الزراعة الفضائية.. هل يمكن تأمين طعام طازج على القمر والمريخ؟
تاريخ النشر: 27th, October 2023 GMT
عندما تخطط وكالات الفضاء العالمية لإرسال بعثات إلى القمر والمريخ، فإن التحدي الرئيسي هو إيجاد حل لإطعام أفراد الطاقم خلال الأسابيع والأشهر، وحتى السنوات التي يقضونها في الفضاء.
ويتناول رواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية في المقام الأول الأطعمة المعبأة، والتي تتطلب إعادة إمداد منتظمة ويمكن أن تتدهور جودتها وتغذيتها، فضلا عن أن إرسالها مكلف للغاية، ويستكشف الباحثون فكرة قيام الطواقم بزراعة بعض طعامهم أثناء المهمة، عن طريق التغلب على بعض مشاكل الزراعة الفضائية.
ويقول راجكومار حساماني، من معهد التكنولوجيا الحيوية الزراعية بجامعة العلوم الزراعية بالهند -في تصريحات للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني- إنه وفقا لوكالة ناسا، فإن "شحن كيلوغرام واحد من المواد الغذائية المعبأة إلى محطة الفضاء الدولية، يكلف ما بين 20 إلى 40 ألف دولار، وسيحتاج كل طاقم إلى 1.8 كيلوغرام (من بينها مواد التعبئة) يوميا، وحيث إن محطة الفضاء الدولية تبعد نحو 400 كيلومتر عن سطح الأرض، فيمكن الآن تخيل تكلفة وصعوبة إرسال أغذية معبأة إلى القمر والمريخ".
وأضاف حساماني أنه "وفقا لأحد التقديرات، يتطلب طاقم مكون من 4 أفراد يذهبون إلى المريخ في رحلة مدتها 3 سنوات ما بين 10 إلى 12 ألف كيلوغرام من الطعام، وهو أمر مستحيل لوجيستيا وغير قابل للتطبيق اقتصاديا على الإطلاق، وبالتالي، يعد إنتاج الغذاء داخل سفينة الفضاء أو سطح الكوكب أمرا ضروريا لمهام استكشاف الفضاء طويلة المدى".
وحتى يمكن إنتاج الغذاء في الفضاء، فإن هناك تحديين رئيسيين، يشير إليهما حساماني، وهما بناء نظام بيئي قوي وفعال يدعم نمو النباتات، وتحسين المحاصيل للتكيف مع البيئة الخاضعة للرقابة، حيث يمكن ضبط التمثيل الغذائي للنبات لتلبية مجموعة واسعة ومتغيرة من الاحتياجات.
ويوضح أن هناك بعض القيود المادية، التي تهيمن على رحلات الفضاء، وعلى أسطح الكواكب، في ما يتعلق بالتحدي الأول، ومن ثم من المهم أخذها في الاعتبار، مثل الطاقة، الماء، الضوء، درجة الحرارة، التحكم في الغلاف الجوي، إستراتيجيات تقليل النفايات، وتكلفة بناء الموائل التي يمكن أن تدعم نمو النبات.
يقول حساماني "هذه مشاكل هندسية، نجحنا بشكل جيد إلى حد ما في معالجتها لدعم نمو النبات في الفضاء، وعلى سبيل المثال، فإن مشروع نظام إنتاج الخضروات "فيجي"، التابع لناسا الموجود حاليا على محطة الفضاء الدولية، هو دليل على ذلك".
ومشروع نظام إنتاج الخضروات، الغرض منه توفير مصدر غذائي مكتف ذاتيا ومستدام لرواد الفضاء، بالإضافة إلى وسيلة للترفيه والاسترخاء من خلال الحدائق العلاجية.
والشاغل الرئيسي الذي تعمل عليه الفرق البحثية حول العالم حاليا، هو القيود الفسيولوجية التي تتعلق بالتحدي الثاني، والتي سيتم مواجهتها أثناء رحلات الفضاء، أو على أسطح الكواكب، وتدور الأبحاث حول هذه القيود، ومنها على سبيل المثال:
ارتفاع مستوى ثاني أكسيد الكربون، والحاجة إلى تصميم حل يسمح بتحمل ذلك المستوى المرتفع. مناطق استنفاد الأكسجين المحلية شديدة الانحدار، مما يؤدي إلى حالة نقص الأكسجين، فهل يمكننا تطوير نباتات يمكنها مكافحة انخفاض مستوى الأكسجين بكفاءة؟ تحسين بنية النبات، فهل من الممكن تطوير نمط أقل جذرية، حتى نتمكن من تكديس طبقات متعددة في مساحة صغيرة؟ تلف الحمض النووي وخلل الميتوكوندريا المتفشي في حالة رحلات الفضاء. إعادة التشكيل الشاملة للجدار الخلوي والتغييرات في تركيب وبنية السكريات ستؤثر بشكل مباشر على صحة الجهاز الهضمي لرواد الفضاء، فهل يمكننا تصميم نباتات ذات ألياف غذائية عالية لرواد الفضاء؟ فقدان مذاق الوجبة وملمسها وطعمها ونكهتها، فالشعور بالملل من قائمة الطعام مشكلة شائعة بين رواد الفضاء، فكيف يمكننا تقليل الشعور بالملل من القائمة؟ فقدان العديد من المعادن والمواد الكيميائية النباتية في الفضاء، فكيف يمكنك تجميع هذه المعادن والمواد الكيميائية النباتية والمغذيات الدقيقة في النبات نفسه لدعم الاحتياجات الغذائية لرواد الفضاء؟ويقول حساماني "يعالج مختبرنا ومختبرات أخرى في العالم هذه الأسئلة، ونحن نعتقد أن من شأن أدوات التكنولوجيا الحيوية والبيولوجيا التركيبية والهندسة الأيضية أن تساعد في الإجابة عنها، وتصميم النباتات للزراعة الفضائية".
من جانبه، تحدث خافيير ميدينا، الذي يقود فرقة بحثية من مركز مارغريتا سالاس للأبحاث البيولوجية في إسبانيا، عن عدة مزايا للزراعة الفضائية، تتجاوز الدعم لغذائي لرواد الفضاء.
وقال ميدينا في تصريح للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني "يمكن للنباتات أن تؤدي دورا حاسما، في المقام الأول كغذاء عالي الجودة، إذ تزود رواد الفضاء بالعديد من العناصر الغذائية الأساسية، عبر توفير الأطعمة الطازجة، بدلا من عبوات المنتجات المجففة بالتجميد التي يستهلكونها حاليا، علاوة على ذلك، تسهم النباتات في جوانب أخرى من دعم الحياة من خلال توفير الأكسجين والرطوبة وإزالة ثاني أكسيد الكربون، وهو نتاج نفايات حياة الإنسان".
ولتسهيل الزراعة الفضائية التي تحقق هذه الأغراض، شارك ميدينا في سلسلة من التجارب في محطة الفضاء الدولية، لدراسة آثار غياب الجاذبية (الجاذبية الصفرية أو الجاذبية الصغرى) على نمو النبات وتطوره واستكشاف آليات تكيف النبات مع البيئة الفضائية التي يمكن أن تساعد على زراعة النباتات في هذه الظروف.
ويوضح أن "الجاذبية تعد عاملا بيئيا أساسيا للنباتات، لأنه يحدد اتجاه نمو النبات، على وجه التحديد، حيث تتسبب الجاذبية في نمو الجذور للأسفل (باتجاه التربة، التي تأخذ منها الماء والأملاح المعدنية)، وتنمو السيقان للأعلى (باتجاه ضوء الشمس، الضروري لعملية التمثيل الضوئي)، وهذا ما يسمى استجابة الجاذبية، ويتم قمعها تحت الجاذبية الصفرية، في حين يمكن للنباتات البقاء على قيد الحياة والنمو في بيئة الرحلات الفضائية ذات الجاذبية الصغرى".
ويضيف أنه "على الرغم من أننا وجدنا أن الجاذبية الصغرى تسبب تأثيرات ضارة على نمو النبات، مثل عدم توازن نمو الخلايا والتكاثر في الجذور، أو إعادة برمجة كبيرة للتعبير الجيني، والتي يتم من خلالها قمع بعض الجينات، ويتم تفعيل البعض الآخر، فإن حقيقة أن النباتات قادرة على البقاء وإكمال دورة الحياة في ظل الجاذبية الصغرى، تعني أن النباتات تملك آليات التكيف مع هذه الظروف البيئية الجديدة، ويتمثل أحد التحديات البحثية الرئيسية في تحديد الإشارات البيئية، مثل الضوء، التي يمكن أن تعوض الآثار السلبية للجاذبية الصغرى، ومن ثم تسهيل تكيف النبات".
وكان المشروع البحثي "نمو الشتلات" التابع لناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، والذي شارك فيه ميدينا، ويتكون من سلسلة من تجارب رحلات الفضاء على محطة الفضاء الدولية (2013-2018)، قد كشف عن تأثير إيجابي للتنشيط بالضوء الأحمر في مواجهة الضغط الناتج عن رحلات الفضاء.
وقد تمت مقارنة العلامات الخلوية والجزيئية المختلفة للنباتات في ظل الجاذبية الصغرى، ومستويات جاذبية القمر والمريخ، والجاذبية الأرضية، مع أو بدون التنشيط بالضوء الأحمر، فوجد الباحثون أن الضوء الأحمر أعاد التوازن بين تكاثر الخلايا ونمو الجذور، وهو أمر ضروري لتطور دقيق للنبات بأكمله، وأظهرت تعديلات التعبير الجيني استجابات تكيفية مختلفة لمستويات الجاذبية المختلفة، من بينها تغييرات في تنظيم مجموعات مختلفة من الجينات، وفي الحالات جميعها، بدا أنها معدلة عن طريق التنشيط بالضوء الأحمر.
يقول ميدينا "كانت الخلاصة أن جاذبية القمر يمكن أن تنتج تأثيرات أكثر خطورة في رحلات الفضاء، لكن جاذبية المريخ أظهرت تغييرا أكثر اعتدالا من الجاذبية الصغرى، وفي جميع الحالات، ظهرت الاستجابة التكيفية معززة بالتحفيز الضوئي للضوء الأحمر".
وتقود هذه الأبحاث إلى توفير غذاء طازج لرواد الفضاء في رحلاتهم إلى القمر والمريخ، لكن مثل هذه الأبحاث ينظر إليها بعض الأشخاص باعتبارها "رفاهية"، وليست ذات قيمة عملية، وهو ما يرفضه الباحثان.
يقول ميدينا "أبحاث الفضاء تنتج عوائد مهمة جدا تتعلق بحياة الإنسان على الأرض، مما يسهم في تحسين حياتنا اليومية على كوكبنا، على سبيل المثال، نشأت سلسلة طويلة من التطورات التكنولوجية، مثل الأجهزة الإلكترونية والتقدم في مجال الاتصالات، من أبحاث الفضاء، واستفاد التقدم الطبي الموجه نحو مكافحة الأمراض من التجارب الفضائية، مثل الأمراض المرتبطة بالشيخوخة، وأمراض العضلات والهيكل العظمي، والتغيرات القلبية الوعائية والمناعية، ومن خلال التعامل على وجه التحديد مع بيولوجيا النبات والزراعة".
ويضيف "أنتجت أبحاث الفضاء تقدما كبيرا في معرفتنا باستجابة النبات ضد أنواع مختلفة من الضغوط، وكذلك في إجراءات زراعة النباتات، بحثا عن زراعة أكثر كفاءة واستدامة، ويعد تطبيق هذه التطورات على الأرض أمرا حاسما في سياقنا الحالي لتغير المناخ، إذ نحتاج إلى تغيير نماذجنا لاستخدام النباتات لغذاء الإنسان على الأرض".
ويركز حساماني على ترجمة نتائج أبحاث الزراعة الفضائية، لتطبيقات مباشرة على الزراعة الأرضية، وحصرها في النقاط التالية:
ستساعد أبحاث الزراعة الفضائية في تطوير التقنيات التي يمكن أن تكون مفيدة لمفهوم الاقتصاد الزراعي الدائري، إذ يمكن أن يكون هدر الموارد في حده الأدنى أو صفرا، وهذا له آثار مباشرة على الزراعة المحمية على الأرض. التربية في الفضاء، هو تطبيق آخر جاء مباشرة من أبحاث الزراعة الفضائية، ولدى الصين برنامج مخصص للتربية في الفضاء يساعد على تطوير أصناف أفضل بإنتاجية عالية ومقاومة للأمراض، وما إلى ذلك. سرعة التكاثر، هي نتيجة فرعية أخرى تساعد مربي النباتات على تطوير أصناف أفضل بسرعة، مما يقلل الوقت اللازم لتربية أصناف جديدة.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: محطة الفضاء الدولیة الجاذبیة الصغرى القمر والمریخ رحلات الفضاء لرواد الفضاء أبحاث الفضاء التی یمکن أن على الأرض فی الفضاء من خلال
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن الاستدلال على صحة الجسم عن طريق مُخاط الأنف؟
كان الإغريق يعتقدون أن المُخاط الأنفيّ هو أحد أربعة إفرازات سائلة مسؤولة عن صحة الجسم واعتدال المزاج.
ووضع أبقراط، أبو الطب، نظرية الأخلاط الأربعة: وهي الدم، والبلغم، والمِرّة الصفراء والمِرّة السوداء.
وكان الاعتقاد أن التوازُن بين هذه الأخلاط الأربعة هو الذي يقرّر صحة الجسم واعتدال المزاج؛ فيما يهاجم المرض الجسم ويعتلّ المزاج جرّاء زيادة أحد هذه الأخلاط أو نُقصانه.
ونحن اليوم، نعرف أن المخاط الأنفيّ ليس له تأثير على أمزجة الناس أو طبائعها ولا هو يسبب الأمراض، وإنما يساعد المخاط في الحماية من الأمراض.
ولا نَخالُ أحداً يحب منظَر سيلان الأنف أو رَذاذ المُخاط في أركان الغُرَف بسبب العُطاس، على أن هذا المُخاط الموجود في ممراتنا الأنفية يُعتبر بحقّ أحد عجائب الجسم البشري!
ويكفي أن نعرف أن هذا المخاط يحمينا من الأخطار الدخيلة، وإن له تركيبة فريدة يمكن عبر تحليلها الكشف عمّا يجري داخل أجسامنا.
والآن، يحاول العلماء تسخير هذه القوى التي يتمتع بها المُخاط، من أجل الوصول إلى تشخيص أصحّ ومن ثم علاج أفضل لكل الأمراض -بداية من كوفيد19 ووصولاً إلى الأمراض الرئوية المزمنة.
إن هذه المادة اللزجة تبطّن المَمرّات في أنوفنا، وترطّبها، وتنصب أشراكاً للبكتيريا والفيروسات واللقاحات والغُبار وغيرها من الأجسام الخارجية الدخيلة.
وتقوم مئات الشعيرات بمساعدة هذه المادة اللزجة (المخاط) لتعمل جميعاً كحائط صدّ بين العالم الخارجي وجسم الإنسان.
يفرز جسم الإنسان البالغ أكثر من 100 مليلتر من المخاط على مدار اليوم، بينما يميل الأطفال إلى إفراز كمية أكبر من المخاط، وفق ما تقول دانييلا فيريرا، أستاذة أمراض الجهاز التنفسي واللقاحات بجامعة أكسفورد في المملكة المتحدة.
وبنظرة بسيطة، يمكن من لون المخاط وتركيبته الاستدلال على شيء مما يجري في داخل أجسامنا؛ ذلك أن المخاط أشبه بمقياس حراريّ مرئيّ.
ومن ذلك، أن سيلان الأنف ذا المخاط الشفاف يدلّ على أن الجسم يحاول طرد شيء يهيّج الجيوب الأنفية- لقاحٍ أو غبار على سبيل المثال.
بينما يدلّ المخاط الأبيض على أن أحد الفيروسات ربما دخل الجسم؛ فاللون الأبيض ناتج عن احتشاد خلايا الدم البيضاء لمواجهة هذا الدخيل- الفيروس على سبيل المثال.
وعندما يكون لون المخاط أخضر مُصفرّاً فإنما يكون ذلك تراكُماً لخلايا دم بيضاء ميّتة بعد أن احتشدت بأعداد ضخمة واندفعت للخارج.
أمّا إذا اصطبغ المخاط باللون الأحمر أو الوردي، فقد يكون ذلك دليلاً على أنك نزفت من أنفك بينما تحاول تنظيفه بشدّة.
ومن هنا فإن إلقاء نظرة على المخاط يعدّ أول خطوة.
من الناحية الفنية، لم يكن أبقراط مُخطئًا تماماً عندما افترض أن المخاط يُسبب المرض. يُمثل المخاط حاجزاً واقيًا للأنف، ولكنه يُساعد البكتيريا والفيروسات على الانتشار عند سيلان الأنف، كما تقول الباحثة فيريرا. نمسح وجوهنا، نلمس الأشياء، نعطس، ونلقي المخاط دون قصد إلى الجانب الآخر من الغرفة.
عندما نُصاب بمُسببات أمراض الجهاز التنفسي، يُستغل المخاط كوسيلة لتكاثر البكتيريا والفيروسات وانتقالها، فننشرها إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. لذا، فهو في الواقع يُساعد على إصابة الآخرين بالمرض.
ولكلّ مُخاط تركيبته الفريدة من البكتيريا. ويعتقد العلماء أن هذه التركيبة مرتبطة بقوة بصحة الإنسان وبالأداء الوظيفي الجيد للجهاز المناعي.
وتتأثر التركيبة المخاطية لكل شخص بعدد من العناصر، كالجنس، والعمر، والموقع، ونظام الأكل- بل وحتى بما إذا كان الشخصيُدخّن السجائر الإلكترونية.
وتساعد هذه التركيبة الفريدة في التصدّي للأجسام الدخيلة. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أُجريت عام 2024 أن بقاء بكتيريا المكورات العنقودية الضارة المحتملة في الأنف وإصابة الشخص، مسببةً الحمى والخراجات المليئة بالقيح، يعتمد على كيفية احتفاظ بكتيريا (ميكروبيوم) المخاط بالحديد.
وتعكف الباحثة دانييلا فيريرا، وهي أستاذة أمراض الجهاز التنفسي واللقاحات بجامعة أكسفورد، على معرفة “التركيبة الصحية المثالية للمخاط”.
وعبر الوقوف على هذه التركيبة المثالية، تطمح دانييلا إلى تطوير ما يشبه البخّاخ الأنفي الذي يمكن استخدامه يومياً لتحسين تركيبة المخاط الأنفي للأشخاص المصابين.
تقول دانييلا: “لنتخيّل أننا استبدلنا بما في داخل أنوفنا مخُاطاً يحتوي على تركيبة مثالية قادرة على التصدّي بقوة للأجسام الدخيلة التي تتسبب في المرض!”.
وانتقى فريق من الباحثين تقوده دانييلا، باقة من بكتيريا المخاط، يعتقدون أنها تركيبة مثالية.
ويقوم الفريق الآن باختبار تلك التركيبات المخاطية التي يعتقدون أنها مثالية للوقوف على مدى قدرتها على البقاء في أنوف بديلة (غير أنوف أصحابها الأصليين) لفترات طويلة بما يكفي لتحسين صحة أصحاب هذه الأنوف.
وترتبط هذه التركيبة المخاطية الفريدة بجهاز مناعة الجسم، ولذلك يسعى فريق الباحثين إلى الوقوف على طريقة لتعزيز الجهاز المناعي وجعْله أكثر تقبُّلاً للقاحات.
تشير الأبحاث إلى أن كيفية تفاعل الجسم مع اللقاح تتغير بنوع الميكروبيوم الذي يمتلكه الشخص. على سبيل المثال، تشير الدراسات التي أُجريت على لقاح كوفيد19 إلى أنه أثر على ميكروبيوم المخاط، وبالتالي، أثر الميكروبيوم على مدى فعالية اللقاح.
وتقول فيريرا: “كانت لقاحات كوفيد19 فعّالة في منع إصابتنا بالمرض، لكننا استمرينا في نقل الفيروس”. وتضيف: “يمكننا في الواقع تطوير لقاحات أفضل بكثير بحيث لا يُصاب الجيل القادم بالمرض، سواءً كان كوفيد19 أو الإنفلونزا أو أي فيروسات تنفسية أخرى- وكل ذلك يكمن في مناعة المخاط”.
ويعتقد الباحثون أن الطريقة التي يتعاطى بها الجسم مع اللقاح تتغير بتغيُّر نوع التركيبة الميكروبية الفريدة التي ينطوي عليها هذا الجسم.
وتقدّر دانييلا أن عملية التوصّل إلى التركيبة الدقيقة لذلك المخاط المثالي المرتقَب قد تستغرق بضعة سنوات.
لكن في السويد، قام باحثون بالفعل بزرع مخاط خاص بشخص موفور الصحة في أنف شخص آخر يعاني التهاب الجيوب الأنفية المزمن.
وطلب الباحثون من 22 شخصا بالغاً بأن يفرّغ كل منهم في أنفه حُقنةً مليئة بمُخاط شخص يتمتع بصحة جيدة، لمدة خمسة أيام.
ولاحظ الباحثون أن أعراضاً كالسُعال وآلام الوجه، لدى 16 من هؤلاء المرضى الـ 22، قد خفّت بنسبة تتعدى 40 في المئة لما يزيد على ثلاثة أشهر.
وفي ذلك، يقول قائد الفريق، أنْدِرس مارتنسون، استشاري طب الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى ساهلغرينسكا الجامعي في السويد: “كانت تلك أخبار عظيمة بالنسبة إلينا، ولم نكتشف أي أعراض جانبية”.
ويشير مارتنسون إلى أن هذه التجارب استفادت من تجارب معملية سابقة خاصة بالميكروبيم الخاص بالأمعاء.
على أن هذه التجارب الرائدة، لم تمدّنا بالمعلومات الكافية عن “كيف تغيّرت التركيبات المُخاطية لدى هؤلاء المرضى بعد زرع مخاط أشخاص آخرين في أنوفهم؟”، ومن ثم تجري الآن تجارب أخرى أكثر دقة.
في الواقع، فإن المخاط يمكن أن يمثل حائط صدّ كبير أمام الأمراض المزمنة التي تصيب الأنف والرئة.
وتعكف الباحثة جنيفر موليغان، أخصائية الأنف والأذن والحنجرة بجامعة فلوريدا، على استخدام المُخاط لتشخيص أولئك الذين يعانون من التهابات الجيوب الأنفية المزمنة والأورام الأنفية الحميدة- وهي أمراض تعاني منها نسبة تتراوح بين 5 إلى 12 في المئة من سكان العالم.
وتوصّلت جنيفر إلى أنه يمكن الاستعانة بالمخاط للوقوف بدقّة على يحدث داخل جسم المصاب بالتهاب الجيوب الأنفية.
“نستخدم المخاط للتوصّل إلى المذنب الحقيقي، الذي يقف وراء هذه الأعراض”، بحسب جنيفر التي تضيف أن لكل مريض مَلَفاً تعريفياً يختلف اختلافاً طفيفاً عن غيره، يقف وراء التهاب جيوبه الأنفية.
وتعتقد جنيفر أن تحليل المخاط كفيلٌ بتسريع مهمة الوصول إلى العلاج الصحيح أو الجراحة الصحيحة المطلوبة.
تُجرى حالياً العديد من التجارب السريرية لطريقة جنيفر حول العالم. وتعمل شركات ناشئة في مجال الصحة، مثل شركة (Diag-Nose)، التي أطلقها مهندسون في جامعة ستانفورد، على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لتحليل المخاط، وأجهزة حاصلة على براءات اختراع لأخذ عينات دقيقة من الأنف: في عام 2025، أطلقت أول جهاز معتمد من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية لأخذ عينات دقيقة من الأنف- وهو جهاز أخذ عينات يجمع كميات دقيقة من سوائل الأنف- لتقليل تباين الأبحاث من خلال توحيد أساليب أخذ العينات.
وتستخدم جنيفر هذه الطريقة في دراسة أسباب فقْد حاسة الشمّ لدى البعض. وبالفعل، وجد فريق الباحثين الذي تقوده جنيفر أن استخدام بخّاخ فيتامين دي يمكن أن يساعد في استعادة حاسة الشمّ، لا سيما لدى أولئك الذين فقدوها بسبب التهاب ناجم عن التدخين.
وتقول جنيفر أيضاً إن ما يحدث في الرئتين يحدث في الأنف، والعكس صحيح. لذا، يمكن استخدام هذه الأدوات التشخيصية والعلاجية لأمراض الرئة أيضاً. وتشير أبحاث جديدة إلى أنه من خلال تحليل كمية بروتين IL-26 الموجودة في مخاط المريض، يمكن للأطباء تحديد ما إذا كان الشخص أكثر أو أقل عرضة للإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن- وهو مرض شائع بين المدخنين، ورابع أكثر أسباب الوفاة انتشاراً في العالم. ومن خلال تحليل المخاط، يمكن تشخيص المرضى مبكراً وعلاجهم بسرعة.
وبالمثل، تعمل فرق بحثية حول العالم على تطوير أدوات وأساليب مماثلة لاستخدام المخاط للكشف عن الربو وسرطان الرئة ومرض الزهايمر ومرض باركنسون. ويمكن أيضاً استخدام المخاط لقياس التعرض للإشعاع، وتشير العديد من الدراسات الحديثة إلى أن السائل الأنفي اللزج يمكنه تحديد مدى تعرض الشخص للتلوث، مثل المعادن الثقيلة والجسيمات الدقيقة في الهواء.
لذلك تعتقد الباحثة جنيفر أن ما ينطبق على الأنف ينطبق كذلك على الرئة؛ ومن ثم فإن هذه الطريقة في التشخيص والعلاج يمكن تطبيقها كذلك مع الأمراض التي تصيب الرئتين.
وتأمل جنيفر أن تثمر هذه التجارب عن تغيير طريقة تشخيص المرضى في المستقبل وكذلك طريقة معالجتهم، قائلة إن “المُخاط هو مستقبل الطب الدقيق. أؤمن بذلك تماماً”.
صوفيا كواليا- بي بي سي عربي
إنضم لقناة النيلين على واتساب