلَ المستثمرون على شراء سندات الخزانة الأميركيَّة كملاذٍ آمنٍ بعدما كانت عمليَّات البيع الهائلة شِبه يوميَّة. وأدَّت عودة الإقبال على الشراء إلى ارتفاع أسعار سندات الخزانة الأميركيَّة والتراجع الطفيف في نسبة العائد عَلَيْها. لكنَّ الاضطراب في الاقتصاد العالَمي لَمْ يكُنْ فقط في سُوق السندات، بل إنَّ ارتفاع أسعار النفط وتجاوزها تسعين دولارًا للبرميل أعاد المخاوف من احتمال ارتفاع معدَّلات التضخُّم مجددًا. وحسب تقديرات الأسواق تقليديًّا فإنَّ ارتفاع أسعار النفط بنسبة عشرة في المئة يُمكِن أن يزيلَ نصف نقطة مئويَّة من نسبة نُموِّ الناتج المحلِّي الإجمالي العالَمي. يتضافر ذلك مع مؤشِّرات أخرى على أنَّ الاقتصاد العالَمي يُمكِن أن يتباطأَ أكثر، ومن بَيْنِ تلك المؤشِّرات استمرار مُشْكلة الدَّيْن العالَمي، خصوصًا مع رفع أسعار الفائدة من قِبَلِ البنوك المركزيَّة بغرض وقف ارتفاع معدَّلات التضخُّم.
حتَّى الآن، يبدو احتمال اتساع رقعة الحرب في المنطقة متواضعًا، لكنَّ الأزمات الكبرى تبدأ بشرارة صغيرة أحيانًا. ولأنَّ الشرر موجود، ليس أقلّه ما يخطف أرواح الفلسطينيِّين في غزَّة، فإنَّ كُلَّ شيء وارد. وإذا احتدَّ الصراع أو اتَّسعت رقعته فإنَّ أسعار النفط مرشَّحة للزيادة أكثر، وبالتَّالي انخفاض توقُّعات نُموِّ الاقتصاد العالَمي. تعتمد كلفة تأثير الحرب بالنسبة للأسواق والاقتصاد العالَمي على زمن ونطاق العمليَّات الحاليَّة. صحيح أنَّ عدد دوَل الخليج وغيرها التي طبَّعت العلاقات مع «إسرائيل» ازداد، لكنَّ الواقع الفعلي يظهر أنَّ العلاقات الاقتصاديَّة تتأثر أيضًا بالتوتُّرات الجيوسياسيَّة. وتبدو الآن مشروعات طموحة للتطوير والتنمية بالتعاون مع «إسرائيل»، على الأقلِّ مؤجلة إنْ لَمْ يكُنْ بعضها يتراجع بالفعل. ليس القصد هنا مشروعات التعاون الثنائي بَيْنَ «إسرائيل» والدوَل التي لدَيْها علاقات معها، وإنَّما حتَّى مشروعات إقليميَّة ودوليَّة طموحة دعمتها الولايات المُتَّحدة مِثل الممرِّ الاقتصادي الجديد.
وربَّما تستفيد من ذلك مشروعات أخرى منافسة مِثل مبادرة الحزام والطريق، كما استفادت سُوق السندات الأميركيَّة من الحرب بَيْنَما تضرَّرت المصريَّة والأردنيَّة. ومرَّة أخرى، كُلُّ تلك المليارات، ولا حتَّى التريليونات، لا تُساوي روحًا واحدة تُزهق بالطبع.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
من انتصر في الحرب: إسرائيل أم إيران؟
قبل الهجوم غير القانوني الذي شنّته إسرائيل على إيران، كان نطاق الاشتباك بين طهران وتل أبيب يُعرّف ضمن "المنطقة الرمادية"، أو ما يُعرف بالحرب غير المتكافئة. لكن منذ أسبوعين تغيرت المعادلة، وأصبحنا أمام مواجهة مباشرة بين هذين الفاعلين الإقليميين.
ففي فجر يوم الثالث عشر من يونيو/ حزيران 2025، أعلنت الحكومة الإسرائيلية، عبر بيان رسمي، أنها نفذت "ضربة استباقية" أطلقت عليها اسم "الأسد الصاعد"، استهدفت من خلالها مواقع حيوية كالمواقع النووية ووحدات الصواريخ والطائرات المسيّرة في نطنز وفوردو وخنداب وبارتشين.
بالتزامن، شنّ الجيش الإسرائيلي وجهاز الموساد عمليات اغتيال ضد كبار القادة العسكريين وبعض الشخصيات البارزة في البرنامج النووي الإيراني.
خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا بين طهران وتل أبيب، سقط ما لا يقل عن 610 ضحايا إيرانيين. وبحسب الجيش الإسرائيلي، فقد استُهدِف ما لا يقل عن 480 هدفًا إستراتيجيًا داخل إيران خلال هذه العمليات المفاجئة.
في المقابل، أعلنت القوات المسلحة الإيرانية بدء عملية "الوعد الصادق 3″، حيث أطلقت أكثر من 500 صاروخ على الأراضي المحتلة ضمن أكثر من 21 موجة هجومية. وأسفرت الهجمات الصاروخية الإيرانية عن مقتل 28 صهيونيًا، وإصابة 265 آخرين على الأقل.
وعقب عملية "بشائر الفتح" الإيرانية ضد قيادة "سنتكوم" الأميركية في قاعدة العديد، وردًا على عملية "مطرقة منتصف الليل"، بدأت الولايات المتحدة بمساعدة قطر جهود وساطة بين إيران وإسرائيل، وأعلن ترامب عبر منشور على منصة "تروث سوشيال" عن التوصل إلى هدنة بين الطرفين.
والسؤال الحاسم بعد إعلان هذه الهدنة النسبية في المنطقة: هل ستُستأنف الحرب بين إيران وإسرائيل من جديد؟
أهداف إسرائيلبعد دقائق من الهجوم واسع النطاق على أهداف عسكرية ومدنية داخل إيران، أعلن كل من بنيامين نتنياهو، ويسرائيل كاتس، وجدعون ساعر، الأقطاب الرئيسيين في الحكومة الإسرائيلية، أن هدف الحرب هو تدمير البرنامج النووي والصواريخ الباليستية الإيرانية.
إعلانرغم أن الحكومة الإسرائيلية حاولت عبر المنابر الرسمية إظهار تلك الأهداف على أنها الأجندة الرئيسية للجيش وأجهزة الاستخبارات، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى أن اليمين الصهيوني يسعى لتحقيق أهداف أكثر طموحًا.
فقد ضخت إسرائيل كمًا هائلًا من الدعاية؛ بهدف تحريض الشعب الإيراني على التمرد وتغيير النظام القائم في طهران، مما يُظهر سعيها لتغيير وجه الشرق الأوسط. لكن الشعب الإيراني، بإظهاره وحدة وطنية واضحة في مواجهة العدو الخارجي، لم يتجاوب مع هذا المشروع الإسرائيلي- الأميركي.
وبعد انتهاء الحرب، أعلنت إسرائيل أنها دمرت 50% من منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، واستهدفت 35 مركزًا لتصنيع الصواريخ، واغتالت 11 عالمًا نوويًا.
ورغم مزاعم "النصر العظيم" من قبل المسؤولين الإسرائيليين، فإن الوقائع تشير إلى أن إسرائيل اكتفت بتوجيه ضربات محدودة إلى البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين. فقد أظهرت استطلاعات رأي، مثل ما نشرته صحيفة "معاريف"، أن 65% من سكان الأراضي المحتلة لا يرون أن إسرائيل حققت نصرًا واضحًا.
أهداف إيرانخلال الحرب التي استمرت 12 يومًا، أعلنت طهران أن أهم أهدافها كانت "الرد الفعال على العدوان"، و"حماية الأصول الإستراتيجية"، و"معاقبة المعتدي بهدف استعادة الردع".
وأكد اللواء موسوي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، أن العمليات المنفذة حتى الآن كانت تحذيرية لردع العدو، وأن العملية العقابية الحاسمة قادمة.
عمليًا، وبسبب استهداف إسرائيل منظومات الدفاع الجوي والراداري الإيرانية، وعمليات التخريب التي نفذها عملاء الموساد، ركزت طهران على الهجوم وضرب مراكز إستراتيجية في الأراضي المحتلة، مثل: قاعدة نيفاتيم الجوية، قاعدة عودا الجوية، قاعدة رامون العسكرية، المقر المركزي للموساد، ومصفاة نفط حيفا.
"تجميد التوتر".. العودة إلى طاولة المفاوضاتمع إعلان الهدنة بين إيران وإسرائيل، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومبعوثه الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف عن محادثات غير رسمية مع طهران لإحياء المفاوضات النووية.
ويبدو أن واشنطن قدمت بعض الحوافز، كرفع جزئي للعقوبات، لا سيما بيع النفط للصين. وقد ذكرت شركة "Kpler" أن صادرات إيران النفطية بلغت 2.2 مليون برميل يوميًا، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 2.4 مليون قريبًا.
وفيما بعد، كشفت "CNN" عن عرض أميركي بقيمة 30 مليار دولار لإنشاء برنامج نووي سلمي مقابل تخلي إيران عن التخصيب. رغم اهتمام البيت الأبيض بإبرام اتفاق نووي، فقد نفى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقابلة مع التلفزيون الإيراني وجود أي خطط لاستئناف المفاوضات.
وتُظهر تقارير وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية أن المنشآت النووية الإيرانية لم تُدمَّر بالكامل، وهناك 400 كيلوغرام من اليورانيوم العالي التخصيب لا يزال مصيرها مجهولًا. وبالتالي، فإن العودة إلى المفاوضات باتت شبه حتمية، ما لم تستأنف إسرائيل مغامراتها العسكرية مجددًا.
"تراجع تكتيكي" وفتح "صندوق باندورا" من جديدخلال قمة الناتو في هولندا، تحدث دونالد ترامب صراحة عن "الضربات القاسية" التي تعرضت لها إسرائيل جراء الهجمات الصاروخية. بالتوازي، تحدثت بعض المصادر عن محدودية مخزون الدفاعات الجوية الإسرائيلية لمواجهة هجمات إيرانية طويلة الأمد، وهو ما نفاه الجيش الإسرائيلي مرارًا.
إعلانفي هذا السيناريو، قد تلجأ إسرائيل بعد إعادة بناء قدراتها العسكرية وتحديث تقييماتها الاستخباراتية لجولة جديدة من الهجمات بذريعة استمرار التهديد النووي والصاروخي الإيراني.
ويبدو أن النخبة السياسية والعسكرية والاستخباراتية في إيران تتعامل مع احتمال استئناف الحرب على المدى القصير بواقعية، وهو ما تعززه التجارب السابقة في لبنان وسوريا، بالإضافة إلى عدم تحقيق إسرائيل أهدافها بالكامل خلال الحرب الأخيرة.
العودة إلى المنطقة الرمادية: لا حرب ولا سلمحتى قبل الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من أبريل/ نيسان 2024، كان الصراع بين إيران وإسرائيل يدور ضمن "المنطقة الرمادية"، حيث كان الطرفان يتجنبان الحرب المباشرة والشاملة. لكن الحرب الشاملة من 13 إلى 25 يونيو/ حزيران 2025 دفعت بعض خبراء العلاقات الدولية إلى القول إن العودة إلى المنطقة الرمادية لم تعد ممكنة.
غير أن فريقًا آخر يرى أنه في حال فشلت المفاوضات المحتملة بين إيران والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه لم تكن إسرائيل راغبة بخوض حرب جديدة، فإن الطرفين قد يعودان إلى استخدام أدوات "الحرب غير المتكافئة" من خلال العمليات الاستخباراتية، الحملات الدبلوماسية، الاستفادة من الحلفاء الإقليميين، أو توظيف الأدوات الاقتصادية.
حرب على مستقبل الشرق الأوسطالمنتصر في الحرب بين إيران وإسرائيل سيكون له دور حاسم في "إعادة تشكيل" النظام الإقليمي في غرب آسيا. ولعل فهم مكانة عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في خريطة التنافس الجيوستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، يوضح هذا التوجه.
فإسرائيل، باعتبارها الحليف الإستراتيجي لأميركا في شرق المتوسط، تسعى إلى إزالة محور المقاومة من معادلة المنطقة، تمهيدًا لتفعيل ممر "الهند – الشرق الأوسط – أوروبا" (IMEC) واحتواء النفوذ الصيني والروسي في شمال المحيط الهندي.
وتزايد الحديث عن نهاية محتملة لحرب غزة، وتوسيع اتفاقيات "أبراهام" لتشمل السعودية وسوريا يعكس خطة مشتركة بين ترامب ونتنياهو لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline